لم يثنه برد الشتاء ولا حرّ الصيف ولا صيام رمضان ولا التخوين ولا الاعتقالات المتكرّرة، أن يتواصل ويمتدّ إلى مدن أخرى، حراك بدأ باحتجاجات متفرعة بمدينة الحسيمة شمال المملكة، أواخر السنة الماضية، ليمتدّ وينتشر إلى باقي مدن الريف ويصل إلى كبرى المدن المغربية على غرار الرباط ومراكش والدار البيضاء، نتيجة فشل المحاولات الحكومية لتطويقه والحدّ من فعاليته، مرّة عبر الحل الأمني ومرّة بتقديم الوعود، وتارة أخرى من خلال التهديد والوعيد، لكن ما يسجّل أنه أمام كل هذه التطورات المتلاحقة لم نسمع للملك محمد السادس كلمة ولو يتيمة في خصوص هذا “الحراك” الذي أربك الحكومة والمحزن على حدّ السواء.
القرع على الأواني
ما إن تهدأ قليلا ويأخذ سكان الريف بعض أنفاسهم، حتى تتجدّد الاحتجاجات بمدن الشمال المغربي غير آبهين للطوق الأمني المفروض عليهم، أخرها ما شهدته مدن إقليم الحسيمة وبعض المدن المغربية الأخرى ليلة أمس. وابتدع سكان الحسيمة هذه المرة أسلوبا جديدا للاحتجاج يقطع مع الأساليب السابقة، حيث أقدم الأهالي مباشرة بعد تناول وجبة الإفطار، على إطفاء أضواء كل المنازل والمحلات التجارية وشرعوا في الاحتجاج بقرع الأواني أو ما يطلقون عليها “الطنطنة” من فوق سطوح المنازل والشرفات ومن أمام أبواب البيوت للتعبير عن احتجاجهم جراء الاعتقالات التي طالت نشطاء الحراك، فضلا عن تذكير الحكومة بضرورة الوفاء بوعودها في مجالات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وإلغاء عسكرة منطقة الريف، ومساواتها بباقي المناطق بالمملكة.
يقول ناشطون، إن الاحتجاج بـ “الطنطنة” إنذار يسبق الخطوات التصعيدية التي يعتزمون تنظيمها خلال الأيام المقبلة
وتخلّل قرع الأواني، رفع شعارات من قبيل ” عاش الريف”، “عاش الشعب”، حسب ما أظهرته مشاهد فيديو تم تناقلها على مواقع التواصل الاجتماعي ليلة أمس، تبيّن هذه الأشكال الاحتجاجية الجديدة، وجاء هذا الأسلوب الاحتجاجي الجديد للتأكيد على تواصل احتجاجات ساكنة الريف رغم حملة الاعتقالات والتدخلات الأمنية العنيفة التي تطال أي شكل احتجاجي تعرفه المنطقة.
ويقول ناشطون، إن الاحتجاج بـ “الطنطنة” إنذار يسبق الخطوات التصعيدية التي يعتزمون تنظيمها خلال الأيام المقبلة في حالة عدم إطلاق سراح المعتقلين، مؤكّدين اتفاقهم على القيام بـ “مسيرة الحج” في اتجاه مدينة الحسيمة يوم العيد مع رفع الأعلام السوداء لـ “جعل المناسبة يوم للغضب والعصيان المدني عوض يوم الفرح والسعادة.” وتشهد مدينة الحسيمة وعدد من مدن وقرى منطقة الريف، شمالي المغرب، احتجاجات متواصلة منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، للمطالبة بالتنمية و”رفع التهميش” ومحاربة الفساد، وذلك إثر وفاة تاجر السمك محسن فكري المنحدر من امزورن، الذي قتل طحنًا داخل شاحنة لجمع النفايات، خلال محاولته الاعتصام بها، لمنع مصادرة أسماكه.
انتهاكات تطال المعتقلين
هذه الاحتجاجات تزامنت مع اعلان منظمتا “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية” فى بيان أمس الخميس، تعرّض قائد الاحتجاجات ناصر الزفزافي للضرب “بقسوة” وإلى إساءات لفظية من قبل عناصر من الشرطة المغربية خلال اعتقاله. وقالت المنظمتان فى بيان مشترك، إن حوالي 12 من رجال الشرطة داهموا منزلا كان يمكث فيه فى ساعات الصباح الأولى وكسروا الباب، بحسب ما قال الزفزافى لمحاميه فى سجنه فى الدار البيضاء.
وذكر البيان أن “الشرطة كسرت الأثاث والنوافذ، وهاجمت الرجال الثلاثة رغم أنهم لم يبدوا أى مقاومة”، مضيفا أن “الضرب المبرح أنتج جُرحا طوله 1,5 سنتمتر على قائمة رأسه (الزفزافي) وآخر تحت عينه اليسرى، وكدمات في ظهره“. وقالت المنظمتان، إن الشرطة أهانت الرجال الثلاثة بتعابير مبتذلة، وأجبروهم على ترديد عبارة “عاش الملك” واصفين إياهم بالانفصاليين.
اتهم الائتلاف المغربي القوات العمومية بـ “العنف المفرط” الذي أفضى إلى عشرات الجرحى بينهم مواطنين غير متظاهرين
وقالت سارة ليا ويتسن، مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش: “على السلطات المغربية التحقيق في المزاعم ذات المصداقية التي تفيد بارتكاب الشرطة لأعمال عنف ضد الزفزافي، والامتناع عن توجيه أي تهم مرتبطة بحرية التعبير أو التظاهر السلمي. يبدو أن القضية، في هذه المرحلة، تسعى إلى إنزال أقصى عقوبة ممكنة بقائد الاحتجاجات، وليس إلى معاقبة سلوك جنائي”.
من جهتها، قالت هبة مرايف، مديرة الأبحاث بقسم شمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية: “إضافة إلى الزفزافي وغطاس، اشتكى عدد من متظاهري وناشطي الريف من اعتداءات قوات الشرطة بعد الاعتقال. لمحاربة الإفلات من العقاب وضمان محاكمة عادلة، على المحاكم في الدار البيضاء والحسيمة العمل على إخضاع المتهمين لفحوص طبية سريعة والمحافظة على كل الأدلة الملموسة ذات الصلة”.
منظمات حقوقية دولية انتقدت التعامل الأمني مع “حراك الريف”
في السياق ذاته، نشر الائتلاف المغربي لحقوق الإنسان، الذي يتكون من 22 جمعية حقوقية مغربية، تقريرا أول أمس الأربعاء تناقلته وسائل الاعلام، أشار من خلاله إلى وقوع “العديد من انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة من لدن القوات العمومية وبعض رجال السلطة المحلية وجماعات ‘بلطجية’، متهما القوات العمومية بـ “العنف المفرط” الذي أفضى إلى عشرات الجرحى بينهم مواطنين غير متظاهرين. وقال تقرير الائتلاف إن شهادة مندوب الصحة بالإقليم تفيد باستقبال 19 معتقلا لأجل العلاج، وإن المحامين صرّحوا أن عددا من المعتقلين تعرضوا للعنف داخل مخافر الشرطة، متابعا أن جميع معتقلي الدار البيضاء وُضعوا في زنازين انفرادية، كما أن أسرهم تعاني لأجل اللقاء بهم.
مطالبة بإطلاق سراح المعتقلين
منذ اعتقالهم ما فتئ ساكنة الريف وعديد المنظمات والجمعيات الحقوقية المحلية والدولية يطالبون بإطلاق سراح المعتقلين من دون قيد أو شرط، وفي وقت سابق، كشف وزير العدل المغربي محمد أوجار، أن إجمالي من تم توقيفهم على خلفية الأحداث التي تعرفها الحسيمة وإقليم الريف بلغ 104 أشخاص، بينهم 86 ما زالوا رهن التوقيف، و8 يتم التحقيق معهم في حالة سراح (طلقاء)، و10 تم إطلاق سراحهم في وقت سابق دون توجيهتهم لهم، إلا أن عديد الأطراف تشكّك في أرقام الوزير.
أكّد معتقلو الحراك عزمهم تنفيذ اضراب عن الطعام لمدّة 48 ساعة انطلاقا من أول أيام عيد الفطر
وأدانت المحكمة الابتدائية بالحسيمة الأربعاء ما قبل الماضي، 32 معتقلا على خليفة الحراك، وذلك بالسجن سنة ونصف نافذة لـ 25 منهم، بتهم العصيان المسلح رشق القوة العمومية بالحجارة وإهانة القوة العمومية، والتظاهر بدون تصريح، والتجمهر المسلح في الطرق العمومية، في حين أدانت الباقين بأحكام سجنية ما بين شهرين و6 أشهر حبسا موقوفة التنفيذ، فيما نُقلت مجموعة أخرى من 45 شخصا على الأقل، من بينهم الزفزافي، إلى الدار البيضاء حيث ينتظرون المحاكمة. وفي تصعيد منهم، أصدر معتقلو الحراك من السجن في الناظور بلاغاً للرأي العام، أكّدوا فيه عزمهم تنفيذ اضراب عن الطعام لمدّة 48 ساعة انطلاقا من أول أيام عيد الفطر تنديدا بما وصفوه بالاعتقال السياسي، وبالقمع الذي طال ويطال الحركة الاحتجاجية بشكل عام.
الملك غير موجود
كل هذه التطورات والملك غائب عن الساحة إلا من خلال بعض تصريحات أعضاء الحكومة التي تقول إن الملك أذن بـ “تسريع مشروعات التنمية“، وبقي المغربيون ينتظرون زيارة الرئيس الفرنسي للمملكة حتى ينقل لهم مشاعر الملك محمد السادس إزاء حراك الريف وفهمه للأزمة وبنواياه إزاء مستقبل إدارة هذا الحراك الاجتماعي.
حيث قال ماكرون في جواب عن سؤال وجه إليه من صحفي فرنسي عن حراك الريف، إن الملك محمد السادس قلق على الوضع في منطقة الريف، وإنه شعر بأن الملك يعتبر أنه من الطبيعي والمشروع أن تكون هناك تظاهرات تتم في إطار قانوني ودستوري، عكس ما يجري في بلدان أخرى، وأضاف ماكرون، “لمست لدى جلالة الملك رغبة في تهدئة الوضع عبر التجاوب مع مطالب السكان في إطار سياسة عمومية”. وعن إحساس الملك كإنسان إزاء سبعة أشهر من الاحتجاجات في الريف قال ماكرون: “لمست أن الملك قلق لمصير هذه المنطقة الغالية عليه، والذي اعتاد قضاء عطلته فيها”.
غير تلك النوايا التي عرضها الرئيس الفرنسي نيابة عن الناطق الرسمي باسم القصر الملكي أو من رئيس الحكومة، لم يسمع المغربيين كلمة واحدة من الملك في خصوص حراك الريف المتواصل منذ سبعة أشهر من شأنها أن تهدئ الوضع هناك. ويقول مراقبون، إنه لم يبقى إلا مخاطب واحد في يده حل هذه المشكلة، وهو الملك، في ظلّ فقدان ساكنة الريف الثقة في الحكومة والأحزاب السياسية، إلا أنه لم يتدخّل بعد ما يثير الشكوك حول ذلك، من بينها تعمّد الملك عدم التدخّل حتى يحرج الحكومة أكثر، وخاصة حزب العدالة والتنمية.