المشهد (١)
اختفى أحمد فجأة بعدما صعد إلى أعلى المنارة، كان الباطنيون يبحثون عنه في كل اتجاه، ورغم قربهم منه فإنهم فشلوا في إيجاده، لم يكن أحد يعرف سر المنارة سوى حارس الجامع، ولشدة بغضه لهذه العصابة دلّه على السر.
المشهد (٢)
وكأني بنور الدين زنكي وهو يشرف على بناء المنارة، كانت أجواء العمل مشابه لتلك التي صورها فيلم “الرسالة” في بناء المسجد الأول، إلا أن الاختلاف جاء من الميل الذي وضعوه فيها عمدًا، ثم أضفى الزمان بصمته عليها فمالت 40 سم إضافية.
تأملها طويلًا سبع مرات، بعد انتهاء كل جزء منها كان يدقق في تفاصيلها، يشير إلى رصف الآجر بين الأفقي والقائم والمائل كما الأشكال الموشورية، فتختلف مستويات الرصف بين السطحي والعميق والأعمق، فأضحت تحفة معمارية بحق.
اعتنى زنكي بكل حجر وُضع في بناء المنارة، ثم تحول الجلوس بظلها عشقًا له، يجمع جنده يحدثهم عن خطورة الغزو الصليبي ويضعون الخطط لمقاومته، كانت توجيهاته الملهمة تتفتق من تلكم البقعة، كان يقول لأصحابه: “سر عجيب في هذه الأرض، عندما أجالسها تتواردني الأفكار، وكأن هذا المكان مركز جاذبية تسبح حوله الأفكار والخطط”.
أراد زنكي للمنارة أن تكون رمحًا راسخًا في الأرض، يشهد على جهاده وصولاته فيها، أرادها عنوانًا للتعريف بأهل هذه المدينة، رمزًا في قلوب أحرارها، عكّازًا يتكأ عليه كبارها إن مال بهم الزمان كما مال بها.
المشهد (٣)
تأمل أحمد المسجد بعد أن خرج الباطنيون وعجزوا عن إيجاده، دخل الحرم بهدوء، أصبح المحراب أمامه مباشرة، وجد نقشًا فوقه مرسومًا بخط عربي جميل، كُتب فيه: “شُيد على نفقة نور الدين زنكي الخاصة”، وفي زواياه رأى حلقات للقرآن والذكر أصواتهم كطنين النحل، يقرأون أسانيد الإجازات وعلى سواريها يسندون رواياتهم.
المشهد (٤)
كان أحمد يتنقل بين الزمان والمكان بأسلوب عجيب، لم يكن يعرف كيف يستطيع القفز بين مئات السنين بهذا الشكل، إلا أن شيئًا واحدًا بقي عاجزًا عنه، الرجوع إلى مرحلة نور الدين زنكي ومشاهدة مراحل البناء لمعرفة السر الذي تحويه المنارة.
المشهد (٥)
فجأة تحول المشهد أمامه إلى سواد قاتم، لم يستطع رؤية أيّ شيء، إلا أن أصواتًا ضوضائية كانت تصل إلى أذنيه، وبعد أن بدأت الرؤية بالتكشف رويدًا شاهد رجالًا غلاظًا لم يرَ مثلهم من قبل، كان قد رأى أشباههم عند دخول المغول إلى الموصل لكن لم يكونوا هم أنفسهم، كان هؤلاء أشد إجرامًا وأكثر غلظة، يتقد الشر من أعينهم ويقطر الخبث من لحاهم قطرًا، وتنفث أفواههم سمًا زعافًا.
اعتلى أحدهم المنبر دون أن يأبه لوجوده، وقبل أن يتكلم سمع أصحابه يكبرون ويهللون، كانوا ينادونه” خليفة المسلمين وأميرًا للمؤمنين”، ولكن لم يكن هناك أي شيء يوحي بالإيمان، كان كل شيء متوشحًا بالسواد، قلوبهم قبل أي شيء.
فقط طفل صغير كان في أحد زوايا المسجد، ربما لم يكن يفقه ما الذي أتى به إلى هذا المكان، تساءل أحمد في نفسه: “هل يشبه أمره أمري”؟
المشهد (٦)
خلا الجامع من أي أحد، لم يكن سواه فيه، استمر على هذا الحال عدة ساعات قبل أن يحين الفجر، قطع حارس المسجد عليه سكونه، أخبره أن رجلًا سيأتي اليوم إلى الجامع، وسيلقي كلمة إرشادية بمناسبة المولد الشريف بعد صلاة العصر تحديدًا.
بدأ يفكر، لماذا يولي الحارس رجلًا كل هذا الاهتمام؟ وبعد أن أذّن المؤذن لصلاة العصر، إذ بجموع المصلين تملأه، مستبشرين مقبلين فرحين، كانوا ينتظرونه بشوق، دخل عليهم بوقار شديد، كان صوته رخيمًا ذا نبرة ثابتة سَمِعه في أثناء سلامه على المصلين، وحينما بدأ يلقي موعظته ويشرح قصة “أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء”، بدا وكأنه يصور لهم فيلمًا وثائقيًا وليست كلمة وعظية، عَرَف فيما بعد، ومن تهامس المصلين، أنه الشيخ الرضواني.
المشهد (٧)
سمع أحمد صراخًا فظيعًا يأتي من المنارة، هرع إليها، وجد داخلها رجالًا تعلو وجوههم المهابة قد اجتمعوا على غير ميعاد، إلا أن متفجرات شديدة التأثير وضعت حولهم، كانت مزروعة في كل مكان، حاول التعرف على بعضهم لكنه لم يستطع، أحدهم يتوسل إليه إنقاذ المنارة أو يفعل أي شيء يوقف الدمار الوشيك.
ومما زاد حيرته في هؤلاء أن لا أحد كان يكترث لحياته، كلهم يحاولون إنقاذ الموقف، حاول بقدراته وذكائه الخارق أن يساعدهم، حاول تفكيك المتفجرات فشل، حاول أن يخرج أحدهم من هذا المأزق، لكن لم يستطع، كانت الأسلاك الشائكة تطوقهم، حادة جدًا، وتخلّف فيه جروحًا غائرة كلما زاد على الخطوة.
ورغم ما في ذلك الموقف من وجل، فإنهم كانوا يتكلمون عن أزمانهم المختلفة، كان اسم كبيرهم زنكي، ثم الباقون على التسلسل من اليمين: الجليلي، العمري، الرضواني، الصواف، شيت خطاب، غانم حمودات، إدريس، ومما فهمه أن استنفارًا عامًا حدث لأحباب المنارة الراحلين، وقدموا على إثره لإنقاذها وانتشال الجثث المترامية حولها جرّاء الحرب، ومحاولة فعل ما عجز عن فعله المعاصرون.
اشتدّ نزيفه نتيجة محاولاته المتكررة، أوشك على السقوط مغشيًا عليه، لملم حاله بعد إجهاد شديد ثم قرر الوصول إلى مركز شرطة قريب، علّه يجد فيه أحدًا يساعده، وبينما كان يشرح لأحد العناصر الحال الذي وجده في المنارة، دوّى انفجار شديد في الجامع، سقطت على إثره المنارة فورًا، وتناثرت أشلاء أولئك الرجال في كل مكان.