يتسم المشهد العسكري الميداني الحالي في قطاع غزة بالضبابية مع دخول العدوان الإسرائيلي على القطاع شهره الثالث، من حيث عدم وجود مسار واضح لنهاية الحرب وإنهاء الإبادة الجماعية المستمرة، خاصة مع اقتحام الجيش الإسرائيلي أجزاء من القطاع، وعدم توسع الحرب -إلى الآن- إقليميًّا بما يخفّف ولو جزئيًّا عن المقاومة الفلسطينية في غزة، فضلًا عن الدعم الأمريكي والغربي اللامحدود للعدوان الإسرائيلي.
وبالنظر إلى احتمالية امتداد الحرب لفترة طويلة، مقارنة بالمواجهات السابقة بين الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، تبدو احتمالية توسع الحرب الإسرائيلية إلى مستوى التصادم المباشر مع إيران ووكلائها في المنطقة، لاسيما في سوريا ولبنان، احتمالًا واردًا، الأمر الذي يلقي بظلاله على نظام الأسد، باعتباره حليف إيران الأهم في المنطقة، والأقرب جغرافيًّا إلى “إسرائيل”، فضلًا عن انتشار واسع للميليشيات الإيرانية في سوريا، كلواء القدس، وتحديدًا في مناطق الجنوب السوري قرب الحدود السورية الإسرائيلية.
الرسائل الإسرائيلية في سوريا
لم يتأخر “طوفان الأقصى” كثيرًا ليصل بمستواه إلى أماكن بعيدة نسبيًّا عمّا يجري في غزة، فمند بداية العدوان الإسرائيلي المستمر على القطاع، أصبحت سوريا ساحة خلفية لتصفية الحسابات وإرسال رسائل عسكرية تحذيرية متبادلة بين “إسرائيل” والولايات المتحدة من جهة، وإيران وميليشياتها من جهة أخرى.
وتدور مواجهات مدروسة ومضبوطة على الأراضي السورية، وتأخذ خطًّا تصاعديًّا متوازيًّا مع تطورات الوضع في غزة، وتصاعد وتيرة المواجهة الإسرائيلية مع “حزب الله” اللبناني في جنوب لبنان.
فقد كثّفت “إسرائيل” مع بداية عدوانها على غزة هجماتها على البنية التحتية للقوات الإيرانية وميليشياتها في مختلف المناطق السورية، بهدف منع إيران من تشكيل تهديد ملموس عليها، وردعها من الانخراط في الحرب، أو التشويش على عملياتها العسكرية في غزة.
إذ أخرجت عدة مرات مطارَي دمشق وحلب الدوليَّين عن الخدمة، خوفًا كما يبدو من استخدام إيران المطارَين في نقل معدّات عسكرية إلى ميليشياتها، إذ أجبر القصف الإسرائيلي بعد عدة أيام من انطلاق عملية “طوفان الأقصى” في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، طائرة تابعة لطيران “ماهان” الإيرانية المرتبطة بالحرس الثوري المتوجهة إلى سوريا على العودة إلى طهران.
إضافة إلى ذلك، استهدفت “إسرائيل” بشكل دوري مواقع وتحركات لـ”حزب الله” اللبناني على الأراضي السورية، حيث أعلن الجيش الإسرائيلي مؤخرًا استهداف الوحدة 340 التابعة لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني في منطقة السيدة زينب جنوب مدينة دمشق، المعقل الرئيسي للميليشيات الإيرانية، والذي أسفر عن مقتل عنصرَين من “حزب الله” اللبناني، واستهداف حافلة في مدينة البعث في محافظة القنيطرة أسفر عن مقتل 4 عناصر من “حزب الله”، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
كما أحصى المرصد السوري 63 استهدافًا إسرائيليًّا لمواقع عسكرية داخل الأراضي السورية منذ بداية العام 2023، أسفرت عن مقتل 110 عناصر من قوات النظام والحرس الثوري الإيراني و”حزب الله” اللبناني والميليشيات الإيرانية.
في حين وثّق المرصد مقتل 44 عنصرًا من قوات النظام والميليشيات الإيرانية جرّاء استهدافات إسرائيلية وأمريكية، مقابل 42 هجومًا نفّذته الميليشيات الإيرانية على القواعد الأمريكية في سوريا خلال نوفمبر/ تشرين الثاني 2023.
ويمكن القول إنه رغم ازدياد وتيرة الهجمات المتبادلة على الأرض السورية منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، يبدو واضحًا حرص “إسرائيل” وإيران على تجنُّب الصدام العسكري المباشر، واستعاضة إيران بوكلائها للردّ على الضربات الإسرائيلية والأمريكية، والحفاظ على قواعد الاشتباك الحالية، وإرسالها رسائل عسكرية دون الانجرار إلى حرب مفتوحة لا يمكن التنبؤ بنتائجها.
إيران وسياسة التصعيد الحذر والمحدود
تخشى إيران فعليًّا من الانزلاق إلى حرب شاملة ومفتوحة قد تؤدي إلى تقويض نفوذها في سوريا، التي تمثل نقطة ارتكاز مهمة في حساباتها الاستراتيجية الإقليمية التوسعية، لا سيما بعد التهديدات الأمريكية بالردّ عسكريًّا في حال انخرطت في الحرب، بالتزامن مع استقدام الولايات المتحدة حشودًا عسكرية إلى الشرق الأوسط، تمثلت بإرسالها حاملة الطائرات الأمريكية “جيرالد فورد” إلى المنطقة بعد 4 أيام فقط من اندلاع عملية “طوفان الأقصى”.
وعليه، تتبع إيران سياسة حذرة منضبطة، حيث اكتفت بدفع وكلائها في المنطقة إلى تنفيذ هجمات محدودة ومحسوبة، ورمزية في بعض الأحيان، ضد القوات الأمريكية في سوريا والعراق، حيث ذكرت قناة “فوكس نيوز” الأمريكية أن الهجمات ضد القوات الأمريكية في سوريا والعراق ارتفعت إلى 92 هجومًا على الأقل منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وآخر تلك الاستهدافات، كان استهداف ما يعرف بـ”المقاومة الإسلامية في العراق” المدعومة من إيران، لقاعدة التحالف الدولي في منطقة الشدادي في محافظة الحسكة بالقذائف الصاروخية، وقبلها استهداف القاعدة الأمريكية في حقل كونيكو شرقي دير الزور.
كما استقدمت الميليشيات الإيرانية، وعلى رأسها لواء القدس، تعزيزات عسكرية إلى الجنوب السوري قرب الحدود مع الجولان المحتل، وأعادت انتشارها عسكريًّا بعد “طوفان الأقصى” في محافظات دمشق ودرعا والقنيطرة والسويداء.
ويُظهر نفي إيران المتكرر التورُّط في عملية “طوفان الأقصى”، ومن ثم نفيها الضلوع في الهجمات التي تستهدف القوات الأمريكية في سوريا والعراق، الذي تكرر على لسان عدد من مسؤوليها، الحذر الشديد لديها من الانجرار إلى تصعيد شامل يؤذي نفوذها في المنطقة، إذ تراهن فعليًّا على إيقاف “إسرائيل” عدوانها على غزة بعد استنزاف قواتها تحت ضربات المقاومة الفلسطينية، أو تراجُع الدعم الأمريكي لتمديد الحرب لفترة زمنية أطول، بعد اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2024.
أين نظام الأسد ممّا يجري على الأراضي السورية؟
في بداية الأيام الأولى لهجوم المقاومة الفلسطينية في غلاف غزة، وجّهت أطراف دولية عديدة رسائل تحذيرية إلى نظام الأسد، تحذّره من مغبّة الانخراط في الحرب، أو السماح لإيران ووكلائها من استخدام الأراضي السورية قاعدة لاستهداف “إسرائيل”، حرصًا من تلك الأطراف على احتواء الحرب، وخوفًا من توسعتها لتشمل جبهات أخرى في الإقليم.
وقال موقع “أكسيوس” إن الإمارات حذّرت نظام الأسد من التدخل في الحرب بين “إسرائيل” وحماس في غزة، أو السماح بشنّ هجمات عسكرية على “إسرائيل” من الأراضي السورية، كما تواردت أنباء عن نقل مسؤولين في الحكومة الفرنسية رسالة تحذيرية من “إسرائيل” إلى “حزب الله” اللبناني، تضمّنت تهديدًا باستخدام القوة البحرية الأمريكية ضد نظام الأسد، في حال انضمَّ الحزب إلى الحرب في غزة.
عمومًا، يغيب نظام الأسد عن المشهد السياسي بعد أن اتخذ موقفًا باهتًا وخافتًا وأقرب إلى الحياد، حيث اقتصر على إدانة جرائم “إسرائيل” في غزة على لسان بعض مسؤوليه، محافظًا بذلك على قواعد الاشتباك معها في الجولان المحتل، بعد أن امتهن الاستثمار عقودًا في القضية الفلسطينية وتوظيفها لاكتساب شرعية على الساحة العربية والإسلامية.
بات نظام الأسد خارج المعادلة تمامًا، وغير قادر على التأثير في أي حدث مفصلي في المنطقة، فضلًا عن عجزه أساسًا عن إمساك زمام الأمور في مناطق سيطرته.
ولا يبدو أن نظام الأسد معنيّ بما يجري في غزة، في الوقت الذي يركّز فيه جهوده على إعادة تثبيت أركان حكمه ومواصلة حربه على المدنيين شمال غرب سوريا، فضلًا عن عدم امتلاكه الإمكانات وأدوات التأثير، ووقوفه عاجزًا تمامًا أمام الهجمات الإسرائيلية المتكررة على مختلف المناطق السورية، بعد أن حوّل سوريا إلى مستنقع للميليشيات، وما نتج عن ذلك من عزلة دولية وعربية، ورهن قراره السياسي بيد حلفائه الإيرانيين والروس، وبقاؤه خارج حسابات القوى الدولية الفاعلة في الملف السوري، والتي ترغب كما يبدو في تفادي توسع الصراع العسكري المباشر.
يتمسك النظام بقرار الابتعاد عن المشهد وعدم التصعيد مع “إسرائيل”، أو الانجرار إلى حرب قد تكلفه وجوده، ويكتفي عمليًّا بالخطابات والتصريحات المنددة بجرائم “إسرائيل”، والمحدودة أيضًا، وعدم استفزاز “إسرائيل” بأي خطوة غير مدروسة ولو بالمستوى الأدنى، وهو ما بدا واضحًا بفرضه موافقة أمنية على الفصائل الفلسطينية، لتنظيم مظاهرات وفعاليات تضامنية مع غزة في مناطق سيطرته.
ختامًا، بات نظام الأسد خارج المعادلة تمامًا، وغير قادر على التأثير في أي حدث مفصلي في المنطقة، فضلًا عن عجزه أساسًا عن إمساك زمام الأمور في مناطق سيطرته في سوريا بعد أن حوّلها إلى مرتع للميليشيات، ولذا يسعى اليوم جاهدًا إلى النأي بنفسه عن الصراع الدائر حاليًّا بين إيران و”إسرائيل” ومن خلفها الولايات المتحدة، في الوقت الذي تستمر تلك القوى بتصعيد حذر ومضبوط على الأراضي السورية.