قد يكون آخر ما شاهده المواطنون الأتراك المتابعون لمسيرات الديمقراطية التي يقوم بها زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو تدحرج الأخير وسقوطه على ظهره في أثناء نزوله من منطقة مرتفعة في اليوم الرابع للمسيرات، حيث اعتزم الرجل البدء بمسيرات مشي من أجل تحقيق العدالة في تركيا كما يقول، وبما أن هذا الموقف ليس موقف تندر أو شماتة فكل إنسان قد يتعرض للسقوط على الأرض، لكن هذا بدا أشبه بحالة كليجدار أوغلو المتكررة في المواقف المحرجة وغير المنسجمة مع الإرادة الشعبية.
إذ إن الموقف الوحيد ربما الذي بدا فيه منحازًا للإرادة الشعبية هو الأسبوع الذي أدان فيه المحاولة الانقلابية ووقف مع الرئيس رجب طيب أردوغان ثم لم يلبث أن عاد ليتهم الحكومة بأن الانقلاب كان مدبرًا ومخططًا من قِبلها وهو ما لا يقتنع به الشعب التركي.
وقد انتقد بعض مسؤولي حزب العدالة مسير كليجدار أوغلو بالقول إن الخروج في الوقت الحالي ليس له معنى، فالشعب خرج في الشوارع ليلة 15 من تموز عندما أحبط الانقلاب وكان كليجدار أوغلو في ذلك الوقت مختبئًا ببيت رئيس بلدية بكر كوي في إسطنبول، كما أن الذكرى السنوية الأولى للانقلاب على الأبواب بعد أقل من شهر تقريبًا وسيخرج الناس للاحتفال بذكرى خروجهم الحقيقي في الشوارع لنصرة الشرعية والديمقراطية.
ولكن هل المواطن التركي مهتم بما يقوم به كليجدار أوغلو؟ وهل ما يدعو له زعيم حزب الشعب أولوية للشعب التركي أم أن المواطن التركي له أولويات أخرى؟ وهل المواطن التركي يرى مشكلة في نظام العدالة في البلاد؟ لعل الإجابة على هذه التساؤلات تعيدنا إلى نتائج استفتاء تم إعلانه قبل شهرين تقريبًا من الآن.
حيث أعلنت شركة Adil Gür استطلاعًا للرأي أجرته في تركيا عن أهم المشاكل التي يرى المواطن التركي ضرورة حلها، وقد تم إجراء الاستطلاع في 41 مدينة وفي 214 محلة وقرية، وشارك فيه أكثر من 5 آلاف شخص نصفهم تقريبًا من النساء، وقد تم إجراؤه وجهًا لوجه مع المستطلعة آراؤهم ومع العلم أن شركة Adil Gür هي الشركة الوحيدة التي جاءت نتائج استطلاعها مقاربة لنتائج الانتخابات البرلمانية في تركيا في نوفمبر 2015 وقد استفادت عدة مؤسسات تركية من نتائج الاستطلاعات التي تقوم بها الشركة ومن هذه المؤسسات وزارة المالية ومؤسسة الإحصاء التركية.
هناك تراجع في نسبة من يرون أن مشكلة الإرهاب أهم مشكلة تواجهها تركيا
وقد تناول استطلاع الشركة المشاكل التي تواجهها تركيا على الصعيدين الداخلي والخارجي ومن خلال سؤال المواطنين عن أهم المشاكل التي يرون أهمية البدء بحلها، جاءت في بداية هذه المشاكل مشكلة إرهاب داعش وحزب العمال الكردستاني، وعلى الرغم من أن مشكلة جماعة غولن حتى بداية العام الحالي كانت تتصدر أهم المشاكل التي ينبغي حلها من وجهة نظر المستطلعة آراؤهم، فإن هناك تراجع في نسبة من يرون أن مشكلة الإرهاب أهم مشكلة تواجهها تركيا، ولعل هاتين المشكلتين بشكل رئيسي لم يتطرق لهما كليجدار أوغلو ولم يتناولهما مع أنهما من أهم المشاكل التي تواجه تركيا.
وكذلك الحال مع المشكلة الثانية والتي تراجعت للمركز الثاني كما ذكرنا فهي مشكلة جماعة غولن التي تتهمها الدولة بتدبير محاولة الانقلاب في 15 من تموز 2016 والذي تقترب الذكرى الأولى له بعد شهر تقريبًا حيث لم تستطع الدولة أن تعيد رئيس التنظيم فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا حتى مع قدوم إدارة جديدة في واشنطن برئاسة دونالد ترامب، وكذلك أيضًا ما زالت عدة دول أوروبية من بينها هولندا وألمانيا توفر الحماية لأنشطة جماعة غولن.
أما المشكلة الثالثة التي يرى المستطلعة آراؤهم ضرورة حلها فهي مشكلة البطالة والتي تشهد ارتفاعًا وتبلغ في تركيا حاليا 13% وتليها مشكلة مرتبطة بها وهي مشكلة الاقتصاد، ولعل الحكومة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية تدرك هذا الأمر جيدًا، وقد بدأت عدة حملات وتبنت سياسات من أجل النهوض بالاقتصاد ومن ذلك تخفيف العديد من التوترات الخارجية مع عدد من الدول من أجل تنشيط الاستثمارات والسياحة والعلاقات التجارية ومن هذه الدول روسيا و”إسرائيل”، إضافة إلى بدء حملات لتشجيع قطاع السياحة الذي شهد تراجعًا كبيرًا في العام 2016 بسبب الهجمات الإرهابية والمعارك التي تخوضها الدولة على حدودها.
وفي هذا السياق تدور في كواليس حزب العدالة والتنمية أخبار عن احتمال حدوث تغيير وزاري يشمل عدة وزراء في الحكومة من بينهم وزير الاقتصاد، حيث تفيد هذه الأخبار عن احتمال عودة الوزير السابق علي بابجان الذي كان له دور كبير في النهوض بالاقتصاد في أثناء إدارته السابقة لهذا الملف، وقد حلت بعد مشكلة البطالة والاقتصاد مشكلة خامسة هي مشكلة الفقر.
مع استعادة العلاقة مع روسيا بعد أزمة إسقاط طائرة السوخوي ومع الترحيب بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في البيت الأبيض من قبل الرئيس ترامب وتطبيع العلاقات مع أكثر من دولة في المنطقة وإجراء عدة زيارات ناجحة للهند والصين وباكستان، يبدو أن التصور أصبح ينظر إليه بإيجابية أكثر من ذي قبل
وجاءت في الترتيب بعد ذلك مشكلتان بنفس المستوى وهما مشكلة التعليم ومشكلة السياسة الخارجية، أما مشكلة السياسة الخارجية فقد كانت تؤخذ في الاعتبار في وقت مضى من العام السابق في ظل الإشكاليات مع عدة دول مشكلة كبيرة، ولكن مع استعادة العلاقة مع روسيا بعد أزمة إسقاط طائرة السوخوي ومع الترحيب بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في البيت الأبيض من قبل الرئيس ترامب وتطبيع العلاقات مع أكثر من دولة في المنطقة وإجراء عدة زيارات ناجحة للهند والصين وباكستان، يبدو أن التصور أصبح ينظر إليه بإيجابية أكثر من ذي قبل.
ولعلنا في هذه النقطة نتوقف عند أزمة قطر مع السعودية والإمارات، فقد كانت مقاربة كليجدار أوغلو أيضًا هنا غير منسجمة مع إرادة الشعب التركي الذي يرفض الظلم والحصار الذي تتعرض له قطر خاصة مع مواقف الأخيرة الداعمة لتركيا.
أما المشكلة التي تلت ذلك بحسب نتيجة الاستطلاع فقد كانت مشكلة سوريا التي أصبح عمرها 6 سنوات تقريبًا، وربما يرجع ذلك لتعود المواطنين الأتراك على ذلك أو قيام الحكومة بحل مشاكل اللاجئين السوريين بطرق لا يشعر المواطن التركي بآثار سلبية لها، إضافة إلى تضامن الكثير من الأتراك مع اللاجئين السوريين ومحاولة مساعدتهم، وتقريبًا لوحظ من نتائج الاستطلاع أن هذه المشكلة ثابتة في هذا المستوى منذ أكثر من عام تقريبًا.
أما مشكلة التعليم فإن الحكومة تعمل على حلها من خلال تعديل المناهج والتطوير المستمر في الوسائل التعليمية والتدقيق في أنظمة الاختبارات المدرسية وخاصة المحورية منها.
ثم تأتي مشكلة الديمقراطية وحقوق الإنسان التي جاءت في ترتيب متأخر، ولعل هذا يبين لنا الفجوة بين الهالة الكبيرة التي تعطيها الصحف وخاصة الغربية منها لمشكلة الديمقراطية وحقوق الإنسان في تركيا ووقوعها في ترتيب متأخر في نظر عينة من الشعب التركي في 41 مدينة تركية.
ولعل الغريب وقوع المشكلة الكردية أو مشكلة الجنوب الشرقي في المركز السادس وربما يرجع هذا للأماكن التي نفذ فيها الاستفتاء.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه هي النتيجة العامة للاستطلاع فيما هناك فروق كبيرة في آراء المواطنين الذين يؤيدون حزب الشعوب ذي الأغلبية الكردية وحزب العدالة على سبيل المثال، ويمكن تعرف هذا من خلال السؤال الثاني للاستطلاع الذي سأل كيف ترى تركيا في الست أشهر القادمة؟
فأجاب مؤيدو حزب العدالة المشاركين في الاستطلاع كالتالي: قال 86% منهم إن القادم أفضل، بينما قال 11% إنه لن يحدث تغيير، فيما قال 3% إن الأمور متجهة للأسوأ، وربما يرجع سبب هذه النتيجة المتفائلة لقناعتهم بأن عودة أردوغان لرئاسة الحزب ستكون مفيدة.
أما مؤيدو حزب الحركة القومية فقد انقسموا إلى 3 أقسام متساوية تقريبًا بين بقاء الأمور على ما هي عليه وتحسنها وتدهورها، وهذا يعكس ربما حالة التشظي داخل صفوف الحزب.
إن الطرف الذي سيحظى بدعم المواطن التركي هو من يركز على هذه المشاكل ومن يعطي الاهتمام لأولويات المواطن التركي ولا تبدو أحزاب المعارضة تركز على هذه المشاكل مع أن تركيزها عليها قد يزيد من رصيد شعبيتها
مؤيدو حزب الشعب الجمهوري قال 7% منهم إن الأمور للأفضل، فيما قال 67% إن الأمور للأسوأ، بينما وجد قرابة 26% أن الأمور باقية على ما هي عليه، فيما جاءت نظرة المؤيدين لحزب الشعوب ذي الأغلبية الكردية أكثر تشاؤمًا.
وقد جاء في نتائج الاستفتاء ملاحظة تراجع النظر لمشكلة الإرهاب (وقد يفسر هذا بالجهد الأمني الكبير في تركيا بعد الحملات في الجنوب الشرقي وعلى الحدود مع داعش) فيما يزداد الاعتبار لمشكلة الاقتصاد والبطالة وذلك في الفترة بين تموز 2016 ومارس 2017 وهو تحدٍ ما زال على تركيا مواجهته بحزم، خاصة بعد تراجع نتائج الاستفتاء في المدن الكبرى.
إن الطرف الذي سيحظى بدعم المواطن التركي هو من يركز على هذه المشاكل ومن يعطي الاهتمام لأولويات المواطن التركي ولا تبدو أحزاب المعارضة تركز على هذه المشاكل مع أن تركيزها عليها قد يزيد من رصيد شعبيتها.