تتواتر الأدلة يوما بعد يوم بأن المملكة العربية السعودية قد وضعت نفسها في الموقع الخطأ وهي تتجه إلى توريط نفسها في مواقف وسياسات لن تعود عليها بالخير.
هذه دولة تحتضن مقدسات المسلمين وهي محل قبلتهم، قد أقامت شرعيتها على أساس الدين، فهي من بين الدول القليلة في العالم التي لا يوجد فيها دستور بزعم انها تنهل مِن الشريعة ومن الكتاب والسنة مباشرة، فهي لا تتوفر علي اي ضوابط او رقابة على الحكم بحجة ان ولي الامر له حق الطاعة والولاء المطلقين من الرعية.
وقد ظلت الأمور تسير على هذا المنوال لعقود متتالية من الزمن منذ ميثاق الدرعية بين سيف ال سعود ودعوة محمد بن عبد الوهاب في صحراء نجد عام 1745، ثم قيام الدولة السعودية الثانية سنة 1818.
ورغم أن النظرة الشائعة عن السعودية هي انها دولة دينية بالكامل، الا ان الصورة الأقرب للواقع هي انها دولة اطلاقية يسيطر فيها رجالات الحكم على السلطة المادية والمعنوية، اي على النفوذ والثروة والدين وكل شيء.
تأسست هذه العلاقة في أصل النشأة على نوع من التحالف بين رجال السيف ورجال الدعوة الدينية، الا انها بدأت تختل تدريجيا لصالح حكم السيف على حساب رجالات “الدعوة”، وتحول فقهاء السعودية بعامل الوقت الى مجرد طبقة من الموظفين الدينيين الرسميين يتقاضون رواتب واعطيات الدولة بحسب درجة الحاجة اليهم وسوق العرض والطلب.
برع رجال الدين السعوديبن في توجيه عنايتهم في مصارعة أهل الكفر والشرك والضلال، ولكن حينما استدعت السعودية الجيوش الامريكية والغربية خلال حرب الخليج الثانية الى ديار المسلمين، انبرى فقهاء السعودية يصدرون فتاوي “جواز الاستعانة بجيوش الكفار”.
حاولت السعودية في سياق مواجهتها للمد اليساري والعروبي الناصري ان تقيم نوعا من التحالف الموضوعي مع التيارات الاسلامية وخاصة الاخوانية منها. احتضن الملك المرحوم فيصل عددا من قيادات الاخوان خلال صدامهم مع عبد الناصر، ثم انخرطت السعودية في التحالف لاحقا مع الباكستان تحت المظلة الامريكية وتم دعم المقاتلين الافغان بالمال والسلاح في مواجهة ما سمي امبراطورية الشر الشيوعية وقتها.
وهكذا ظلت علاقة السعودية بالتيارات الاسلامية على اختلاف أفرعها تتراوح ما بين التحالف او في الحد الأدنى الالتقاء الموضوعي في مواجهة الشيوعية، ثم كبح جماح المد الشيعي الإيراني فيما بعد.
الجديد في الامر هو ان المملكة العربية السعودية وفِي حقبة الملك عبد الله ومن موقع هاجس الخوف المرضي من ثورات الربيع العربي، أخذت وجهة معادية للتيارات الاسلامية، ان لم نقل استئصالية، ليس لانها إسلامية ولكن لان هذه التيارات قد أسست رؤيتها على مبدأ التوافق بين الاسلام والديمقراطية وتقدمت لمواقع الحكم في اكثر من بلد استنادا الى الشرعية الانتخابية.
عدت السعودية هذا من الكبائر السياسية التي لا يمكن ان تتحملها وهي التي بنت شرعية حكمها على زعم تطبيق الشريعة والاحتكام الى الكتاب والسنة مباشرة بلا دستور ولا مؤسسات ولا شي، ومن ثم احتكار تمثيلية الاسلام السني.
وهكذا تخوض المملكة معركتها المقدسة اليوم على جبهات دينية متعددة: معركة مع القاعدة والدواعش الذين تشكلوا في الحاضنة الوهابية بعد أن خرجوا عليها وحولوا ما هو مكمن في الوهابية ومختزن فيها من تكفير وجنوح نحو التشدد الى ممارسة بالفعل، ثم جبهة ثانية مع ايران والتيارات الشيعية في الخليج وكل المنطقة، وأخيرا وليس آخراً معركة ضد الاخوان المسلمين، والمقصود بذلك القوى الاسلامية الوسطية التي لا تشارك السعودية المنهج والرؤية.
قبل أيّام قليلة، أصدرت هيئة كبار العلماء فتوى دينية بشان الاخوان صنعت على المقاس وبحسب متطلبات المعركة التي تخوضها السعودية بقيادة محمد بن زايد. ملخص هذه الفتوى ان الاخوان ليس لهم عناية بالعقيدة ولا يهتمون بتصحيحها وان منهجهم باطل فاسد وقائم على الخروج على الدولة.
هناك أشياء كثيرة يمكن ان يختلف فيها الانسان مع الاخوان المسلمين وتقييم تجربتهم ولكن حينما يتعلق الامر بالجهة التي توجه النقد او بالأحرى أصابع الاتهام فهناك قول اخر يجب ان يقال.
ان الجهاز الديني السعودي الذي تعود جذور تكوينه الى المدرسة الوهابية هو اخر من يحق له ان يتكلم عن التطرّف. هو في الحقيقة مثال حي للتشدد الديني والغربة عن العصر وأشبه ما يكون بمجلس كرادلة لا تتجاوز مهمته توفير الغطاء الديني للقرارات السياسية وإصدار الفتاوى وفق التعليمات المصدرة اليه.
المؤاخذة على الاخوان انهم لا يهتمون بتصحيح العقيدة، والمخفي او غير المنطوق في هذه الفتوى هو ان هيئة كبار العلماء هي من تمثل العقيدة الصحيحة وهي حارسة هذه العقيدة الصماء، وما عدا ذلك أهل ضلالة وشرك والعياذ بالله.
هذه الفتوى تنبئ بالمنهج التكفيري الراسخ في المدرسة الوهابية التي يمثلها هؤلاء، فقد برعوا في مصارعة طواحين الهواء، اي خوض معارك على جبهات خاطئة تمس صورة الاسلام في الصميم. جعلوا من الاسلام عنوانا على التضييق على المرأة ومصادرة حقوقها بما في ذلك حقها البسيط في قيادة السيارة.
أحالوه رديفا للتخلف السياسي، من خلال التشريع للطاعة المطلقة لولي الامر بلا دستور ولا قوانين ضابطة ولا انتخابات ولا إستقلالية قضاء ولا شيء، وهذا هو عين الفساد في الدين والعقيدة.
أما عن مبدأ الخروج عن الحاكم، فقد كانت الوهابية اول من بادر بالخروج على العثمانيين الأتراك بعد تكفيرهم والتشنيع بهم، في الوقت الذي كانوا يخوضون حروبا استنزاف ضد الممالك الأوروبية الزاحفة. جرثومة التكفير والخروج المسلح متأصلة في الفكر الوهابي قبل ان تتحول الوهابية الى ايديولوجيا رسمية في خدمة الدولة.
خمدت فكرة الخروج على الحاكم لان سيف الحاكم يحوم حول رؤوس لا قبل لها به، وبقيت معركة العقيدة مستعرة بزعم تمثيل عقيدة أهل السلف الصالح وتكفير غيرهم من نحل المسلمين، من الاشاعرة والمعتزلة والفلاسفة فضلا عن أهل التصوف والتشيع، وهذه المعارك مسموح بل مندوب خوضها الى ما لانهاية، لانها لا تكلف شيئا وتشغل هؤلاء بمصارعة طواحين الهواء.
في الحقيقة ان الدفع نحو التمايز في المواقف والفرز بين الوهابية والتيارات الاسلامية اليوم، ورغم بعض مخاطره الظرفية، اتجاه محمود بل مطلوب ومنافعه اكثر من مضاره بكثير، وأولها التخلص من التراث السلفي المتشدد ذي البصمة السلفية النجدية.
لقد كانت لهذه العلاقة المحسوبة سياسيا بين السعودية والتيارات الاسلامية السنية تاثيرات بالغة السلبية انعكست في اتجاه هذه الحركات نحو التشدد الديني وانطباعها بصبغة سلفية وهابية، الى الحد الذي بدأت تغيب فيه تدريجيا الخطوط الفاصلة بين تيارات الاسلام السياسي والسلفية الوهابية في إطار ما عرف بالصحوة الاسلامية.
ويبدو ذلك واضحا وجليا من خلال نزعة التشدد ازاء المرأة وحرية المعتقد والضمير وشيوع المظهر السلفي الذي يختصر الدين في القميص واللحية والسواك، والانغماس في الصراعات الطائفية والاهتمام بالنصوص على حساب الواقع وبالشكليات على المضامين.
ورغم ان التيار الاسلامي السني ممثلا في الاخوان المسلمين قد نشأ في اصله في بيئة ليبرالية منفتحة وبين فئات المثقفين في المعاهد والجامعات الحديثة الا ان الأجيال اللاحقة من الإسلاميين، ومنذ ستينات وسبعينات القرن للماضي، اصابتها لوثة السلفية الوهابية وسرت فيها الى حد التماهي أحيانا.
هذه الانعطافة القاطعة في السياسة السعودية توفر فرصة ذهبية للتيارات الاسلامية لأخذ مسافة واضحة وقاطعة من الاسلام السلفي والعودة الى أساس النشأة في ميراث الحركة الإصلاحية مع السيد جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم من اباء الإصلاح الاسلامي.
طبعا، مثل هذا الموقف قد لا يجد القبول لدى الكثيرين، بمن فيهم والدي الشيخ راشد الغنوشي، بل قد يجد الكثير من التحفظ، ولكنه حسب رايي هو الموقف الاصلح والاصوب إذا أراد الاسلاميون التنويريون تجاوز الكثير من المكبلات الفكرية والسياسية. هذا هو الاتجاه المستقبلي الذي يحتاجه العالم الإسلامي عامة والرقعة العربية على وجه الخصوص، فرب ضارة نافعة.