في كانون الثاني/ ديسمبر من سنة 2015، وقع تسريب مذكرة هامة جدا من جهاز المخابرات الأجنبية الألماني إلى وسائل الإعلام، مفادها أن القادة السعوديين الجدد يزعزعون الاستقرار في الشرق الأوسط. وورد في المذكرة أن الملك سلمان ومستشاريه غيروا السياسة الخارجية المعتمدة منذ عقود “بسياسة التدخل المتهور”. ويشير الألمان بذلك لابن الملك المفضل، محمد بن سلمان، الذي سرعان ما أصبح ولي ولي العهد ووزير الدفاع، بالإضافة إلى كونه شريكا اقتصاديا هاما.
بالإضافة إلى ذلك، حذرت المذكرة من أن تركيز الكثير من السلطة في يد أمير شاب عديم الخبرة نسبيا يشكل “خطرا”، نظرا لأنه في سبيل إثبات قدراته على خلافة المملكة، بينما والده لا يزال على قيد الحياة، قد يقدم على فعل أي شيء”.
بتاريخ 21 حزيران/ يونيو، عزم الملك سلمان، البالغ من العمر 81 سنة، على تنحية ابن أخيه وولي العهد وتنصيب ابنه محمد بن سلمان الأول في ترتيب العرش. وبذلك، ضمن الأمير، الذي لم يتجاوز عقده الثالث، مكانته في خلافة المملكة والآن تشير كل المؤشرات إلى أنه سيصبح الملك للعقود القادمة. وبالتالي، سيرسخ صعود بن سلمان السياسة الخارجية المعتمدة من قبل السعودية في الشرق الأوسط، خاصة موقفها العدواني تجاه منافستها الإقليمية، إيران.
إن تعزيز مكانة محمد بن سلمان في السلطة يمكن أن تعني نشوب المزيد من الصراعات في الشرق الأوسط، ناهيك عن استمرار حالة عدم الاستقرار في المنطقة
مما لا شك فيه، يقف ولي العهد الشاب وراء دخول السعودية في أكبر مغامرة لها منذ تولي والده مقاليد الحكم في كانون الثاني/ يناير من سنة 2015. وذلك يتجلى بدءا من الحرب التي تقودها السعودية في اليمن، وحملة عزل قطر، وصولا إلى سعيه لإعادة النظر في الاقتصاد السعودي وجعله لا يعتمد بالأساس على النفط.
في الواقع، إن تعزيز مكانة محمد بن سلمان في السلطة يمكن أن تعني نشوب المزيد من الصراعات في الشرق الأوسط، ناهيك عن استمرار حالة عدم الاستقرار في المنطقة. من جانب آخر، رفض بن سلمان التفاوض مع إيران قائلا إن الجمهورية الإسلامية تسعى للسيطرة على العالم الإسلامي وافتكاك الدور التقليدي الذي تضطلع به السعودية كحارس أقدس مدينتين في الإسلام، مكة المكرمة والمدينة المنورة. وفي لقاء مع أحد القنوات التلفزيونية السعودية صرح بن سلمان، “نعرف أننا هدف إيران الرئيسي، لذلك سنبذل قصارى جهدنا لتنشب الحرب هناك في إيران وليس في السعودية”.
علاوة على ذلك، إن صعود بن سلمان سيقرب بيت سعود، على الأقل فرع سلمان المهيمن، أكثر إلى إدارة ترامب، خاصة وأن ترامب أبدى ميله للأمير الشاب الذي أقام تحالفا مع صهره ومستشاره الرئيسي، جاريد كوشنر.
وفي آذار/ مارس، اجتمع بن سلمان مع ترامب في البيت الأبيض لوضع حجر الأساس لزيارة ترامب التي أجراها الشهر الماضي للمملكة العربية السعودية، وهي المحطة الأولى في رحلته الخارجية الأولى. وقد استمر كوشنر وبن سلمان في وضع التفاصيل لعدة أسابيع، وذلك لضمان حصول ترامب على استقبال كبير في الرياض، حيث ألقى خطابا على العشرات من القادة العرب والإسلاميين الذين جمعتهم السعودية.
قام ترامب وكبار مستشاريه بتحويل السياسة الأمريكية نحو دعم أكثر وضوحا موجه للمملكة العربية السعودية، بينما كان النقد متواصل لإيران
والجدير بالذكر أن سلمان عيّن في نيسان/ أبريل الماضي ابنه الأمير خالد بن سلمان، وهو طيار مقاتل في أواخر العشرينات يفتقر لأي خبرة سياسية أو دبلوماسية، سفير السعودية لدى الولايات المتحدة. وكان ذلك بمثابة رسالة واضحة من الملك لترامب، الذي وضع أيضا أقرباءه في مواقع السلطة، مفادها أنه سيكون هناك خط مباشر بين بيت آل سعود ومجلس ترامب.
وبمجرد تولي ترامب منصبه، كان لدى السعوديين آمال كبيرة، وعمل الرئيس الأمريكي الجديد على عدم تخيبها. في الحقيقة، قام ترامب وكبار مستشاريه بتحويل السياسة الأمريكية نحو دعم أكثر وضوحا موجه للمملكة العربية السعودية، بينما كان النقد متواصل لإيران. عموما، إن خطاب ترامب المناهض لإيران، وتركيزه على طهران باعتبارها أكبر مصدر لعدم الاستقرار في المنطقة، يتناسب تماما مع القيادة السعودية الجديدة.
على مدى عقود، عملت المملكة العربية السعودية إلى حد كبير وراء كواليس السياسة الخارجية التي استفادت من التوسع الاقتصادي بسبب ارتفاع أسعار النفط. وكان القادة السعوديون يمارسون سلطتهم بتمويل من الوكلاء ووسائل الإعلام والسياسيين العرب والمسلمين المقربين.
على سبيل المثال، بعد الانقلاب العسكري، الذي أطاح بحكم الإخوان المسلمين في مصر في يوليو/ تموز سنة 2013، قدم السعوديون أكثر من 12 مليار دولار للحفاظ على الاقتصاد المصري والحيلولة دون انهياره. وفي هذا الإطار، مارست السعودية الضغط على مملكتين للتعهد بتقديم المزيد من المساعدات للقاهرة. وفي صائفة 2015، أصدرت ويكيليكس مجموعة من الكابلات الدبلوماسية السعودية المسربة التي كشفت “دبلوماسية دفتر الشيكات” التي تعتمدها المملكة.
لسنوات، تجنبت المملكة العربية السعودية إلى حد كبير التدخل العسكري المباشر، لكن ذلك تغير في أوائل سنة 2015، عندما صعد سلمان إلى العرش بعد وفاة أخيه الملك عبد الله، الذي دام حكمه طيلة عقدين من الزمن. وبدلا من الاعتماد على التدخل العسكري الأمريكي ومحاربة إيران من خلال الوكلاء والدبلوماسية الاقتصادية، كما فعل سلفه، سرعان ما اعتمد سلمان ودائرته الداخلية على سياسة خارجية أكثر عدوانية.
مع انخفاض أسعار النفط، شن الملك سلمان حربا ضد المتمردين الحوثيين في اليمن بعد شهرين فقط من الحكم. كما عيّن سلمان ابنه، البالغ 29 عاما آنذاك، نائبا لرئيس الوزراء ووزير الدفاع للإشراف على حملة اليمن. وأوضح قادة المملكة أنهم مستعدون لمواجهة إيران في حربهم الإقليمية المتنامية، التي تمتد عبر العراق وسوريا واليمن والبحرين ولبنان. وكما جاء في مذكرة الاستخبارات الألمانية فإن “السعودية تريد أن تثبت أنها مستعدة لمواجهة المخاطر العسكرية والمالية والسياسية التي لم يسبق لها مثيل حتى لا تقع في وضع غير مؤات في المنطقة”.
منذ اندلاع الحرب اليمنية في آذار/ مارس 2015، تعثرت المملكة في صراع أسفر عن مقتل 10 آلاف يمني وترك ربع سكان البلاد على حافة المجاعة
في الوقت الراهن، لسائل أن يسأل؛ ما هي نتائج موقف الرياض الأكثر عدوانية؟ منذ اندلاع الحرب اليمنية في آذار/ مارس 2015، تعثرت المملكة في صراع أسفر عن مقتل 10 آلاف يمني وترك ربع سكان البلاد على حافة المجاعة. وبحسب بعض التقديرات، فإن الحرب تكلف السعودية 200 مليون دولار في اليوم. وعلى الرغم من الضربات الجوية المكثفة والحصار، لم يتمكن السعوديون وحلفاؤهم من طرد الحوثيين من العاصمة اليمنية. لكن القيادة السعودية، خاصة بن سلمان الذي لطالما افتخر بتوجيه حملة اليمن، بصدد دراسة إمكانية التخلي عن الحرب وإعطاء إيران انتصارا ملحوظا.
كان الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، من حين إلى آخر، يوجه انتقادات لاذعة للأعمال السعودية في اليمن، بيد أن ترامب التزم الصمت حيال استئناف مبيعات الذخائر الأمريكية للرياض التي ألغاها أوباما. ولعل ذلك ما جعل السعوديين يرون في ترامب الحليف المناسب الذي لن يتخلى عنهم على عكس أوباما، الذي تفاوض مع إيران حول برنامجها النووي في تموز/ يوليو 2015. بالإضافة إلى تغيير أوباما للسياسة الأميركية وترجيح الكفة لصالح إيران، استنكر الزعماء السعوديون دعمه البلاغي للثورات العربية في سنة 2011 وندائه للقادة العرب بشأن الحاجة إلى إصلاحات ديمقراطية.
منذ توليه دفة الحكم، أظهر ترامب ميلا ضئيلا لانتقاد السعوديين، على الرغم من نقده اللاذع لهم خلال الحملة الرئاسية. فبعد زيارة ترامب للرياض وإدلائه بجملة من التصريحات، كان من الجلي وقوفه في صف السعودية وحلفائها العرب السنة ضد إيران.
وفي 5 حزيران/ يونيو، وبعد أسبوعين من زيارة ترامب، قطعت السعودية وأربعة من حلفائها العرب جميع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع قطر متهمة إياها بتمويل الإرهاب، ودعم الجماعات الإسلامية مثل الإخوان المسلمين وحماس، وتقويض الجهود العربية لعزل إيران. كما فرضوا حصارا جزئيا عليها، من خلال إغلاق الحدود البرية الوحيدة بين شبه الجزيرة العربية والمملكة العربية السعودية، وتقييّد السفر الجوي ذهابا وإيابا إلى قطر.
وعلى غرار الحرب التي تدور رحاها في اليمن، يعد عزل قطر محاولة من جانب سلمان وابنه لإخضاع جار متمرد يخالف اتباع السياسات السعودية. ومع صعود محمد بن سلمان في سلم ترتيب العرش، من المرجح أن يتخذ الأمير الشاب قرارات أكثر خطورة.
المصدر: الأتلانتيك