شهد الخطاب الأمريكي تجاه الحكومة الإسرائيلية خلال الساعات الماضية تغيرًا ملحوظًا، هو الأكثر حدة منذ عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/ تشرين الثاني الماضي، بلغ ذروته مع تحذير الرئيس الأمريكي جو بايدن بفقدان الكيان المحتل الدعم الدولي بسبب الحرب العشوائية التي يشنّها على قطاع غزة، داعيًا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى إجراء تغيير على حكومته التي وصفها بأنها “أكثر الحكومات تطرفًا في تاريخ إسرائيل، وهي لا تريد حل الدولتَين”.
لم يخاطب بايدن في تحذيره حكومة الاحتلال أو الإسرائيليين في الأراضي المحتلة فحسب، بل أوضح أن السياسات الممارسة من قبل نتنياهو ستضع سلامة الشعب اليهودي بأكمله على المحك، ومن ثم فهو بحاجة ضرورية وملحة إلى إجراء تغييرات جذرية في حكومته، لإيجاد “حل طويل الأمد للصراع الإسرائيلي الفلسطيني”.
تحوّل لافت في الخطاب الأمريكي إزاء دولة الاحتلال والوضع في غزة بصفة عامة، من التأييد الكامل والمطلق، سياسيًّا وإعلاميًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، إلى التململ من الوحشية التي يرتكبها جيش المحتل في القطاع، والتي أسفرت عن دعم عالمي كبير لغزة في مقابل انتقادات لاذعة لواشنطن ولإدارة بايدن تحديدًا بسبب الشيك على بياض الذي قدمته لحكومة الحرب في “إسرائيل”، لممارسة كل أنواع البطش والتنكيل بحقّ أكثر من مليوني مواطن في غزة.
يأتي هذا التحول في اللهجة بعد يوم واحد فقط من تصريح بايدن الذي أعلن فيه بشكل واضح أنه صهيوني رغم أنه ليس يهوديًّا، إذ لم يعد ذلك شرطًا على حدّ قوله، فكيف يمكن قراءة هذا التحول في إطاره المحدود؟ وهل تنطوي تلك التصريحات عن تغير فعلي في الموقف الأمريكي أم استراتيجية للاستهلاك المحلي بهدف تخدير الرأي العام الغاضب؟
بعد شهرَين.. الخلاف يظهر إلى العلن
لم يكن الخلاف بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو خلافًا مفاجئًا، فالتوتر بينهما والذي تجسّدَ في التلاسن والسجال بين الطرفَين عبر التصريحات المكوكية هنا وهناك، حاضر وبشدة منذ تولي بايدن السلطة، وإن كان ذلك لا يمنع الدعم المطلق الذي تقدمه واشنطن للكيان المحتل، بصرف النظر عن الموقف من الحكومة.
ثم جاءت عملية “طوفان الأقصى” لتجد إدارة بايدن نفسها منخرطة في الأزمة كطرف حرب مباشر وليس حليفًا استثنائيًّا، حيث جيّشت ترسانة أسلحتها وفتحت خزائنها وسخّرت دبلوماسيتها، لخدمة أهداف الاحتلال في الانتقام والثأر وتدمير القطاع، والقضاء على حماس بعدما مرّغت أنف “إسرائيل” في التراب.
ومن دون مقدمات، تخندق بايدن ونتنياهو وبقية الوزراء لدى الطرفَين في خندق واحد، إذ تعامل بايدن وإدارته مع الأزمة عبر مسارَين، مسار عقدي دفاعًا عن الهوية الدينية والأيديولوجية التي ضربتها المقاومة في مقتل، والمسار السياسي الانتخابي محاولًا توظيف تلك الحرب لخدمة طموحه في ولاية رئاسية ثالثة، عبر كسب دعم وتأييد اللوبي الصهيوني في الداخل الأمريكي، من خلال التقوقع مع تل أبيب في حرب استرداد الكرامة التي تخوضها ضد المقاومة الفلسطينية.
عاجل | الرئيس الأمريكي:
🔴 سلامة الشعب اليهودي على المحك حرفيا وإسرائيل بدأت تفقد الدعم في جميع أنحاء العالم
🔴 يتعين على نتنياهو تقوية وتغيير الحكومة الإسرائيلية لإيجاد حل طويل الأمد للصراع الإسرائيلي الفلسطيني pic.twitter.com/T7bJpfV7QD
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) December 12, 2023
ومع مرور الوقت وإطالة أمد الحرب، شهدت الساحة حزمة من التطورات وضعت بايدن وإدارته في مأزق، ما دفعه إلى توجيه النصح لنتنياهو وحكومة الحرب التي يقودها بشأن سير العملية العسكرية في غزة، غير أن الأخير لم يستمع إلى تلك النصائح، الأمر الذي زاد من تأزُّم موقف الإدارة الأمريكية في الداخل الأمريكي وخارجه.
وبلغ التبايُن في وجهات النظر ذروته عند مناقشة اليوم التالي لوقف الحرب والتباحث بشأن مستقبل قطاع غزة، وهو الأمر الذي أخرج الخلاف بين الطرفَين إلى العلن حسبما أشارت صحيفة “وول ستريت جورنال“.
حيث دعا بايدن إلى ضرورة القبول بفكرة حل الدولتَين، ليردَّ عليه نتنياهو بالتأكيد على موقفه المتشدد بعدم السماح بإدارة القطاع لكل من حماس ولا فتح ولا من طرف السلطة الفلسطينية، وأنه لن يسمح للكيان بتكرار خطأ أوسلو على حدّ قوله، مضيفًا في تصريح مكتوب له أن “غزة لن تكون حماستان ولا فتحستان”، في إشارة إلى حركتَي فتح وحماس.
قلق وغضب في الأوساط الإسرائيلية
تصريحات بايدن أحدثت قلقًا داخل الأوساط الرسمية الإسرائيلية، حيث علق وزير الاتصالات في الحكومة، شلومو كرعي، في منشور بحسابه على منصة إكس، قائلًا: “لن تكون هناك دولة فلسطينية هنا، ولن نسمح أبدًا بإقامة دولة أخرى بين نهر الأردن والبحر، لن نعود أبدًا إلى أوسلو”، مضيفًا: “على حد تعبير الرئيس بايدن، فإن أمن الشعب اليهودي على المحك هنا، قطعًا نعم، والدولة الفلسطينية ستعرضه للخطر”.
أما الوزير الإسرائيلي بمجلس الوزراء المصغّر (كابينت) جدعون ساعر، فخاطب بايدن بشأن طلب تغيير الحكومة قائلًا: “كانت هذه الحكومة الوحيدة الممكنة”، مضيفًا في تصريحاته لصحيفة “يديعوت أحرونوت”: “الآن لا توجد قرارات جيدة، هناك قرارات ضرورية”.
مشددًا على ضرورة الإبقاء على حكومة الطوارئ خلال الحرب، معتبرًا أن حل الحكومة “سيشجّع حماس وحزب الله وإيران”، وبشأن إقامة الدولتَين قال: “لن نوافق على دولة رعب فلسطينية، لا في الضفة الغربية ولا في غزة، لن نوافق على التنازل عن المسؤولية الأمنية هناك، ولن نوافق على المساس بالاستيطان بالضفة الغربية”.
وزيران إسرائيليان يرفضان تصريحات الرئيس الأمريكي جو #بايدن التي دعا فيها إلى تغيير الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، من أجل إيجاد حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني, وأكدا أن "تل أبيب لن تسمح أبدًا بإقامة دولة فلسطينية.#الجزيرة_مباشر pic.twitter.com/Rtrh61cmST
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) December 13, 2023
الهجوم على بايدن تجاوز الحكومة إلى الكنيست، حيث قالت النائبة بالبرلمان الإسرائيلي عن حزب الليكود، تسيغا ميلاكو، إن “مسألة تشكيل الحكومة هي مسألة سياسية وداخلية”، فيما اتهمت رئيسة حزب العمل اليساري (المناهض لحكومة نتنياهو)، ميراف ميخائيلي، الإدارة الأمريكية بالتناقض.
حيث قالت ميخائيلي في منشور عبر حسابها على إكس: “ينبغي أن يكون مفهومًا أن الولايات المتحدة في عهد بايدن هي التي تزودنا بالقنابل التي نستخدمها لقصف غزة، وحق النقض (الفيتو) في الأمم المتحدة هو الذي يسمح لنا بمواصلة القتال هناك”، وتابعت: “بايدن نفسه يقول اليوم بوضوح ودون لبس إن إسرائيل يجب أن تعترف بدولة فلسطينية”.
ليست أمريكا وحدها التي تغيّر خطابها
لم تكن أمريكا الدولة الوحيدة التي غيّرت خطابها تجاه تل أبيب والحرب في غزة، حيث تبعتها بعض دول أوروبا التي كانت داعمة بداية الأمر بشدة لفكرة العملية البرية والقضاء على المقاومة، غير أن كارثية الاحتلال وهمجيته في الانتقام وضعت الجميع في مأزق أمام الرأي العام العالمي الغاضب، بسبب الغطاء السياسي والعسكري الذي توفّره تلك البلدان لتل أبيب في حرب الإبادة التي تشنّها.
من جانبه، انتقد الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل، رفض نتنياهو فكرة حل الدولتَين، مشددًا على إصرار الاتحاد على هذا الحل الوحيد، مضيفًا خلال جلسة حول الشأن الإسرائيلي-الفلسطيني في الجمعية العامة للبرلمان الأوروبي، أن “أهم شيء في الوقت الراهن الحول دون موت المزيد من الناس، وإيجاد حل سياسي لهذا الصراع، للأسف إن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال إنه يعارض هذه السياسة، إنه الضمانة كي لا تقام مطلقًا دولة فلسطينية”.
كما عارض بوريل سياسة الاستيطان التي ألمح نتنياهو ووزراؤه المتطرفّين، سموتريتش وبن غفير، إلى توسيعها خلال مرحلة ما بعد الحرب، قائلًا: “لهذا يجب علينا أن نرفع صوتنا بحزم ضد توسيع المستوطنات الذي يتعارض مع قرارات الأمم المتحدة، وعلينا أن نحاول وقف العنف ليس في غزة فحسب، بل أيضًا في الأراضي الفلسطينية المحتلة”.
وانتقد الممثل الأوروبي في الوقت ذاته الانتهاكات الإسرائيلية الممارَسة خلال سريان الحرب، والتي تخالف شكلًا ومضمونًا القانون الدولي الذي تدّعي حكومة الاحتلال التزامها به، مضيفًا: “علينا أن نسأل أنفسنا ما إذا كانت إسرائيل تحترم القانون الدولي، هذا سؤال نحتاج جميعًا إلى الإجابة عنه، لن أجيب عن هذا السؤال لأنه لا يوجد إجماع (داخل الاتحاد الأوروبي)، لكنني شخصيًّا أعتقد أن هذا الحق له حدود.. قتل هذا العدد الكبير من الأبرياء لا يمكن تبريره”.
وعلى المستوى الأممي، تقلّص عدد الدول الداعمة لـ”إسرائيل” داخل الأمم المتحدة ومجلس الأمن بصورة كبيرة، حيث لم يتبقَّ صوت واحد يدعم الاحتلال وحكومته غير الولايات المتحدة، حتى بريطانيا الضلع الثاني للدعم المطلق لـ”إسرائيل” اكتفت بالامتناع عن التصويت في مشاريع قرارات وقف إطلاق النار التي يعرقلها الفيتو الأمريكي.
وعليه وجدت واشنطن نفسها الدولة الوحيدة التي تقدم غطاء الدعم لجرائم الاحتلال، ما وضعها في عزلة كاملة عن المزاج العالمي، الأمر الذي تعالت معه الأصوات الناقدة لتلك السياسة التي تشوّه صورة أمريكا دوليًّا وتضع سمعتها على المحك.
بوريل: حملة القصف على #غزة من أكثر الحملات كثافة في التاريخ والدمار في القطاع يتجاوز تدمير المدن الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية#حرب_غزة pic.twitter.com/pNVLAowxx3
— قناة الجزيرة (@AJArabic) December 9, 2023
على أمريكا أن تعيد النظر في دعم “إسرائيل”
“بايدن بحاجة إلى التوقف عن تدليل بيبي (نتنياهو)”… تحت هذا العنوان كتب الدبلوماسي الأمريكي روبرت هنتر، سفير أمريكا السابق لدى حلف الأطلسي وعضو مجلس الأمن القومي ومدير شؤون أوروبا الغربية سابقًا، مقالًا في مجلة Responsible Statecraf (مجلة إلكترونية متخصصة في تقييم السياسة الخارجية الأمريكية).
كشف هنتر أن الحرب في غزة الآن تعدّ التحدي الأصعب في السياسة الخارجية التي يواجهها بايدن، في ظل المخاوف من توسعة دائرتها لتشمل مناطق أخرى في الشرق الأوسط، تضع مصالح الولايات وصورتها أمام تهديدات قوية.
ويستعرض الدبلوماسي الأمريكي السابق المخاطر التي تنطوي على الدعم المطلق الذي تقدمه الإدارة الأمريكية لحكومة الاحتلال، لا سيما في ظل رفض نتنياهو والحكومة المتطرفة لتوصيات واشنطن بشأن تخفيف التوتر وعدم فتح الباب أمام توسيع دائرة الصراع، وهي التوصيات التي لم يصغِ إليها جنرالات الحرب في تل أبيب.
كما أن فشل بايدن في فرض وقف لإطلاق النار، والاكتفاء بهدن إنسانية مؤقتة بمساعدة وسطاء إقليميين، بجانب عدم التزام جيش الاحتلال بمناشدات تجنُّب استهداف المدنيين في العملية العسكرية في جنوب القطاع، كل ذلك يضع سمعة الولايات المتحدة في خطر، ويصعّب من عملية عودة واشنطن إلى الشرق الأوسط مرة أخرى لاحقًا، بعدما فقدت مصداقيتها وثقلها اللذين هزتهما حكومة الاحتلال.
وطالب عضو مجلس الأمن القومي الأمريكي الأسبق إدارة بايدن بأن تضع مصالح أمريكا فوق أي اعتبارات ومصالح بلدان أخرى، وأن عليها أن تعيد النظر في تقييمها لملف الصراع العربي الإسرائيلي، وفق أبجديات مختلفة تستهدف تعزيز المصالح الاستراتيجية والسياسية والأخلاقية للولايات المتحدة.
تناقض وازدواجية.. صورة أمريكا تهتزّ
حذّر رؤساء أكبر المنظمات الإنسانية في العالم الرئيس الأمريكي جو بايدن، من أن الاستمرار في دعم الإجرام الإسرائيلي في غزة سيكون له تبعاته الكارثية على صورة البلاد على المستوى الدولي، كما سيُفقد واشنطن ثقلها ويهمّش دبلوماسيتها الثقيلة.
الحقوقيون طالبوا في مقال مشترك نشرته صحيفة “نيوروك تايمز” الأمريكية، كتبه كل من الرئيسة والمديرة التنفيذية لمنظمة “كير” ميشيل نان، والرئيسة التنفيذية لمؤسسة “ميرسي كوربس” تجادا دوين ماكينا، والأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين جان إيغلاند، والرئيسة والمديرة التنفيذية لمنظمة أوكسفام الأمريكية آبي ماكسمان، ورئيس منظمة اللاجئين الدولية جيريمي كونينديك، إضافة إلى الرئيسة والمديرة التنفيذية لمنظمة إنقاذ الطفولة الأمريكية جانتي سويريبتو؛ إدارة بايدن بإنهاء تدخلاتها الدبلوماسية في الأمم المتحدة، وعرقلة مشاريع قرارات وقف إطلاق النار.
سيناتور أمريكي يعارض دعم إسرائيل عسكريا أكثر من 10 مليارات دولار#حرب_غزة pic.twitter.com/RFFDPSwabZ
— قناة الجزيرة (@AJArabic) December 5, 2023
ولفتوا أن واشنطن لم تحقق الضمانات والتعهُّدات التي قطعها بايدن على نفسه بداية الحرب، أبرزها حماية المدنيين الأبرياء، والالتزام بالقانون الإنساني، وتقديم المزيد من المساعدات، مشيرين أن أمريكا لم تفعل تجاه غزة ما فعلته تجاه مناطق الصراع والأزمات الأخرى، وهو ما يعكس ازدواجية وتناقضًا واضحَين.
وأوضح رؤساء المنظمات الإنسانية العالمية أنهم رغم معايشتهم لعشرات الأزمات والكوارث، “فإننا لم نرَ شيئًا مثل الحصار المفروض على غزة. في أكثر من شهرَين منذ الهجوم المروع على إسرائيل، الذي أسفر عن مقتل أكثر من 1200 شخص وأدّى إلى اختطاف حوالي 240 شخصًا، قُتل حوالي 18 ألفًا من سكان غزة -بما في ذلك أكثر من 7 آلاف و500 طفل- وفقًا لوزارة الصحة في غزة”.
تغيُّر الخطاب الأمريكي.. براغماتية في مواجهة الأيديولوجيا
لا يمكن قراءة تغير اللهجة الأمريكية تجاه حكومة الاحتلال بمعزل عن سريان المعركة وتطور محطات الحرب في غزة، فهي الترمومتر الذي يحدد مستوى ومنسوب رد الفعل الأمريكي إزاء حليفه وكيانه المدلل، وعليه فإن الحديث عن تعاطف إنساني أو استفاقة ضمير مسألة مثيرة للسخرية والغثيان، إذ إن البراغماتية بصفة عامة هي كلمة السر وراء تراجع الخطاب الغربي في عمومه تجاه الأزمة الحالية في غزة، وذلك في ضوء عدة دوافع ومسبّبات:
الأول: المزاج العالمي الغاضب.. لم يتعاطف الرأي العام العالمي مع القضية الفلسطينية عبر تاريخها كما يتعاطف معها حاليًّا، حيث مئات التظاهرات الحاشدة في معظم مدن العالم، بما فيها تلك الداعمة للاحتلال مثل واشنطن ولندن وباريس وبرلين، حيث شكلت تلك الاحتجاجات ضغوطًا قوية على حكومات تلك الدول المتورطة والضالعة بشكل كبير في الدماء التي تسيل في قطاع غزة.
الثاني: القلق على المصالح الأمريكية والغربية.. مهّدت الانتهاكات الإسرائيلية وجرائم الإبادة التي ترتكبها بحق سكان غزة نحو توسيع دائرة الصراع الإقليمي، بعد دخول “حزب الله” والحوثيين والجماعات المسلحة في العراق على خط المواجهة بشكل مباشر، وهو ما يضع مصالح أمريكا والغرب عمومًا في المنطقة على المحك، ويجعل من عودتها إلى الشرق الأوسط مرة أخرى مخاطرة غير محسوبة العواقب، ولعلّ استهداف الملاحة البحرية في باب المندب والبحر الأحمر ناقوس خطر ينذر بأن القادم أسوأ.
هذا بخلاف القلق من انتقال عدوى العنف إلى الداخل الغربي، حيث شهدت الشوارع الأمريكية حادثة طعن ممنهجة قام بها رجل يهودي بحقّ طفل فلسطيني بولاية إلينوي الأمريكية، وهي بمثابة جرس إنذار لما يمكن أن يكون عليه الوضع في حال استمرت الانتهاكات الإسرائيلية في القطاع.
الثالث: تفويت الفرصة على روسيا والصين.. لا شكّ أن التجييش الأمريكي بداية الحرب لدعم “إسرائيل”، وترسيخ الترسانة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط، كان أحد أهدافه توصيل رسالة إلى بكين وموسكو في ضوء حرب النفوذ التي تشنها مع الدولتَين، غير أن تطور المشهد بصورته الحالية، والقلق من أن تتحول الحرب إلى فخّ لواشنطن لا يمكن الهروب منه، سيصبّ بطبيعة الحال في صالح العملاقَين الآسيويَّين، ولعلّ زيارة فلاديمير بوتين وشي جين بينغ للرياض خلال الفترة الماضية أحد مخرجات هذا التخوف.
الرابع: صمود المقاومة وفشل جيش الاحتلال في تحقيق أهدافه.. توقع الأمريكيون بداية الأمر أن الحرب لن تستغرق وقتًا طويلًا، وأن المعركة ستُحسَم بشكل مبكّر قبل أن تتصاعد الضغوط بهذا الشكل، غير أن أداء المقاومة وإفشالها للمخطط الإسرائيلي وتكبيدها لكل تلك الخسائر في صفوف الاحتلال، فضلًا عن الفشل في تحرير الأسرى الذين بحوزة حماس وبقية الفصائل، كل ذلك قلب الطاولة وغيّر المعادلة بالكامل.
خبير في الشأن الإسرائيلي: هناك معطيات جديدة صدمت الجمهور الإسرائيلي ودفعت القادة العسكريين إلى الإقرار بأن أهداف العملية العسكرية في #غزة باتت بعيدة المنال جدا#حرب_غزة #الأخبار pic.twitter.com/JMriZuiwWo
— قناة الجزيرة (@AJArabic) December 13, 2023
ورقة انتخابية.. نتنياهو بات عبئًا على بايدن
حين دخل بايدن تلك الحرب كطرف أساسي وليس كشريك أو حليف، وذلك بتزويده لجيش الاحتلال بالعتاد والسلاح والدعم الاستخباراتي واللوجستي المطلوب، كان يضع نصب عينَيه الانتخابات الرئاسية العام المقبل، حيث كان يُمني نفسه بولاية جديدة، معتقدًا أن غزة ربما تكون الجسر الطويل للحصول على دعم اللوبي اليهودي الصهيوني في الداخل الأمريكي، بما يقلل نسبيًّا من فشله في الملفات الداخلية.
لكن التطورات التي شهدتها الحرب قلبت السحر على الساحر، وبدلًا من كونها ورقة انتخابية قوية بيده تحولت إلى نقطة ضعف ربما تطيح بمستقبله السياسي، في ظل تراجع شعبيته بسبب دعمه للاحتلال، وتغيُّر المزاج الأمريكي ضده، والانتقادات التي يتعرض لها ليل نهار بسبب دعمه غير المشروط لحكومة نتنياهو.
وحين أراد تدارك الأمر عبر التخلي نسبيًّا عن دعم الانتهاكات المطلق، وحثّ “إسرائيل” على احترام القانون الدولي بشأن تجنُّب استهداف المدنيين وإدخال المساعدات لسكان القطاع، لم يستجب نتنياهو له، رافضًا كل تلك التوصيات، ما وضع بايدن نفسه في مأزق كبير في الداخل والخارج.
وهنا أيقن الرئيس الأمريكي أن نتنياهو الذي كان يعوّل عليه في أن يكون ورقة انتخابية، أصبح يمثّل عبئًا كبيرًا قد يُنهي مستقبل بايدن السياسي إذا ما استمر في دعمه بهذا الشكل، خاصة وهو يعلم يقينًا أن نتنياهو لا يريد إنهاء الحرب مهما كان الثمن، وأنه يهدف إلى توسعة رقعتها للحفاظ على حظوظه السياسية، إيمانًا منه أن نهايتها ستكون مرافقة لنهايته هو سياسيًّا، وربما الزجّ به في السجن في ضوء قضايا الفساد المتورّط فيها، فضلًا عن الفشل الذريع في إدارة المعركة.
بايدن: أنا صهيوني، وليس من الضروري أن تكون يهوديا لكي تكون صهيونيا
#حرب_غزة pic.twitter.com/YXtYVIUt4U
— قناة الجزيرة (@AJArabic) December 12, 2023
وعليه، جاء الخطاب بتلك الحدة غير المسبوقة، مطالبًا بإجراء تغييرات في الحكومة، كخطوة أولية بطبيعة الحال نحو إزاحة نتنياهو نفسه عن المشهد بعد الحرب، فضلًا عن مخاطبة الشعب اليهودي بصفة عامة وليس الشعب الإسرائيلي، في رسالة واضحة بأن ما يقوم به نتنياهو سيؤثر بطبيعة الحال على كل اليهود في شتّى أرجاء الأرض.
ورغم كل هذا، لابد من التفرقة بين موقف إدارة بايدن من نتنياهو وحكومته وموقفه من دولة الاحتلال والحرب على غزة بصفة عامة، فانتقاده لرئيس الحكومة العبرية لا يعني بطبيعة الحال تخليه عن الكيان المحتل ولا تغير موقفه الداعم له في تلك المعركة، فهناك بون شاسع بين امتعاضه من سياسات نتنياهو التي تعرضه للانتقادات ومن ثم تقلل من شعبيته وحظوظ حزبه السياسية، وبين دعمه اللامحدود لدولة الاحتلال، وهو التعهد الذي قطعته كل الأحزاب والكيانات والهيئات في الداخل الأمريكي أيا كانت هوية من يجلس في البيت الأبيض.
وفي كل الأحوال، يتعامل بايدن وإدارته مع الملف الغزّي كورقة انتخابية، لا علاقة لها بالاعتبارات الإنسانية على وجه الإطلاق، يصعّد من اللهجة حين يخدم ذلك مصالحه، ويهدّئ منها حين تقتضي الضرورة، غير معنيّ تمامًا بالضحايا من النساء والأطفال، وتشريد مليوني مواطن من أراضيهم، فكل ذلك لا يساوي صوتًا انتخابيًّا واحدًا في ميزان من أعلن للعالم أنه صهيوني حتى النخاع.