ترجمة وتحرير: نون بوست
تعكس الرسائل المتضاربة من الباحثين في مصر والمملكة العربية السعودية الجهود المبذولة لإدارة الغضب الشعبي إزاء المذابح الإسرائيلية المستمرة ضد المدنيين ودورهم كمؤيدين للدول الاستبدادية.
مع دخول الحرب على غزة شهرها الثالث، يبدو أن ضراوة القصف الإسرائيلي العنيف للقطاع المكتظ بالسكان على ساحل البحر الأبيض المتوسط لم تهدأ بعد. يوم الأحد الماضي، أفادت التقارير بمقتل 700 فلسطيني خلال 24 ساعة فقط، وأن إجمالي عدد القتلى في غزة تجاوز الآن 18 ألف شخص، بما في ذلك 12 ألف امرأة وطفل.
على مدى الشهرين الماضيين، كانت هناك موجة عالمية من التعاطف مع الـ 2.2 مليون مدني فلسطيني في غزة الذين تحملوا وطأة هذا الاعتداء الشديد. غالبًا ما يُشار إلى غزة على أنها أكبر سجن مفتوح في العالم، ووصفها طبيب بريطاني بأنها “مقبرة للأطفال داخل معسكر اعتقال في الهواء الطلق”. وشارك الملايين حول العالم في مظاهرات عبّروا فيها عن مستويات غير مسبوقة من الدعم للفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي الوحشي.
أثار التدفق المستمر للصور ومقاطع الفيديو الصادرة من غزة حزنًا عميقًا وغضبًا تجاه النظام العالمي الذي يبدو أنه يقدم دعمًا غير مشروط للعقاب الجماعي الذي تفرضه “إسرائيل” على الفلسطينيين. وكان هناك أيضًا تعبير قوي عن الدعم من قبل علماء الدين المسلمين بطرق غير متوقعة في كثير من الأحيان. وبينما من المتوقع من الباحثين في حفنة من الدول العربية الاستبدادية التي سعت إلى تطبيع العلاقات مع “إسرائيل” أن يوافقوا بشكل تلقائي على دعم تل أبيب، فإن هذا لم يكن الحال دائمًا في سياق حرب غزة.
فقد أعرب العديد من العلماء البارزين في جميع أنحاء العالم العربي عن إدانتهم للهجوم الإسرائيلي على غزة. ومن بين هؤلاء العلماء المصريين من اتخذوا خيارات سياسية مشكوكا فيها في الماضي القريب، وأبرزها ردهم على الانقلاب الذي حدث في البلاد سنة 2013 – وهي الاختيارات التي قمت بتدقيقها بشكل منهجي في كتابي “الإسلام والثورات العربية“.
وجهة نظر دقيقة
كان العالم علي جمعة، الذي دعم النظام العسكري للديكتاتور المصري عبد الفتاح السيسي بقوة في سنة 2013، مؤيدًا قويًا للمقاومة الفلسطينية ضد “إسرائيل”، وتحدث بسخرية في خطاب ألقاه مؤخراً أمام البرلمان المصري عن “الكيان الصهيوني” – وهي التسمية التي كثيراً ما يستخدمها أولئك الذين لا يعتبرون “إسرائيل” دولة شرعية. وقد وصف القتلى في غزة بأنهم شهداء مصيرهم الجنة، ودعا إلى الصبر على مقاومة “إسرائيل” “حتى يأتي الله بنصره”. وفي خطاب آخر ألقاه في أحد المساجد بعد بضعة أسابيع، وصف جمعة الصهيونية بأنها “حركة نازية”.
ومع أن جمعة لديه أيضًا تاريخ في معارضة الإخوان المسلمين في مصر، كما أوردت بالتفصيل في كتابي، إلا أنه كان دقيقًا بشكل مدهش في حالة فلسطين. وهو يعترف بأن حماس، المصنفة منظمةً إرهابية في المملكة المتحدة ودول أخرى، لها روابط تاريخية مع جماعة الإخوان المسلمين (على الرغم من أن الأولى نأت بنفسها عن الأخيرة في ميثاقها لسنة 2017). وعلى الرغم من ذلك، يؤكد جمعة ضرورة دعم حماس ويصر على شرعية المقاومة الفلسطينية.
وفي مقطع فيديو آخر تم تحميله على صفحته على موقع يوتيوب في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر، أعلن جمعة صراحةً دعمه لحركة حماس بسبب قتال الجماعة ضد العدوان الإسرائيلي. ورغم ما سبق، تجدر الإشارة إلى أن جمعة هو أحد أبرز العلماء الذين ترعاهم الدولة في مصر، وقد نسقت الدولة المصرية منذ فترة طويلة مع “إسرائيل” للحفاظ على الحصار المفروض على غزة حتى الوقت الحاضر، وهو الأمر الذي التزم جمعة وغيره من العلماء الذين ترعاهم الدولة الصمت التام بشأنه.
تعكس الرسائل المختلطة من هؤلاء العلماء جزئيًا جهودهم لإدارة الغضب العام من المذبحة الإسرائيلية المستمرة للمدنيين من خلال دور هؤلاء العلماء كمؤيدين لدولهم الاستبدادية. والاعتقاد بأن الفلسطينيين منخرطون في كفاح عادل ضد الاحتلال الإسرائيلي يتردد صداه في جميع أنحاء العالم الإسلامي بين الناس من مختلف الميول الأيديولوجية، كما أن هناك أيضًا دعما متزايدا للقضية الفلسطينية في جميع أنحاء أمريكا الشمالية وأوروبا. وتعترف معظم دول العالم، بما في ذلك الغالبية العظمى من دول الجنوب العالمي، بالدولة الفلسطينية.
بناء على ذلك، ليس من المستغرب أن الغالبية العظمى من العلماء المسلمين الذين تناولوا هذه القضايا علنًا قد أعربوا عن غضبهم إزاء دعم الشمال العالمي المنهجي للعدوان الإسرائيلي المستمر في غزة، علمًا لأن عدداً قليلاً فقط من الدول الغربية ــ مثل إسبانيا وبلجيكا وإيرلندا ــ عارضت بوضوح المذبحة التي ترتكبها “إسرائيل” في غزة.
دعم غير محدود
لم يقتصر هذا الغضب على علماء تجمعهم ارتباطات أيديولوجية مع جماعة الإخوان المسلمين والحركات ذات التفكير المماثل فحسب، بل يشمل أيضًا مصادر أقل وضوحًا – مثل جمعة المذكور آنفًا – وأكبر مسؤول ديني في مصر، الشيخ أحمد الطيب، الذي كانت تصريحاته الداعمة للمقاومة الفلسطينية متكررة وغير محدودة.
لكن يجب أن نضع في اعتبارنا هنا أن الطيب هو أحد موظفي الدولة أيضًا، ورغم عدم امتثاله الكامل لنظام السيسي، إلا أنه لم يوجه أي انتقاد مباشر للدولة المصرية – الجهة الرسمية التي يعمل بها – لتنسيقها النشط مع “إسرائيل” في استمرار الحصار المفروض على غزة منذ ما يقارب عقدين من الزمن.
أدى ذلك إلى دعوات من قبل منتقدي الطيب للسفر إلى معبر رفح إلى جانب العديد من المصريين لإظهار الدعم للفلسطينيين في غزة. وبعد أسابيع قليلة من الهجوم على غزة، كتبت عشرات المنظمات الإسلامية رسالة تدعو الطيب إلى إظهار دعمه بهذه الطريقة واستخدام نفوذه كشيخ الأزهر للمساعدة في إعادة فتح المعبر. لكنه رفض القيام بذلك حتى الآن، مما يوضح التناقضات في دعم فلسطين كعالم ترعاه الدولة ويعمل في ظل الديكتاتورية المصرية.
بدا علماء مسلمون آخرون أقل حماسا في دعمهم لفلسطين، مما جعلهم موضع انتقادات واسعة النطاق على وسائل التواصل الاجتماعي من المسلمين العاديين والعلماء الداعمين للقضية على حد سواء. أظهر العديد من الزعماء الدينيين الذين يخدمون في ظل الأنظمة الاستبدادية التي اكتسبت قوة من الثورات العربية المضادة بعد سنة 2013، مستوى غير مسبوق من الخضوع للسلطة في الآونة الأخيرة.
وفي المملكة العربية السعودية، يُشار إلى هذا غالبًا باسم “الاتجاه المدخلي”، الذي سمي على اسم ربيع المدخلي، وهو عالم سعودي يجادل بقوة بأن أي شيء آخر غير الخضوع المطلق للحكام هو بدعة، ويمكن رؤية مثال بارز على هذا الاتجاه في عبد الرحمن السديس، إمام المسجد الحرام في مكة. فبالإضافة إلى دعم أجندة الرياض للتطبيع مع “إسرائيل” في السنوات الأخيرة، تعرض السديس للهجوم قبل بضعة أسابيع على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب ما يقول النقاد إنه انتقادات لفظية للهجمات الإسرائيلية المستمرة على غزة. كما أصر على أن الحرب – التي أشار إليها بشكل غامض إلى حد ما بأنها “الفتنة” – لا ينبغي أن تجعل المسلمين يشككون في القرارات السياسية لحكامهم، بما في ذلك تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
رغم التعاطف الغربي الكبير مع “إسرائيل” في أعقاب 7 تشرين الأول/أكتوبر مباشرة، إلا أن القصف العشوائي على غزة أدى إلى تراجع كبير في الحماس الغربي للهجوم الإسرائيلي
بعد أسبوع، خرج السديس بقوة لدعم غزة، وانتقد “إسرائيل” صراحةً باعتبارها “المحتلة القمعية الصهيونية المعتدية”، وبالتالي نال الثناء من النقاد السابقين. وبما أنه من غير المرجح أن يخرج عن توجيهات الدولة، فإن ذلك قد يعكس محاولات الرياض لتحقيق التوازن بين الرعب العام من العدوان الإسرائيلي وأجندة المملكة العربية السعودية لمواصلة التحرك نحو التطبيع مع “إسرائيل”.
أدى هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وما أعقبه من تركيز عسكري إسرائيلي على “الضرر وليس الدقة“، إلى مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين في غزة. ورغم التعاطف الغربي الكبير مع “إسرائيل” في أعقاب 7 تشرين الأول/أكتوبر مباشرة، إلا أن القصف العشوائي على غزة أدى إلى تراجع كبير في الحماس الغربي للهجوم الإسرائيلي. وقد عكست المعارضة العلمية للحرب إلى حد كبير المعارضة الشعبية للهجوم الإسرائيلي.
مع أن “إسرائيل” تخطط لمواصلة القصف إلى أن تدمر حماس ـ ما سيؤدي بلا شك إلى مقتل آلاف آخرين من الفلسطينيين ـ فإن حجم المعارضة العالمية سوف يتصاعد. ويبقى أن نرى ما إذا كان الرأي العام قادرًا على ممارسة الضغوط الكافية على الزعماء السياسيين الغربيين لإعادة ضبط دعمهم غير المشروط لـ “إسرائيل”، وذلك رغم ما يصفه العديد من الباحثين والخبراء القانونيين بالإبادة الجماعية في غزة.
المصدر: ميدل إيست آي