يبدو أن الحرب “الإسرائيلية” المفتوحة على الفلسطينيين، لم تتوقف عند القتل والاعتقال والحرق وسرقة الأراضي وتهويد المقدسات الإسلامية، بل تجاوز ذلك بكثير حين دخلت مرحلة أخطر ووُضعت المخططات العنصرية التي تستهدف وجود الفلسطينيين في مدينة القدس المحتلة للسيطرة عليها بالكامل وتهجيرهم قسريًا منها.
“إسرائيل” تعلم تمامًا أن القوة لا يمكن لها أن تحقق مخططاتها مع الفلسطينيين، فطول السنوات الماضية فشلت في استخدام تلك الوسيلة، ولكن اليوم لجأت لطرق يمكن أن تحقق مطالبها بالتضييق على سكان القدس ووضع مؤسساتها الفلسطينية كافة تحت الرقابة والتضييق والخناق السياسي والإداري.
ووصلت المؤسسات الفلسطينية في القدس، منذ توقيع اتفاق أوسلو وبسببه، إلى مرحلة أصبحت فيها المؤسسات التي تمكنت من الصمود أمام واقع لا يمكن مواجهته، “فإسرائيل” تضع ثقلها كله خلف سياسة تهويد المدينة وإبعاد سكانها الفلسطينيين، بينما السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير لا تبذلان الجهد الكافي لمواجهة سياسات الحكومات “الإسرائيلية”.
المخطط الأخطر لتقسيم القدس وتهجير سكانها
وتحظى مدينة القدس المحتلة بكل مؤسساتها ومعالمها برعاية ملكين: الملك الأردني، وملك المغرب رئيس لجنة القدس، ورعاة آخرين من فلسطين والعالم، ورغم ذلك لم تستطع المؤسسات المقدسية تبديد سحابة الحزن التي تعلو سماء المدينة، وصار أقصى ممارسات الدفاع عن القدس، الدعوة إلى شدّ الرحال إلى المسجد الأقصى فقط.
وفي السابق كانت المؤسسات الأهلية والنوادي والجمعيات والنقابات الحامي للمكان، فحاربها الاحتلال مغلقًا العشرات منها، أبرزها مؤسسة بيت الشرق المركز الرسمي للفلسطينيين في المدينة، كما أن جدار الضم والفصل العنصري أخرج مؤسسات أخرى، ومنها ما رحل طوعًا.
وهكذا أصبحت القدس، ملتقى الفن والثقافة والأدب والسياسة والأديان، مكانًا يحظر دخوله إلا لزيارة خاطفة للصلاة، وربما لالتقاط صور تاريخية! مدينة تقطعت أوصالها إلى أحياء متفرقة وجماعات مفككة ومعزولة عن محيطها، غير مرتبطة بخصائص المدن الطبيعية.
وفي إطار الحرب “الإسرائيلية” على مؤسسات القدس، أصدرت سلطات الاحتلال إخطارات أبلغت من خلالها العديد من المؤسسات الفلسطينية في القدس المحتلة بإغلاق حساباتها في البنوك دون أن تبرر أسباب هذه الإجراءات.
وكشفت دائرة شؤون القدس في منظمة التحرير الفلسطينية، أن سلطات الاحتلال قامت بتوجيه كتب وإنذارات تطالب فيها المؤسسات والجمعيات والشركات والمراكز القائمة في شرقي القدس على اختلاف مجالات عملها، بإغلاق حساباتها المصرفية، وطلبت منهم الحضور لمراكزها لاستلام شيكات بما لها من أموال في تلك المصارف.
ويقول مدير مركز القدس للحقوق الاقتصادية والاجتماعية زياد الحموري: “سلطات الاحتلال وجهت إنذارات إلى 5 مؤسسات مقدسية تطالب فيها بإغلاق حساباتها المصرفية، وهذه المؤسسات تعمل بعدة مجالات اجتماعية وثقافية وتعليمية“.
ويؤكد الحموري أن خطورة هذه القرارات تكمن في أن الحساب البنكي في البنوك “الإسرائيلية” يعتبر أحد الشروط للحصول على ترخيص لمزاولة العمل في المدينة، وبالتالي فإن إغلاق الحسابات المصرفية يعتبر مقدمة لإغلاق المؤسسات المقدسية، وذلك يأتي مع تضييق الخناق على المقدسيين والمؤسسات العاملة.
عنصرية متفشية وعقاب جماعي
دائرة شؤون القدس بدورها نددت بالإجراءات التي اتخذها الاحتلال بحق هذه المؤسسات الاجتماعية أو الثقافية أو التعليمية أو الإغاثية أو الإسكانية أو القانونية أو الهندسية للمقدسيين الصامدين على أرضهم، رغم أشكال التضييق والعنصرية والهمجية كافة التي تمارس بحقهم في المدينة المقدسة.
وتحدثت عن خطورة هذه الإجراءات والممارسات غير المسؤولة وغير المسبوقة ضد الشعب الفلسطيني ومؤسساته، والتي تأتي في سياق السياسة العنصرية والتطهير العرقي التي تنتهجها حكومة الاحتلال بشكل صارخ.
وأكدت أن إبلاغ المؤسسات المقدسية بإغلاق حساباتها البنكية هو إجراء تعسفي في سياق عملية تهجير المقدسيين وتهجير مؤسساتهم من المدينة المقدسة، رغم أن هذه المؤسسات تعمل وفق الأصول وحساباتها مكشوفة وتتطابق مع أهداف تأسيسها وغايات تسجيلها، ولديها مدققين حسابات قانونيين “إسرائيليين“، وتدفع رسومها السنوية بالكامل.
متسائلة عن دوافع وغايات إبلاغ هذه المؤسسات الملتزمة بإغلاق حساباتها البنكية والتي تقدم خدماتها للفلسطينيين والمقدسيين.
ورأت المؤسسة أن الخطوة التي اتخذتها سلطات الاحتلال سياسية بامتياز وليست لغرض مصرفي، بل في إطار سياسة العقوبات الجماعية ضد الفلسطينيين المدنيين العزل وتهجيرهم وتهجير مؤسساتهم في سياق سياسة التهجير القسري.
وعلى الرغم من وجود دعم رسمي فلسطيني لمدينة القدس بمختلف مكوناتها المؤسساتية والشعبية، فإن عدة علامات استفهام تُطرح بشأن التشتت والتشتيت الواضح في إدارة ملف القدس.
بدوره وصف المحلل الاقتصادي عزام أبو السعود هذه الإجراءات بأنها غير منطقية، وأوضح أن جميع المؤسسات مسجلة قانونيًا ومرخصة، وليس لديها أنشطة سياسية أو تحريضية، وفق مزاعم الاحتلال.
وأشار أبو السعود إلى أن هذه الأزمة من أهدافها تفريغ المدينة من الوجود العربي، والهيمنة “الإسرائيلية” على جميع مناحي الحياة، مضيفًا أن الهيمنة تهدف إلى ربط المؤسسات المقدسية على وجه التحديد بالنظام “الإسرائيلي” بالكامل، “يريدون إيصال رسالة للمؤسسات: تريدون أن تبقوا موجودين، تعاونوا مع مؤسساتنا، وهذا ما ترفضه المؤسسات”.
الحرب متواصلة على المؤسسات المقدسية
سلطات الاحتلال تواصل ملاحقة المؤسسات المقدسية وتحارب نشاطاتها، وأغلقت أكثر من 90 منها منذ أوسلو إلى اليوم، 30 منها خلال عامين فقط، وكان عددها قد وصل قبل قيام السلطة إلى أكثر من 100 مؤسسة نقابية وأهلية.
ومن هذه المؤسسات التي كانت ناشطة: لجان العمل الصحي التي تأسست في القدس، وقدمت خدماتها في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتعمل منذ سنة 2003 في رام الله، وهي من المؤسسات التي غادرت المدينة بسبب الجدار والحواجز والضغوطات الإسرائيلية التي تلاحق أنشطتها، لكنها حاولت الإبقاء على مكاتبها على الرغم من رحيلها، إلى أن أصدرت المحاكم الإسرائيلية أمرًا بإغلاقها، وقد أصبحت اليوم محظورة أمنيًا.
ولم تنج أي مؤسسة من المؤسسات الفلسطينية في مدينة القدس على اختلاف أنواعها وتسمياتها من الاقتحام أو الإغلاق أو المصادرة لمحتوياتها أو المنع من مزاولة العديد من نشاطاتها أو اعتقال القائمين عليها من قِبل سلطات الاحتلال، فمنذ عام 1967م أغلق الاحتلال، في إطار سياسته الساعية إلى تهويد مدينة القدس والتضييق على سكانها، أكثر من 100 مؤسسة فلسطينية استنادًا إلى قانون الطوارئ الذي سنته سلطات الانتداب البريطاني عام 1945م من جهة، والأوامر العسكرية “الإسرائيلية” من جهة أخرى، فيما أُجبرت عشرات المؤسسات على نقل مكاتبها ونشاطاتها إلى مناطق أخرى من الضفة الغربية.
وقرارات الإغلاق طالت بعض المؤسسات أكثر من مرة، وتراوحت الفترات الزمنية لإغلاقها من ساعات إلى أيام أو أشهر أو سنوات، وفي أغلب الأحيان تجدد على التوالي، أو إغلاقها بشكل نهائي، ومن المؤسسات التي تعرضت للإغلاق منذ عام 1967 وحتى 2017.
وقد أغلقت سلطات الاحتلال هذه المؤسسات، ضاربة بعرض الحائط كل القوانين والقرارات الدولية ومتحللة من الاتفاقيات التي وقعتها مع منظمة التحرير الفلسطينية، ومتجاهلة رسالة الضمانات التي بعث بها شمعون بيرس إلى وزير الخارجية النرويجي الراحل “هولست”، والتي تعهدت بموجبها “إسرائيل“ بعدم المساس بمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية في القدس، وبتمكينها من تقديم خدماتها للمواطنين المقدسيين.