نشرت صحيفة “إسرائيل هيوم” العبرية يوم الاثنين 11 ديسمبر/ كانون الأول 2023، نقلًا عن رئيس وزراء حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، قوله أمام إحدى اللجان العليا في الكنيست، إن السعودية والإمارات ستقومان بتمويل إعادة إعمار قطاع غزة بعد انتهاء الحرب والقضاء على حركة المقاومة الإسلامية حماس.
وتشير الصحيفة إلى أنه لم يتضح بعد الأساس الذي يقوم عليه ادّعاء نتنياهو، إذ إنه لم تقدم أي دولة خليجية نفطية أي إشارة علنية -حتى الآن- إلى أنها مستعدة لتولي مثل هذه المهمة، لكن هناك حالة من التفاؤل لدى الجانب الإسرائيلي بالتوصُّل إلى صفقات محتملة مع دول الخليج خلال مرحلة ما بعد الحرب، بحسب الصحيفة.
التحدث الإسرائيلي باسم السعودية والإمارات لشكل مرحلة ما بعد الحرب متكرر، فقد سبقت هذه المرة تصريحات من هذا القبيل، دون أن يكون هناك رد رسمي من قبل حكومتَي الرياض وأبوظبي، الأمر الذي يفتح الباب أمام الكثير من التكهُّنات التي قد ترجّحها حزمة من المؤشرات والدلائل المتعلقة بردود فعل الدولتَين على المستويين الرسمي والشعبي، منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي وحتى اليوم.
רה"מ נתניהו בוועדת חוץ וביטחון: "שיקום רצועת עזה ימומן בידי סעודיה ואיחוד האמירויות"
— ישראל היום (@IsraelHayomHeb) December 11, 2023
صفقات مع دول الخليج لإعمار غزة
التقرير الذي نشرته “إسرائيل هيوم” يشير إلى أن نتنياهو يصرّ على البناء على اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية والإسلامية بعد الحرب، وأنه مصمّم على المضيّ قدمًا في تعزيز العلاقات مع السعودية وغيرها من بلدان المنطقة، رغم الحرب في غزة وما أفرزته من أجواء صعبة.
وبحسب ما تسرّب من شهادات لرئيس الحكومة العبرية، فإنه سيسعى إلى إبرام صفقات مع دول الخليج، بما في ذلك السعودية، والتي سوف “يسخّرها” لدعم إعادة إعمار غزة، بحسب الصحيفة التي استعرضت رؤية حكومة الحرب بشأن مستقبل القطاع ما بعد الحرب.
وتتمثل الخطوة الأولى في تلك الرؤية بهزيمة حماس وبقية فصائل المقاومة، تليها مرحلة إعادة تأهيل القطاع، حيث يعتقد نتنياهو أن الدولتَين النفطيتَين ستدعمان ذلك بشكل كبير، في محاولة لتأهيل غزة من أجل أن تحكمها سلطة مدنية على الأرجح تكون السلطة الفلسطينية، وفق شروط ومعايير مغايرة لما كانت عليه في السابق.
وتشير الصحيفة إلى اعتراف بعض المسؤولين العرب سرًّا بدعمهم الكامل لمخطط دولة الاحتلال في إزالة الحركة الإسلامية من غزة، إلا أنهم في المقابل ينتقدون عدد الضحايا المدنيين في القطاع، مبررين ذلك بأنهم يخشون من أن يؤدي إلى زعزعة استقرار بلدانهم، حيث احتمالية أن يتصاعد الغضب الشعبي أمام تلك الخسائر الكبيرة في الأرواح من الأطفال والنساء.
إلى ماذا تشير تلك التصريحات؟
تكرار تلك التصريحات أكثر من مرة، وتزامنها مع التأكيد على استمرار مباحثات التطبيع رغم تجميدها مؤقتًا، وبحث آليات البناء على ما تحقق من تقدُّم في هذا المسار، رغم أجواء الحرب وما خلفته من خسائر وما كشفته من طبيعة المؤامرة على تصفية القضية الفلسطينية، يشير إلى عدة أهداف ورسائل تحاول دولة الاحتلال التأكيد عليها وإيصالها للشارع العربي والإسرائيلي والدولي بصفة عامة.
أولًا: التأكيد على تلاقي رغبة تل أبيب مع رغبات أبوظبي والرياض في القضاء على المقاومة في القطاع، وأنه لا مستقبل لغزة في ظل وجود حماس، وهي الرغبة التي كُشف عنها أكثر من مرة، وترجمتها حزم من ردود الفعل إزاء تلك الحرب منذ بدايتها.
ثانيًا: التشديد على أن الحرب الحالية رغم وحشيتها وإسقاطها لأكثر من 18 ألف شهيد في شهرَين، معظمهم من النساء والأطفال والعجزة، وتدمير أكثر من 60% من قطاع غزة، وانتفاضة العالم الحر والرأي العام الدولي لدعم الفلسطينيين في مواجهة هذا الإجرام الذي لم يعرفه العالم منذ الحرب العالمية الثانية، رغم كل ذلك فإن قطار التطبيع مستمر، ولن تعرقله كل تلك الأجواء التي من المفترض أن تدفع إلى نسف اتفاقيات التطبيع المبرمة فعليًّا مع الاحتلال، ناهيك عن تلك التي لم تبرم بعد.
ثالثًا: الإيحاء بأن العرب أنفسهم ليسوا على قلب رجل واحد في معركة التحرير والدفاع عن فلسطين، ففي الوقت الذي يتشبّث فيه المعسكر الغربي بدعم الاحتلال، يعاني الجدار العربي من تشقُّق وتفتُّت، وانقسام في المواقف والرؤى، وتبايُن في ردود الفعل إزاء الكيان المحتل رغم إجرامه، بما ينعكس سلبًا بطبيعة الحال على المقاومة والروح المعنوية للشارع الفلسطيني، وهو ما يصبّ في النهاية في صالح المخطط الاستعماري الصهيوني.
مؤشرات تثير الشك
رغم ما نشرته الصحيفة العبرية، لكن ليس هناك ما يؤكد أو ينفي تلك المعلومات بشأن تعمير السعودية والإمارات للقطاع بعد انتهاء الحرب، وتحمّلهما نيابة عن دولة الاحتلال ضريبة القصف الذي دمّر معظم البنية التحتية والبنيوية لغزة، وشرّد 80% من سكانها.
غير أنه وعلى الجانب الآخر، هناك حزمة من المؤشرات منذ بداية الحرب في 8 أكتوبر/ تشرين الأول، تثير الشكوك والريبة بشأن موقف البلدَين تجاه المقاومة والقضية الفلسطينية بصفة عامة، وصلت إلى حد التماهي مع الرواية الإسرائيلية في تفسيرها للأحداث.
أولًا: الهجوم على المقاومة وتبنّي الخطاب الإسرائيلي في شيطنة حماس.. منذ اليوم الأول للحرب والمنصات الإلكترونية السعودية الإماراتية تعزف على وتر الهجوم على حركة المقاومة الإسلامية وقادتها، وصلت إلى تشويه صورتهم واتهامهم بالخيانة والتآمر مع الاحتلال نظير مكاسب مادية يحصلون عليها مستقبلًا.
وتبنّت اللجان الإلكترونية خطابًا موحّدًا في شيطنة حماس، واتهامها بالتمويل من طهران، والتبعية للملالي في التوجهات والاستراتيجيات، وفي المقابل تبرير ما يقوم به الاحتلال من جرائم وانتهاكات، وأن حماس مسؤولة بشكل كامل عمّا وصلت إليه الأوضاع، بزعم أنها ما كان لها أن تقوم بما قامت به في ظل الفروق الكبيرة في الإمكانات بينها وبين الاحتلال، متجاهلين تجارب حركات التحرر الوطني في مختلف دول العالم على مرّ التاريخ.
– قادة #حماس يديرون حربهم الخاسرة من خارج قطاع #غزة غير آبهين بالقتل والتدمير ومعاناة الأهالي.
– #حماس انتهت ولا يمكن لها بعد اليوم إدارة #غزة مهما كانت المبررات.— عبدالله آل هتيلة (@ahatayla2020) December 11, 2023
وبالتوازي مع الخطاب الشعبي على منصات التواصل الاجتماعي، كان الإعلام السعودي الإماراتي (“العربية” و”سكاي نيوز عربية” تحديدًا) يسير على الدرب ذاته، حيث تبنّي السردية الإسرائيلية في الهجوم على حماس وتشويه رموزها، فعلى مدار اليومَين الماضيَين على سبيل المثال، بات المتحدث باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، الشغل الشاغل للبرامج التلفزيونية والمقالات والمنشورات على مختلف المنصات.
الاهتمام هنا ليس من قبيل الدور الذي يؤديه الرجل بحكم وظيفته، لكن تشويهًا ممنهجًا في شخصيته، والتهكم عليه، وسبابه ليل نهار، في خطاب موحّد كأنه موزّع على الجميع بشكل مقصود، ما يشي بأن ما يحدث هو مخطط متفق عليه وليس اجتهادًا شخصيًّا من هنا أو هناك.
"أنا بدي أوجه رسالتي لحكومة حماس حسبي الله عليكم.. إحنا ميه مش لاقيين يا السنوار اذا كنت تسمعنا".. انتقادات واسعة لحركة #حماس وصرخات مدوية من أهالي #غزة بسرعة وقف الحرب#العربية pic.twitter.com/tpGjW8mJDJ
— العربية (@AlArabiya) December 7, 2023
ثانيًا: خذلان الموقف الرسمي.. المواقف الرسمية هي الأخرى جاءت صادمة للشارع العربي والفلسطيني، فبينما كان يتوقع البعض موقفًا حازمًا إزاء هذا الإجرام، كانت ردود الفعل ضعيفة وهشّة وغير مؤثرة، ولا تحمل أي نوع من الإرادة في رفض المشهد وتغييره.
واكتفى البلدان -كما غيرهما- بتصريحات الإدانة والشجب والاستنكار، وعقد القمم وتبنّي مشاريع القرارات في المجالس الأممية، كنوع من الدبلوماسية السلبية التي لا تحرك ساكنًا في المشهد، رغم امتلاكهما وبقية الدول العربية والإسلامية أوراق ضغط يمكن استخدامها إذا ما توفرت الإرادة، هذا بخلاف الخطاب السياسي المتماهي بشكل كبير مع الرؤية الإسرائيلية بشأن تحميل حماس مسؤولية ما حدث، كما جاء في خطاب مندوبة الإمارات في مجلس الأمن.
وممّا يزيد من فداحة الخذلان؛ استمرار مباحثات التطبيع رغم الوضع الكارثي، وهو ما أكد عليه صهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ومستشاره، خلال فعاليات مبادرة مستقبل الاستثمار التي عُقدت في الرياض في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حين قال إن اتفاقات أبراهام تكتسي “أهمية أكثر من أي وقت مضى”، وأن المسؤولين في المملكة مستمرون في مسار التطبيع حتى وإن تعطل مرحليًّا بسبب الحرب.
الموقف ذاته إماراتيًّا، حيث لم توقف أبوظبي علاقاتها مع الاحتلال، وعلى العكس من ذلك فتحت أبوابها لليهود لممارسة أنشطتهم وفعالياتهم الدينية، كما هو الحال في احتفال الجالية اليهودية في الإمارات بعيد الأنوار (حانوكا) بمشاركة إماراتيين، رغم الدماء التي تسال في غزة على بُعد كيلومترات من الدولة النفطية، في تحدٍّ صارخ لمشاعر الفلسطينيين المكلومين، والأمر ذاته مع موسم الرياض المستمر بزخم لم تشهده السنوات الماضية.
صمت يثير الريبة
بداية لا بدَّ من الإشارة إلى أن جزءًا كبيرًا من المغردين الخليجيين الذين يتبنّون خطاب الشيطنة لحماس والمقاومة الفلسطينية، هم شخصيات عامة وإعلامية معروفة للجميع، حتى المرتزقة من غير الخليجيين المقيمين في تلك البلدان معروفين بشكل كبير، الأمر ذاته بالنسبة إلى مذيعي ومحلّلي قناتَي “العربية” و”سكاي نيوز عربية”.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتحدث أي من هؤلاء، سواء على منصة اجتماعية أو وسيلة إعلامية، في هذا الملف دون الحصول على ضوء أخضر، سواء كان ذلك ضمنيًّا أو بشكل مباشر، إذ لا يجرؤ أي منهم أن يتفوّه بكلمة واحدة على غير هوى السلطات التي تحكم قبضتها جملة وتفصيلًا على كل نسمة هواء تمرّ في أجواء البلاد، وإلا فالمصير لن يختلف كثيرًا عن المئات القابعين في السجون والمعتقلات لأنهم غرّدوا خارج السرب.
وعليه يرى البعض أن الخطاب المشيطن للمقاومة والمتماهي مع السردية الإسرائيلية، يعكس بشكل كبير طبيعة وملامح المزاج العام لدى السلطات الحاكمة في أبوظبي والرياض، التي غضّت الطرف عن بحث مسألة وقف إطلاق النار لتركّز جهودها على ما بعد الحرب، والاستعداد لمرحلة غزة دون حماس، بحسب الإعلام العبري.
وفي الأخير، إن الصمت الخليجي الرسمي إزاء ما تتناقله وسائل الإعلام العبرية، وما يتردد على ألسنة المسؤولين في حكومة الاحتلال بشأن التنسيق السعودي الإماراتي مع الكيان المحتل، دون ردّ واضح ومباشر، يثير الشك والريبة، ويدفع باب التكهُّنات نحو مزاعم التآمر والتواطؤ ضد الفلسطينيين، ويرسّخ ما يتم تسريبه بشأن الرغبة في تصفية غزة التي باتت العقبة الأبرز في مسار التطبيع العربي الإسرائيلي.