رسمت الاحتجاجات العارمة في مختلف مدن وعواصم العالم خريطة لطبيعة المتعاطفين مع السردية الفلسطينية، مقابل المؤيدين المتبنين للسردية الصهيونية في الغرب، وذلك من خلال تحليل عرقي جندري أيديولوجي ديموغرافي، يقودنا إلى معرفة ماهية الاصطفافات الحاصلة في الغرب.
علمًا أن هذه المحاولة هي لتقريب الصورة وتبسيط خريطة الاصطفافات، ولا تعني بحال من الأحوال عدم وجود عبور وتبنٍّ للرواية الفلسطينية في أوساط الشرائح المتضادة، لكن الاستثناء لا ينفي القاعدة كما هو معلوم.
الشعور المشترك بين السكان الأصليين والفلسطينيين
إن تعاطف السكان الأصليين في أمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا وأمريكا اللاتينية، وإعادة إحياء مظلوميتهم من خلال تبنّيهم للسردية الفلسطينية، ونشر تفاصيلها جنبًا إلى جنب مع التذكير بمظلوميتهم، وإظهار مدى التطابق الكبير بين كلتا السرديتَين لم يكن وليد اللحظة، بل هو تراكم لسنوات من الشعور المشترك بالمظلومية.
عبّرت عن ذلك أستاذة علم الاجتماع في جامعة نيومكسيكو ميلاني يازي (Melanie K. Yazzie)، وهي من السكان الأصليين، في دراستها الشهيرة عام 2015 بعنوان Solidarity with Palestine from Diné Bikéyah اختصارها (SWPD)، وهو حراك اجتماعي من السكان الأصليين الأكاديميين لنشر الوعي بين السكان الأصليين، حول مدى التشابه بين أدوات المستعمِرين القمعية تجاه المستعمَرين في كل من أمريكا وفلسطين.
لقد ذهب المنظرون والنشطاء الأصليون إلى أبعد من مجرد التعاطف وتبنّي السردية الفلسطينية، بل كانوا من أوائل الذين رفضوا إدانة هجوم المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، واعتبروه عملًا مقاومًا بامتياز، كما شبّهوا حركة حماس بحركات التحرر الأخرى حول العالم، والتي كانت تصنَّف بالإرهابية، ثم بعد ذلك تمّت إعادة تعريفها لتصبح بطلًا ومناضلًا من أجل الحرية.
لقد دعت حراكات السكان الأصليين إلى التضامن الجمعي بين السكان الأصليين في كافة مناطق تواجدهم، تحت شعار “كما أن المستعمِرين متحدون في دعم إسرائيل، فإن المستعمَرين متحدون في دعم فلسطين”.
وقد دعوا السكان الأصليون في كافة مناطق تواجدهم إلى الانخراط في حملات المقاطعة التي تقودها حركة المقاطعة BDS، كما وقّعت مجموعة من العمال والطلاب والفنانين والسياسيين والأكاديميين على عريضة تطالب بوقف التطهير العرقي، ورفع الحصار، وإنهاء الاحتلال، وتفكيك الفصل العنصري، وإنهاء الاستعمار في فلسطين.
السود مقابل البيض
إن موقف حركة “حياة السود مهمة” أو ما يعرف بـ Black Lives Matter المتماهي مع السردية الفلسطينية، هو أيضًا ليس وليد أحداث “طوفان الأقصى”، إنما هو شعور جمعي وخطاب مظلومية متراكم عبر أجيال من الأمريكيين السود، بعد أن هلّل غالبية زعمائهم في البداية لقيام دولة “إسرائيل”، متبنّين السردية الصهيونية التاريخية حول هجرة اليهود من مصر “الأفريقية” إلى فلسطين، وقد رأوا أنفسهم جزءًا من هذا الكيان الذي حرر أجدادهم من العبودية، وأنشأ لهم مزارع وجنّات وسط الصحراء، بحسب اعتقادهم في تلك الفترة.
ابتدأت هذه السردية بالتضعضع مع تبنّي مالكوم إكس، الزعيم المسلم الشهير في أواسط الأمريكيين السود في منتصف خمسينيات القرن الماضي، للسردية الفلسطينية، مرورًا بحركة “الفهد الأسود” الماركسية التي نشطت في الجامعات الأمريكية في الستينيات وحتى مطلع الثمانينيات.
وقد زاد تصدُّع السردية الصهيونية بعد تصريحات الملاكم الشهير محمد علي، بعد زيارته للأراضي المحتلة في إطار جهود لإطلاق سراح أسرى فلسطينيين ولبنانيين من سجون الاحتلال في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، عندما صرّح قائلًا: “باسمي وباسم جميع المسلمين في أمريكا، أعلن دعمي لنضال الفلسطينيين من أجل تحرير وطنهم وطرد الغزاة الصهاينة”.
ثمة خيط رفيع ناظم لكل تلك الجهود في سبيل تغيير قناعات غالبية الأمريكيين السود، حيث ظلت هادئة وحذرة، إلى أن ملأت صور جورج فلويد الأمريكي الأفريقي الذي قتلته الشرطة الأمريكية بوحشية عام 2020 جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، وحوائط الإعلانات في غزة، إعلانًا عن حالة التضامن مع مظلوميته ومظلومية السود الأمريكيين.
ليترجَم هذا التعاطف مع القضية الفلسطينية لاحقًا في أواسط السود الأمريكيين في معركة “سيف القدس” عام 2021، حيث رفعت قيادة حراك “حياة السود مهمة” شعار “نحن نعرف الاحتلال، ونعرف الاستعمار، ونعرف وحشية الشرطة”.
الحركة النسوية مقابل البطريركية التقليدية
كما هو شأن العديد من الحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني غير الحكومية، فإن الحركة النسوية بأطيافها المختلفة، لا سيما التجمعات النسوية لنساء الجنوب في أمريكا الجنوبية وأفريقيا ودول العالم الإسلامي وشرق آسيا، وفي إيرلندا وإسبانيا، بل حتى في بريطانيا، أعلنت تعاطفها مع السردية الفلسطينية، وتأييدها غير المشروط لحقّ الشعب الفلسطيني في مقاومة الاستعمار والاحتلال في مناسبات عديدة، كان آخرها “طوفان الأقصى”.
وقد سلطت الضوء على دور الإعلام المتحيّز في العمل على شيطنة الفلسطيني ونزع صفة الإنسانية عنه، واعتبرته أبرز أدوات المستعمِر في تبريره لحربه اللاأخلاقية على المستعمَر.
لطالما وجدت كافة تيارات النسوية -ما عدا تيارها الليبرالي المهيمن في الغرب- في فكرة المستعمِر الإسرائيلي نموذجًا متكاملًا لما تدعو إلى تقويضه، فـ”إسرائيل” من منظور النسوية الأفريقية أو ما يعرَف عالميًّا بالنسوية السوداء (Black Feminism) مثلًا، هي دولة إمبريالية توسعية استعمارية رأسمالية، أوجدها الرجل الأبيض لتلبية مصالحه في الهيمنة على منطقة الشرق.
وقد وقّعت مجموعة من المؤسسات النسوية في كل من أفغانستان والجزائر وإيران ومصر والمغرب ولبنان وفلسطين والسودان وسوريا وتونس، ودول أخرى في جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا التي تسمّى اختصارًا بـ SWANA، بيانًا أدانت فيه سياسات الفصل العنصري المستمرة منذ ما قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بعقود، إضافة إلى سياسة العقاب الجماعي والتطهير العرقي الممنهجة والمدعومة بمئات الملايين من الدولارات من قبل الحكومات الغربية، وأبرزها الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد تعدّى موقف الحركات النسوية مواقف حكومات دولها بأشواط، بل شاركت النسويات بنقد زميلاتهن اللائي وصلن إلى مناصب عليا في دولهنّ بسبب الهوّة بين ما يتبنّينه من ناحية تنظيرية، وما يطبقنه على أرض الواقع في سياساتهن ومناصبهن العليا.
ومن أبرز الأمثلة على نقد النسويات لزميلاتهن اللائي تخالف معتقداتهن أفعالهن، نقد موقف وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، حيث كانت محطّ حديث النسوية، وتم نقدها بشكل لاذع كونها كانت إحدى أبرز الفاعلات النسويات في حزب الخضر، بسبب صمتها المطبق في بداية الأحداث عن الضحايا من الأطفال والنساء، وتأييدها المطلق لحقّ “إسرائيل” في التوغل في الدم الفلسطيني تحت ذريعة الدفاع عن النفس، عندما تم سؤالها عن رأيها في الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، فأجابت: “بالنسبة إلى ألمانيا فإن أمن إسرائيل غير قابل للتفاوض”.
أما عن اصطفاف القوى اليسارية العالمية ومؤيديها وحاملي فكرها وأيديولوجيتها بجانب السردية الفلسطينية، مقابل جمهور اليمين المتطرف والشعبوية، فسوف أتناوله بشكل منفرد في المقالة القادمة، التي سأتناول فيها الحملات العالمية لنصرة القضية الفلسطينية والقائمين عليها.