منذ البذور الأولى لفكرة الصهيونية، لجأ مؤسسوها الأوائل إلى ترويج البحث عن “أرض اللبن والعسل” قبل أن يهتدوا إلى ما أسموها أرضًا وعدهم الله إياها، وأنزل فيها من خيرات الأرض ما خُصّص فقط لليهود، وأجرى فيها أنهارًا من العسل والحليب في إشارة إلى وفرة خيراتها، فكانت فلسطين وكانت “الأرض الموعودة”.
وتستند الحركة الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي في دعايتهما إلى ما قالا إنه ورد في التوراة، في (خروج 3: 8)، بأن الله سمع أنين الإسرائيليين الذين خدموا كعبيد في مصر، فقال موسى: “لقد نزلت لإنقاذهم من يد المصريين وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة إلى أرض تفيض لبنًا وعسلًا”.
حاولت الحركة الصهيونية أن تزرع هذه التصورات الاقتصادية لتكون أحد منطلقاتها لاحتلال فلسطين، وهو ما تمثّل في ممارسات لويس برانديس الأمريكي اليهودي، الذي اُنتخب بعد الحرب العالمية الأولى رئيسًا للجنة التنفيذية المؤقتة للشؤون الصهيونية، وكان من مؤسّسي الكونغرس الصهيوني الأمريكي ورئيس اللجنة التنظيمية له، واستثمر علاقاته مع الرئيس الأمريكي ويلسون الذي قدّم بركته لتصريح بلفور، وزار فلسطين عام 1919 حيث شارك في المؤتمر الصهيوني العالمي، وساهم في إقامة “الشركة الاقتصادية لأرض إسرائيل”.
يقول برانديس عن فلسطين: “إن هذه الأرض التي كانت غير مشجرة منذ جيل مضى، وكان مفترضًا أنها قاحلة وجرداء ولا أمل فيها، ظهرت أنها غير مشجرة وقاحلة نتيجة إساءة الإنسان استعمالها، ولقد برهنت الآن أنها أرض باستطاعتها أن تصبح مرة أخرى أرض العسل واللبن”.
لكن عملية “طوفان الأقصى”، التي بدأت من عملية العبور الكبير في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ونفّذتها كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس، أودت عبر أول طائرة مغادرة من مطار بن غوريون بلا عودة بدعاية “أرض اللبن والعسل” وبلاد الشركات الناشئة، ودولة الاقتصادات التكنولوجية في منطقة الشرق الأوسط.
من اللبن والعسل إلى الإنفاق على الجيش
تقول صحيفة “ذا ماركر” الاقتصادية العبرية، إن الضرر التراكمي لحالة الحرب التي يعيشها الاحتلال الإسرائيلي يقدَّر بنحو 20 مليار شيكل، وتصفه بـ”الضرر الاقتصادي غير المسبوق”، حيث لم يسبق أن حدث مثل هذا التعبئة المكثَّفة والمطوَّلة لقوات الاحتياط، ربما حتى خلال حرب أكتوبر 1973 والأشهُر التي تلت ذلك.
وقوات الاحتياط التي تتحدث عنها الصحيفة التي استدعاها الاحتلال للقتال، كلفت خزينة الاحتلال منذ بدء عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي وحتى نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، نحو 20 مليار شيكل (5.5 مليارات دولار)، إلى جانب الأضرار والخسائر المباشرة للاقتصاد، فيما تقدر وزارة المالية التكلفة المباشرة ليوم الاحتياط -دفع الأجور لجنود الاحتياط والمعدّات والطعام وما إلى ذلك- بمبلغ 70 مليون شيكل (19 مليون دولار) لكل 100 ألف مجند.
يأتي ذلك فيما أعلن مكتب المحاسب العام لوزارة مالية الاحتلال أن العجز بالموازنة العامة قفز بشكل حادّ، ليبلغ 3.4% بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، مقابل 2.6% في أكتوبر/ تشرين الأول السابق له، ويعود هذا العجز إلى الزيادة الحادة في الإنفاق الحكومي خلال الحرب.
وبحسب بيانات مكتب المحاسب العام، فإن العجز سيصل إلى 62 مليار شيكل، بينما بلغ حاليًّا 34 مليار شيكل (قرابة 10 مليارات دولار)، مقدرًا أن العجز عام 2023 سينتهي عند 4%، في حين وضع قانون الموازنة المعدَّل هدف العجز المسموح به عند أقل من 3.7% فقط.
بلاد الشركات الناشئة تغلق أبوابها
ليس فقط قوات الاحتياط التي كلفت خزينة دولة الاحتلال، حيث اضطر رئيس وزراء الاحتلال إلى اقتراض 6 مليارات دولار عبر صفقات سرّية لتمويل حربه، وتشير بيانات وزارة مالية الاحتلال إلى أن الخسائر التي لحقت بالناتج المحلي الإجمالي للاحتلال أعلى بنسبة 50% من التكلفة المباشرة للحرب، ما يعني أن اقتصاد الاحتلال يعاني من أضرار يومية إضافية بقيمة 200 مليون شيكل (54 مليون دولار).
“إسرائيل” التي روّجت نفسها أنها بلد الشركات الناشئة والحاضنة المثالية لها، حتى دفعت شركات التكنولوجيا العملاقة وشركات “الهايتك” إلى فتح فروعها في هذه “البيئة المثالية لرجال الأعمال” في الأراضي المحتلة، لا سيما تل أبيب وهرتسليا، مثل جوجل وفيسبوك ومايكروسوفت وغيرها، وجدت نفسها خلال الشهر الأول من “طوفان الأقصى” في معضلة تتمثل في أن واحدة من كل 3 شركات إسرائيلية أغلقت أبوابها أو تعمل بطاقة لا تتجاوز 20% من قدرتها، وفق بيانات مركز الإحصاء لدى الاحتلال.
هذا الإغلاق هدد أيضًا مستقبل العمل في سوق الاحتلال، الذي سجّل ارتفاعًا غير مسبوق بمعدلات البطالة، إذ بلغ عدد الباحثين عن عمل في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي 332 ألفًا، أي بزيادة قدرها 47% مقارنة بأكتوبر/ تشرين الأول الذي قبله، وذلك بحسب تقرير مكتب التشغيل التابع لمؤسسة التأمين الوطني الإسرائيلية.
ووفقًا للبيانات الواردة في تقرير مكتب التشغيل، فإن 123 ألفًا منهم سُجّلوا كباحثين عن عمل خلال نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي وحده، في حين أن 209 آلاف هم باحثون عن عمل تمّ تسجيلهم في خدمة التوظيف في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أيضًا.
أما دائرة الإحصاء المركزية لدى الاحتلال، فتشير إلى قفز معدل البطالة واسع النطاق مرتَين ونصف في غضون شهر واحد، ليصل إلى 10.4% في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وهي أعلى نسبة تسجَّل منذ أبريل/ نيسان 2021، ومن المتوقع أن تواصل الارتفاع في ظل الحرب.
وبحسب وزارة عمل الاحتلال، فإن قرابة 760 ألفًا (18%) من القوة العاملة لا يعملون لـ 3 أسباب، أعزتها إلى خدمة العمال والموظفين الإسرائيليين الاحتياطية في جيش الاحتلال، أو أولئك الذين يعيشون في غلاف غزة وهاجروا، أو يمكثون في المنازل مع أطفالهم خوفًا من الحرب.
في سياق متصل، أورد موقع “غلوبس” المختص باقتصاد الاحتلال أن قرابة 25 ألف عامل آسيوي، معظمهم يعمل بالزراعة، غادروا أعمالهم ومنهم من سافر إلى بلدانهم الأمّ هربًا من الحرب، هؤلاء العمال استقدمهم الاحتلال للعمل في المستوطنات، وقد فاقموا من المشكلة العمالية، بالتزامن مع عدم وصول أكثر من 178 ألف عامل فلسطيني من الضفة المحتلة وقطاع غزة للعمل في الداخل المحتل.
نصف مليون إسرائيلي غادروا بلا عودة
قبل “طوفان الأقصى”، كان تعداد اليهود في الأراضي المحتلة نحو 7 ملايين و145 ألف نسمة، ازداد 216 ألف نسمة عن عام 2022، لكن الزيادة في هذه الأعداد لم تطُل كثيرًا، حتى بدأ الطوفان وبدأت معه الهجرة العكسية على شكلَين: من الأراضي المحتلة إلى الخارج، ومن المستوطنات إلى المدن الكبرى في دولة الاحتلال.
وبحسب موقع “زمان إسرائيل” العبري، فإنه وفقًا لبيانات سلطة السكان والهجرة لدى الاحتلال، غادر نحو 370 ألف إسرائيلي الأراضي المحتلة منذ اندلاع “طوفان الأقصى” وحتى نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أما في نوفمبر/ تشرين الثاني غادر نحو 139 ألفًا و839 إسرائيليًّا، ولم تسجل أي بيانات عودة لجميع من غادر منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
حتى رحلات الطيران والسياحة تراجعت بنسبة 80% كمتوسط منذ اندلاع الحرب، ولم تعد شركات الطيران العالمية ترسل رحلاتها إلى مطار الاحتلال واقتصر الأمر على شركات طيران إسرائيلية وأمريكية، وبحسب تقرير لموقع Secret Flying المتتبّع لرحلات الطيران، فإن مطار بن غوريون شهد هبوط ما معدله 100 رحلة يوميًّا خلال الشهر الأول من “طوفان الأقصى”، مقارنة مع 500 رحلة معتادة خلال فترة ما قبل الحرب.
وأظهر تقرير لمكتب الإحصاء الإسرائيلي أن 89 ألفًا و700 سائح زاروا الأراضي المحتلة خلال أكتوبر/ تشرين الأول 2023، معظمهم دخلوا قبل السابع من الشهر ذاته، وكانت السياحة الأجنبية للاحتلال قد تجاوزت 370 ألفًا في الفترة المقابلة من العام الماضي.
هدد “طوفان الأقصى” أحلام جميع المستوطنين في الأراضي المحتلة، وأولئك الذي كانوا قد حجزوا جوازات سفر ليأتوا على الطيارة الأولى قبل السابع من أكتوبر ليستوطنوا على أراضي الفلسطينيين، بأن هذه الأرض ليست كما وُصفت لكم في الدعاية الإسرائيلية، ولن تنعموا فيها باللبن والعسل والتطور التكنولوجي والوظيفة ومأسسة الأعمال، طالما بقيَ الفلسطينيون تحت الاحتلال.