بدا تغير لهجة باريس إزاء الملف السوري واضحا تماما. ويتمثل الهدف من ذلك في تحريك المفاوضات حول القضية السورية والتوصل إلى حل سياسي لصراع أودى بحياة أكثر من 350 ألف شخص وشرد ستة ملايين لاجئ وزعزع استقرار المنطقة بأسرها، في غضون ست سنوات. ولكن صارت الأمور المسكوت عنها في السابق، محور تصريحات رئيس الدولة، نفسه اليوم.
وتجدر الإشارة إلى أن ماكرون، على خلفية مقابلة مطولة أجراها مع كل من صحيفة لوفيغارو الفرنسية وسبع صحف أوروبية أخرى نشرت يوم الخميس 22 حزيران/يونيو، أفاد أن “التغير الحقيقي الذي طرأ على موقفي من هذا الملف يتمثل في عدم اعتبار تنحية بشار الأسد من السلطة شرطا أساسيا لحل جميع القضايا. ويُفسر ذلك بعدم وجود خليفة شرعي له”.
باريس صارت تعتبر، اليوم، أن “الإصرار على مطلب الإطاحة ببشار الأسد أضحى سياسة عقيمة”
وأثناء محادثاته الصريحة مع فلاديمير بوتين بخصوص سوريا، يوم 29 أيار/مايو في فرساي، لم يذكر الرئيس الجديد بأنه “لا يُمكن لبشار الأسد تمثيل مستقبل سوريا”، على عكس ما كان يُشدد عليه فرانسوا هولاند. في المقابل، عمد في اليوم التالي إلى طمأنة ممثلي المعارضة السورية في المنفى، الذين استقبلهم في قصر الإليزيه، حول عزم فرنسا على دعم حدوث “انتقال سياسي شامل”. وقد نص قرار الأمم المتحدة عدد 2254 على هذا الانتقال، وعلى التزامه برحيل الديكتاتور السوري في نهاية هذه المرحلة.
لكن، من الواضح أن مغادرة الأسد للسلطة لا تعدّ أولوية بالنسبة للجانب الفرنسي. فأثناء الزيارة التي أداها وزير خارجية هذه الدولة، جان يفيس لي دريان، إلى موسكو يوم 20 حزيران/ يونيو للاجتماع مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، لم يتم تناول مصير الرئيس السوري الحالي، حتى أن اسمه لم يُذكر طيلة ساعات النقاش الأربعة.
اللجوء إلى البراغماتية
لا تمثّل كل هذه الأحداث منعطفا فيما يخص المواقف العالمية من النزاع السوري. فقبل سنتين تقريبا، لم يعُد رحيل الدكتاتور بمثابة شرط أساسي للمناقشات التي أجريت في جنيف، بهدف التوصل إلى حل سياسي في البلاد. ولكن بالنسبة لباريس، وللعواصم العربية، والغربية التي دعمت الثوار، فمن المؤكد أن تحقيق السلام والاستقرار الحقيقي على الأراضي السورية، في وقت يشدد فيه دكتاتور الشام قبضته على السلطة، يعدّ أمرا مستحيلا. ويُعتبر الأسد، الذي لم يتردد في ارتكاب جرائم حرب عديدة وصلت إلى حد استهداف شعبه بالأسلحة الكيميائية، المسؤول الأول عن مئات الآلاف من حالات الوفاة الناجمة عن هذا النزاع.
وفي سياق متصل، أورد أحد الدبلوماسيون أنه “لا يوجد أي طرف تقريبا، باستثناء الروس أو الإيرانيين ربما، مستعد لمنح أمواله بغية إعادة بناء سوريا التي مزقتها الحرب، في حال كانت نتائج العملية الانتقالية مجرد ترميم للنظام”. ولكن، من المؤكد أن باريس صارت تعتبر، اليوم، أن “الإصرار على مطلب الإطاحة ببشار الأسد أضحى سياسة عقيمة”. وعلى الصعيد الدبلوماسي، لم تُسجل المفاوضات أي تقدم ملموس، حتى أن الرأي العام العالمي بدأ يشعر بأن “دور جنيف لا طائل منه”، وفق ما أفاد به هذا الدبلوماسي.
تعتقد باريس أن السياق صار مناسبا للبحث عن “السبل الصحيحة للخروج من الأزمة، وذلك باللجوء إلى البراغماتية”
في الواقع، من المفارقات أنه في الوقت الذي نوه فيه ماكرون “بضرورة التوصل إلى خارطة طريق دبلوماسية وسياسية” خلال لقائه الصحفي، لم يذكر، ولو لمرة واحدة، الأمم المتحدة وقرار 2254، الذي وضعه مجلس الأمن سنة 2015، والذي يُعد إطارا مرجعيا ضروريا لتسوية النزاع.
في شأن ذي صلة، بدأ الخطاب الفرنسي يأخذ منحى جديدا، منذ شهر تقريبا. فقد أصرت الدبلوماسية الفرنسية على أن “الأولوية الرئيسية تتمحور حول مكافحة الإرهاب والقضاء على ما يُسمى بتنظيم الدولة”. من ناحية أخرى، شددت الدبلوماسية أيضا على ضرورة تجنب انتشار الفوضى وتحول سوريا إلى “دولة فاشلة”.
وكان للموقف الفرنسي الجديد صدى في موسكو، ذلك أن دولة ماكرون تعتزم الاستفادة من هذه القضية في مرحلة ما بعد تنظيم الدولة. فضلا عن ذلك، تعتقد باريس أن السياق صار مناسبا للبحث عن “السبل الصحيحة للخروج من الأزمة، وذلك باللجوء إلى البراغماتية”. وسيؤدي هذا الأمر إلى تمهيد الطريق أمام نقلة نوعية، ستُغير معطيات الملف السوري.
الهدوء العسكري النسبي
ومن المفترض أن تُستأنف محادثات السلام في أستانا، التي تُشرف عليها كل من روسيا، وإيران، وتركيا، يوم 4 تموز/يوليو، قبل أسبوع واحد من إعادة إطلاق مفاوضات جنيف، تحت رعاية الأمم المتحدة. وفي هذا السياق، أكد ماكرون أن “الأولوية تتمثل في مكافحة الإرهاب (…) من جانب آخر، لا يمكن أن يتم وضع حد لهذا الصراع سوى عن طريق انتقال سياسي شامل، يُحافظ على سلامة ووحدة البلاد. كما يجب على الروس الإلتزام بالشفافية والوضوح في تعاملهم مع القضية السورية”.
في الحقيقة، تمتلك موسكو سببا وجيها للقيام بذلك. فقد أدت الاتفاقيات الموقعة، في أستانة قبل شهرين تقريبا والمتعلقة بإنشاء أربع “مناطق وقف التصعيد”، خاصة في المناطق المحاذية لإدلب، إلى فترة هدوء عسكري نسبي. في المقابل، لم ينجح فلاديمير بوتين، الذي أنقذ نظام دمشق من السقوط بعد دعمه بتدخل عسكري في شهر أيلول/سبتمبر 2015، في تحويل الانتصارات العسكرية الميدانية إلى نجاح سياسي.
“صعب المراس وصريح”
في الإطار ذاته، أشار وزير الخارجية السابق هوبير فيدرين إلى أنه يعتقد أن “الروس يحترمون صعوبة مراس وصراحة إيمانويل ماكرون”. ففي فرساي مثلا، أبدى الرئيس الفرنسي، أثناء لقائه مع نظيره الروسي، استعداده لشن بلاده، دون أي مساعدات خارجية، غارات جوية ضد الأطراف التي تستخدم الأسلحة الكيميائية في سوريا. وكان ذلك إشارة واضحة ليقينه بأن النظام السوري هو الوحيد الذي يمتلك طائرات قادرة على إسقاط قنابل مزودة بغاز السارين. ويُذكر هذا بالهجوم الذي جد في محافظة خام شيخون بتاريخ 4 نيسان/ أبريل، مخلفا 88 قتيلا.
للتذكير، كان نظام الأسد قد تعهد في خريف سنة 2013، بتفكيك ترسانته الكيميائية تحت رقابة دولية لمنع الضربات الأميركية والفرنسية. وقد نفذ جزء من تعهداته تلك، إلا أن الهجوم على خان شيخون يشهد على تواصل امتلاكه لهذه الأسلحة الفتاكة
وفي اللقاء الذي أجراه يوم 22 من الشهر الجاري، عاد ماكرون على التذكير بحادثة خان شيخون موردا أنه “عندما تقوم بضبط خطوط حمراء، ثم تفشل في فرض احترامها، فإنك قد قررت بذلك أن تصبح في موقف ضعف”. وأضاف ماكرون قائلا “إذا تكمنا من تحديد مصادر مخزونات الأسلحة الكيميائية، فستعمد فرنسا إلى ضربها وتدميرها”. من ناحية أخرى، تحدث ماكرون أيضا عن الهجوم الكيميائي الذي وقع سنة 2013، وعن تهرب إدارة باراك أوباما، الذي “أضعف فرنسا”، وشجع بوتين على التحرك داخل مسارح عمليات أخرى، على غرار أوكرانيا.
ولكن هل تتعلق هذه التصريحات والالتزامات باستخدام الأسلحة الكيميائية المتطورة فقط، بما في ذلك غاز السارين؟ للتذكير، كان نظام الأسد قد تعهد في خريف سنة 2013، بتفكيك ترسانته الكيميائية تحت رقابة دولية لمنع الضربات الأميركية والفرنسية. وقد نفذ جزء من تعهداته تلك، إلا أن الهجوم على خان شيخون يشهد على تواصل امتلاكه لهذه الأسلحة الفتاكة. وفي هذا الصدد، تأمل الدبلوماسية الفرنسية في التعاون مع الكرملين “لإنهاء عملية التفكيك هذه غير المكتملة”.
المصدر: لوموند