ليس غريبًا أن تطالب الدول الديكتاتورية القامعة لحرية التعبير في بلدانها، بإغلاق قناة تليفزيونية لدولة شقيقة، بسبب التزامها بالمعايير المهنية في تغطيتها الإعلامية للأحداث اليومية التي تعيشها المنطقة العربيّة الجريحة، وفق ما تقتضيه الضوابط الأخلاقية والمعايير الدولية.
لماذا ليس غريبًا على هذه الدول أن تطالب بإغلاق قناة تليفزيونية لمجرّد الاختلاف معها؟ لأنه ببساطة أمر عادي، فتاريخ القوم المليء بالتضييقات على وسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية لا يمكن محوه بسهولة، ولكم فيما حصل لقناة “العرب” السعودية للأمير الوليد بن طلال دليلاً بارزًا على ما نقول، فماذا حصل للعرب التي لم يستمرّ بثها أكثر من 24 ساعة؟
في الأول من فبراير عام 2015، حاولت قناة “العرب” السعودية أن تنسج على منوال فضائية “الجزيرة” القطرية، فقررت في أول يوم من انطلاقة بثها من العاصمة البحرينية المنامة، استضافة القيادي في المعارضة البحرينية خليل المرزوق على الهواء مباشرة، ليقع ما لم يكن في الحسبان.
المرزوقي الذي ظن القائمون على قناة “الوليد بن طلال” أن استضافته كأول ضيف للقناة، ستكون مفتاح دخولها إلى قلوب العرب مثلما فعلت قناة الجزيرة مع انطلاقتها أواخر العام 1996، لم يكن يدر بأن كلماته المحدودة التي تكلّم بها في لحظة صدق مع نفسه بانتقاده سحب السلطات البحرينية الجنسية من 72 شخصًا، ستؤدي إلى إغلاق مشروع إعلامي أنفق مالكوه ملايين الدولارات لبعثه، بعد أقل من 24 ساعة على ظهور مقدّم الأخبار طارق العاص على الهواء مباشرة.
هذه الإمبراطوريات الإعلامية المنتشرة بين دبي والرياض، كان هدفها الأساسي خلال إنشائها منافسة قناة الجزيرة التي بدأت بثّها في الأول من نوفمبر عام 1996، كأول فضائية عربيّة إخبارية متخصّصة، حيث كانت الأخيرة، قبلة لعشرات ملايين المتابعين العرب
حادثة إغلاق السلطات البحرينية لقناة “العرب” التي لم ينجح الملياردير السعودي الوليد بن طلال في إعادة بثّها من العاصمة القطرية “الدوحة” وقبرص على التوالي رغم العديد من المحاولات، كشفت عن الخوف الكبير الذي ظلّ ينتاب دولاً خليجية بعينها من الإعلام مهما كان توجّهه والقائمون عليه، رغم امتلاكها لإمبراطوريات إعلامية تنفق عليها سنويًا مئات الملايين من الدولارات بهدف تلميع صورتها عن طريق بعض الإعلاميين الذين باعوا ذممهم واتخذوا من السباب والاستهزاء والتحريض بضاعة رائجة يتلقّون عن طريقها مكافآت سخيّة من “طوال العمر”.
هذه الإمبراطوريات الإعلامية المنتشرة بين دبي والرياض، كان هدفها الأساسي خلال إنشائها منافسة قناة الجزيرة التي بدأت بثّها في الأول من نوفمبر عام 1996، كأول فضائية عربيّة إخبارية متخصّصة، حيث كانت الأخيرة، قبلة لعشرات ملايين المتابعين العرب الذين كانوا يصطفّون في البيوت والمقاهي خلال حروب أفغانستان والعرق والعدوان الإسرائيلي على لبنان وفلسطين، منتظرين بداية “حصاد اليوم”، حتّى يشاهدوا آخر الأخبار والصور الواردة من كابل وبغداد وبيروت وغزّة والضفة الغربية، وليستمعوا ويستمتعوا بإبداعات محمّد كريشان وجمال ريان وتحليلات المحلّلين العرب والعجم من مختلف البلدان.
دعونا نصارح بعضنا البعض ونصدق أنفسنا في لحظات صدق، من منّا يا قوم لم يشاهد على الجزيرة صور قتل المدنيين العزّل بدم بارد من قبل الاحتلال الأمريكي في المدن الأفغانية والعراقية والفلسطينية المختلفة، ومن منا لم يعاين حجم الدمار وجرائم الحرب التي ارتكبتها طائرات الاحتلال الإسرائيلي في كل مكان طالته صواريخها الغبية المحرّمة دوليًا في فلسطين ولبنان، أم أنكم سرعان ما تنسون؟
يا بني جلدتي وأبناء عمومتي وأخواني في الدين واللغة، من منكم لم يتمنّ أن تتحدّث الجزيرة عن مظلمته عندما كانت أنياب الديكتاتوريين العرب بارزة قبل انطلاق الثورات العربية؟
يا قوم، أجيبوني بالله عليكم دون عصبيّة وانفعال، ماذا كنتم تعرفون عن قنابل النابالم الحارقة والفسفور الأبيض قبل بثّ الجزيرة لفيديوهات قصف الطيران الصهيوني لمنازل الآمنين في غزّة بها وبغيرها من الصواريخ الغبيّة، أم أنكم شاهدتم هذه الصور على فضائيات خليجية أخرى كانت تسمّي الشهداء الفلسطينيين بالقتلى بدل الشهداء، ولو كان الأمر بيدها لوصفتهم بالإرهابيين وللعنتهم في قبورهم أجمعين.
يا بني جلدتي وأبناء عمومتي وأخواني في الدين واللغة، من منكم لم يتمنّ أن تتحدّث الجزيرة عن مظلمته عندما كانت أنياب الديكتاتوريين العرب بارزة قبل انطلاق الثورات العربية، ومن منكم لم يشاهد جلّ المعارضين العرب بعلمانييهم وليبرالييهم وشيوعييهم وإسلامييهم وحتى ملحديهم، على شاشات الجزيرة، ينظّرون لاستفاقة الشعوب واقتراب تمرّدها وخروجها على حكّامهم الظالمين، بينما كانت القنوات العربية الأخرى تخصص الساعات الطوال لتحليل خطاب “طوال العمر” و”قِصارهم”، في حين كان المدافعون عن الحريات السياسية وحقوق الإنسان في سجون الأنظمة العربية يسامون سوء العذاب.
يا قوم، لنعترف بهذه الحقائق بعيدًا عن التعصّب والكذب على أنفسنا وعدم العدل مع أصحاب الفضل ورفض إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، ثم نتكلّم عن سلبيات قناة الجزيرة، فالكمال لله وحده وما خلا عمل بشري من نقص وخلل.
إننا نلوم قناة الجزيرة كما يلومها كثيرون آخرون مثلنا على تقصيرها في تغطية الشأن الخليجي الملتهب وسكوتها عن الظلم المسلّط على الشعوب الخليجية المختلفة خاصة في السعودية والإمارات حيث تنوّعت السرقات وتمدّدت الانتهاكات ووصل صراخ المعتقلين في أقبية سجونها إلى كبرى المنظمات الحقوقية الدولية التي أصدرت البيان تلو البيان لتحذّر من خطورة ما يحدث خلف أبواب السجون المغلقة.
يا قومي ليس لنا في ختام مقالنا إلا أن نقول لكم “اعدلوا” مع خصومكم و”لا تفجروا في الخصومة”، و”التمسوا لإخوانكم 70 عذرًا” و”سلوا لهم الثبات لأنهم الآن يفتنون”، والسلام على كل حرّ منكم، والهداية لطريق الحق والصواب، لكل عبد أحب ويحب مداعبة العصا ودغدغتها
كما نلوم الجزيرة لأنها اختارت بسبب الضغوط الخليجية الكبيرة على قطر والتحذيرات التي وصلت إلى حد سحب السفراء وقطع العلاقات الدبلوماسية معها عام 2014، تجنّب إغضاب “طوال العمر” الذين استعبدوا شعوبهم وطمعوا في استعباد الشعوب العربية الأخرى، التي ترغب في التمتع باستقلالية قراراتها بعيدًا عن الضغط والشفط والإغراء بالرز.
يا قومي ليس لنا في ختام مقالنا إلا أن نقول لكم “اعدلوا” مع خصومكم و”لا تفجروا في الخصومة”، و”التمسوا لإخوانكم 70 عذرًا” و”سلوا لهم الثبات لأنهم الآن يفتنون”، والسلام على كل حرّ منكم، والهداية لطريق الحق والصواب، لكل عبد أحب ويحب مداعبة العصا ودغدغتها، لأن حديثنا ليس موجّها إليهم، فـ”الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.