مرت جماعة الإخوان المسلمين، خاصة في مركزها الرئيسي في مصر بأزمات عاصفة، جرها إليها نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، في أعوام 1954، و 1965، سجنا وإعداما وتضييقا. وقتها مثلا لم يلق عبد الناصر بالا لتوسلات الملك فيصل، الذي حاول فك وانتزاع سيد قطب من حكم الإعدام. وهذا بالتأكيد لن يحدث في الوقت الحاضرفي المملكة.
الجماعة سرعان ما استعادت عافيتها، بعدما تولى الرئيس الراحل أنور السادات الحكم أوئل سبعينات القرن الماضي. إذ استدعاها في أروقة الجامعات والنقابات لمقاومة جيوب الاتحاد السوفيتي التي تغلغلت في الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية في العهد الناصري. أنجز الإخوان المهمة بنجاح غير متوقع، بعدما أزاحوا وحصروا الشيوعية واليسار في أضيق نطاق ممكن. وهذا ما قد يجعلنا نفهم الحنق المبالغ فيه أحيانا من بقايا ومفكري هذه التيارات على الإسلام السياسي عموما والإخوان خاصة.
لم ترتح يوما الأنظمة العربية سواء الجمهورية منها أو العائلية إلى حركة الإخوان بارتياح، رغم أنها تباينت في التعامل معها، ما بين المرونة والتشدد الأمني،طردا وملاحقة وسجنا.
صعدت الجماعة بشكل مستقيم عقب انهيار أنظمة مبارك وبن علي والقذافي، ودخلت إلى دولايب الحكم والسياسة في عدة دول، وازدهر نشاطها الدعوي، وتغلغلت في المجتمع بشكل غير مسبوق من خلال أذرعها الاجتماعية الضخمة، سواء في مجال الصحة والتعليم ومساعدة الفقراء والمحتاجين.
هذا التغلغل في مفاصل المجتمع، الذي لم يقابله إمساك بمفاصل الدولة، أزعج كثيرا دوائر ودول عدة، وعرى الأنظمة السابقة والقئمة، إذ أن بنية الجماعة ليست رأسية نخبوية فقط. فعمودها الفقري يتشكل من الطبقة الوسطى من أنباء المجتمع، من الأطباء والمحامين والمهندسين والمعلمين وأستاذة الجامعات. وهي طبقة استطاعت على مدى عقود وفق نموذج تعاوني أن تحفظ المجتمع من الانهيار، من خلال المشاريع الاقتصادية التي يستفيد منها كثير من الناس، والمستشفيات والمدارس النموذجية، وبرسوم مخفضة. وملايين المساعدات التي تقدم للفقراء والمعوزين.
الغريب أن هذا الاستثمار الضخم في الحفاظ على قوام المجتمع، انهار أمام الآلة الإعلامية التي فتحت نارها على الجماعة لا بهدف تقويض نشاطها، بل القضاء عليه، لكن بدون أي بدائل. حيث سرعان ما صدق عموم الناس الدعاية السوداء التي دشنتها قوى إقليمية كبرى، أبرزها الإمارات والسعودية.
ولعل هذا ما يفسر سلوك التسول الذي أضحت تمارسه وسائل الإعلام باستدعاء الممثلين والفنانين ولاعبي كرة القدم ونجوم ومشاهير المجتمع، لجمع تبرعات، أغلبها للقطاع الصحي. هذا التسول جاء بعد أن قضمت آلة الدولة الطبقة الوسطى وحطمت كل المؤسسات الوسيطة التي كانت تخفف من غلواء الحياة اليومية.
يميل البعض إلى إلقاء اللوم على سوء سلوك الجماعة السياسي واغترار قادتها بالربيع العربي الذي أوصلها لسدة الحكم، بل وأجبر أنظمة لم تسقط على وضعها موضع القلب في السياسة -المغرب نموذجا- شخصيا لا أميل إلى ذلك، وما قد يوجه من لوم للجماعة في ممارتها السياسية يمكن أن يستعمل أيضا في نقد أي سلوك سياسي جمهوري أو ملكي.
فالهجمة العنيفة والعلنية التي تعرضت لها الجماعة، حد ضخ مليارات الدولارات في شرايين نظام كنظام السيسي من دول كالسعودية والإمارات، وشراء الدعم الدولي، والارتماء في حضن تل أبيب الدافئ، كلها كفيلة لا بإسقاط الدولة فقط، بل المجتمع ذاته.
في خمسينات وستينات القرن الماضي، استطاعت الجماعة الخروج إلى عدة دول، من المفارقة أن الإمارات والسعودية من ضمنها، وإلى الولايات المتحدة وأوروبا. مما سمح للجماعة بالتنفس وإعادة الحسابات ومعاودة مزوالة النشاط.
اليوم ليس كالأمس، فأموال الإمارات والسعودية ضيقت الخناق كثيرا على الإخوان في أغلب دول العالم، ولا يبدو أن ثمة دولة الآن على استعداد لاستقبال جموع الإخوان، مما ينذر بتحولات عاصفة في المنطقة العربية. إذ أن اللجوء إلى العنف سيكون خيارا متاحا للدفاع عما تبقى من أمل في الحياة.
ليس على سبيل التكهن أن العنف والعنف المضاد سيكون هو اللغة السائدة في ظل قادة، أهم ميزاتهم، النزق والاغترار بالمقدرات المالية. قادة لا يعرفون لغة السياسة ولا أدبيات حماية أركان المجتمع من السقوط.
إن اتساع رقعة الظلم والتجاهل وفسح المجال فقط للغة الحتميات والتغاضي عن الحقوق المعنوية والمادية، سيكون عاملا أساسيا في فشل الجميع، وانهيار القدرة على طلب إعادة التوازن.