إذًا، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بتعجّب واستنكار شديدين على أحد شروط الدول الأربع المحاصِرة لقطر منذ 19 يوماً، والمتمثل في إغلاق قناة الجزيرة والقنوات التابعة لها ومنصّات إعلامية عربية أخرى، ضمن مجموعة مطالب أخرى قدمتها كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر، كشرط لعودة العلاقات مع الدوحة ورفع الحصار عنها.
العجيب هنا هو زج منابر إعلامية أصبحت أبرزها (الجزيرة) علامة تجارية إعلامية عالمية وعمرها أكثر من 20 عامًا في أزمة سياسية بين دول الخليج، اعتادت عليها الشعوب العربية التي لم تكن تعرف غير قنوات حكومية أو تابعة لها، والتي كانت أفضل ما تقدّمه هو أنباء عن أنشطة وفعاليات الحكام البروتوكولية اليومية (استقبل وزار وودّع وهنّئ وأدان ووضع ورفع..)، لمدة نصف ساعة أو يزيد من عمر نشرات الأخبار.
أبرز شروط الدول المحاصرة لقطر هو إغلاق قناة الجزيرة
في وقت غابت فيه هذه القنوات الرسمية وأخواتها -التي لم تكن تملك سوى الطبل وعصاة الضرب عليه- عن المواطن العربي وهمومه وقضاياه، جاءت وسائل الإعلام الحرة هذه لتكون سلطة فوق السلطة الحاكمة، وتكون عين المواطن العربي الذي ملّ أخبار التهليل والتضليل ومنابر السلطة، حيث نجحت هذه الوسائل التي تمثل صوت الشعوب في صناعة الوعي العام لدى الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج، وكان ذروة ذلك في خضم ثورات الربيع العربي وما بعدها.
لم يعجب ذلك الحكومات والحكّام، وعلى رأسهم محور الرّياض – أبو ظبي، والذي كان يعاني منذ البداية من فوبيا الثورات وحركات الإسلامي السياسي المعتدل، فخشي على ملكه، فسَجَن واعتَقل وقَتَل ووأد أحلام الشعوب في مهدها، ووصم كل من يهدد ملكه “بالإرهاب”، فشن الحروب وموّل الانقلابات وصنع اللوبيات في الشرق والغرب وأنفق عليها مال الأرض، والآن يريدون أن يطفئوا عين الناس وبوصلتها نحو الحقيقة، بدعوى “إثارة الفتن والتحريض”، وهم أهل ذلك وخاصّته.
لماذا كل هذه الحرب الشعواء، الجواب واضح! إنهم لا يريدون وعيًا لهذه الشعوب، يحاربون الوعي بالتجهيل والتضليل والتسخيف والتسطيح، ووضع بدائل مبتذلة تروق لهم وتمسخ أجيالاً بأكملها
ما المُراد من افتعال حروب سياسية كبيرة في المنطقة وتهديد أمنها واستقرارها وحصار دول لأنه تحتضن فضائية نافست وسائل إعلام عالمية وباتت صوت الشعوب الهادر، ما المُراد من حجب منصات إعلامية عربية يقودها شباب يعبّرون فيها عن آرائهم وطموحاتهم وأحلامهم وأوجاعهم، ويكتبون فيها ما تمليه عليه عقولهم لا مقصّ الرقيب؟ لماذا كل هذه الحرب الشعواء، الجواب واضح! إنهم لا يريدون وعيًا لهذه الشعوب، يحاربون الوعي بالتجهيل والتضليل والتسخيف والتسطيح، ووضع بدائل مبتذلة تروق لهم وتمسخ أجيالاً بأكملها.
نون بوست ومواقع عربية أخرى تم حجبها في السعودية والإمارات ومصر
لا نريد وصاية على إعلامنا، المطالبة بإغلاق قناة الجزيرة وكافة القنوات التابعة لها ومواقع إعلامية أخرى باتت وعي الشعوب وضميرها، هو اعتداء على كافة المواثيق الدولية التي تحمي الحق في نشر المعلومات وتلقيها، وكما قالت منظمات حقوقية دولية مثل المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا، فقد “كشفت هذه المطالب عن عورة أنظمة دكتاتورية في الشرق الأوسط -ومنها دول الحصار- وألحقت بهم العار لما ألحقوه بشعوبهم وشعوب المنطقة من أضرار جسيمة نالت من حق الإنسان في حياته وسلامته الجسدية والنفسية”.
باختصار شديد، ما تريده هذه الحكومات اليوم هو العودة لما قبل 20 عاماً، حيث عصر الفضائيات والصحف الحكومية، التي لا يسمع إلا منبر الدولة وصوتها الواحد، فلا صوت يزعج أسماع هذه الحكومات ويقضّ مضاجعها
إن الزج بوسائل إعلام ومنصات صحفية عربية في هذه الأزمة واستخدامها كورقة ضغط على دولة قطر هو أمر ينمّ عن حجم خوف هذه الأنظمة والحكومات الديكتاتورية على نفسها من الحقيقة، فلو كانت هذه الوسائل الإعلامية مضللة أو كاذبة فما الذي يضير هذه الحكومات إن كانت على حق وحقيقة؟ لكنها ضعيفة وتعلم أنها على خطأ وتخشى أن ينكشف سرها يوماً بعد يوم أمام الشعوب التي ضاقت ذرعًا أو تكاد بها، فهي اليوم تحجب عن شعوبها الحقيقة، ليكونوا أول المتضررين من هذا الحجب وليس دولة قطر أو هذه المؤسسات.
باختصار شديد، ما تريده هذه الحكومات اليوم هو العودة لما قبل 20 عاماً، حيث عصر الفضائيات والصحف الحكومية، التي لا يسمع إلا منبر الدولة وصوتها الواحد، فلا صوت يزعج أسماع هذه الحكومات ويقضّ مضاجعها، ولا منبر يغطي آلام الشعوب وأوجاعها وآلامها وجرائم المحتلين والغازين، يريدون عودة الشعوب إلى سباتها العميق الذي لا رجاء منه.
نحن سلاحنا الوعي، وهم سلاحهم التكميم وإخراس الأصوات وتكسير الأقلام، ولا بدّ للأول أن ينتصر
ولكن كيف يكون لهم ذلك ونحن في ذروة ثورة الانترنت والتواصل الاجتماعي، كيف سيخرسون هذه المنصات الضخمة التي باتت تدخل كل بيت وكل شارع وكل حارة وزقاق؟ وكيف لهم أن يكتموا صوت هذه المواقع المحجوبة وهناك عشرات الحلول والتقنيات التي ستخترق حجبهم بكل تأكيد؟ هم يريدون اليوم العودة بعقارب الساعة عشرات السنين للوراء، أملًا في قتل الوعي ونسف تراكمه الذي بُني خلال السنوات الأخيرة، ولكن هيهات ذلك.
فقد نجحت هذه الوسائل الإعلامية وهذه المنابر في الوصول للناس والشعوب في وقت قياسي وبشكل مبهر، وهم فشلوا في ذلك بشكل كبير وواضح، الأمر الذي جعلهم اليوم يشتاطون غضبًا ونقمة، فخطاب التضليل والكذب واخفاء الحقائق وتجميل ما هو مشوّه مصيره الفشل، والرهان عليه خاسر. نحن سلاحنا الوعي، وهم سلاحهم التكميم وإخراس الأصوات وتكسير الأقلام، ولا بدّ للأول أن ينتصر.