ترجمة وتحرير: نون بوست
شعرتُ بالقلق منذ البداية من أن “إسرائيل” أطلقت غزوها على غزة للقضاء على حماس بدون خطة توضح ماذا ستفعل مع القطاع وشعبه بعد أي انتصار. وبعد أن أمضيت للتو أسبوعًا في السعودية والإمارات لكي أتتبع نبض هذه الزاوية المهمة من العالم العربي؛ أشعر الآن بقلق أكبر.
دعوني أوضح قلقي بهذه الطريقة: لأن حماس قامت ببناء شبكة أنفاق واسعة تحت غزة؛ فإن القوات الإسرائيلية، في سعيها للقضاء على تلك المنظمة الإرهابية الشريرة، تضطر إلى تدمير أعداد هائلة من المباني؛ إنها الطريقة الوحيدة التي يمكنهم من خلالها قتل الكثير من مقاتلي حماس وتجريد غزة من السلاح دون خسارة الكثير من جنودهم في الفترة القصيرة التي تشعر “إسرائيل” أنها تملكها في مواجهة الضغوط من الولايات المتحدة وحلفاء آخرين لإنهاء الغزو.
وكان لإسرائيل ما يبرر ردها على حماس لخرقها وقف إطلاق النار الذي كان قائمًا في تشرين الأول/أكتوبر، والتي قامت بقتل أو اغتصاب أو تشويه أكثر من 1200 شخص بشكل عشوائي، واختطاف حوالي 240 آخرين في طريقها في ذلك اليوم. لقد خططت حماس ونفذت حملة من الهمجية التي لا توصف والتي بدت وكأنها تهدف إلى جعل إسرائيل مجنونة وتهاجم دون التفكير في اليوم التالي لما بعد الهجوم على غزة، وهذا بالضبط ما فعلته إسرائيل.
ولكن بعد تسعة أسابيع؛ يمكننا الآن رؤية اليوم التالي للهجوم على غزة؛ ففي سعيها لتحقيق أهدافها المتمثلة في تفكيك آلة حماس العسكرية والقضاء على كبار قادتها؛ قتلت إسرائيل وأصابت الآلاف من المدنيين الأبرياء في غزة. وكانت حماس تعلم أن هذا سيحدث ولم تهتم البتة، ولكن إسرائيل يجب أن تهتم؛ فسوف ترث المسؤولية عن كارثة إنسانية هائلة سوف تتطلب سنوات من التحالف العالمي لإصلاحها وإدارتها. وكما ذكرت صحيفة التايمز يوم الثلاثاء: “تظهر صور الأقمار الصناعية أن القتال أدى إلى أضرار جسيمة في كل ركن من أركان مدينة غزة تقريبًا”؛ فقد تم تدمير ما لا يقل عن 6000 مبنى، وحوالي ثلث هذه المباني في حالة خراب كامل.
وقد أشار مقال نُشر مؤخرًا في صحيفة هآرتس حول هذا الموضوع – بقلم ديفيد روزنبرغ – إلى أنه “حتى لو انتهى القتال بانتصار حاسم على حماس، فإن إسرائيل سوف تكون مثقلة بمشكلة تكاد تستعصي على الحل. لقد ركزت معظم المناقشات العامة حول ما سيحدث في اليوم التالي للحرب على من سيحكم غزة. وهذا وحده سؤال معقد؛ لكن المشكلة أعمق بكثير مِن مَن سيكون مسؤولًا عن القانون والنظام وتوفير الخدمات الأساسية: فأيًّا كان المسؤول؛ فسيتعين عليه إعادة بناء الحطام الذي هو غزة وإنشاء اقتصاد فعال”.
في حين أن القادة هنا ليسوا متعاطفين على الإطلاق مع حماس، ولن يحزنوا على اختفاء الجماعة للحظة واحدة، إلا أنهم يشككون في قدرة إسرائيل على القضاء على حماس إلى الأبد
وسيكون ذلك مسعىً بمليارات الدولارات، وسيستغرق عدة سنوات، ويمكنني أن أقول لكم بناءً على محادثاتي هنا، لن تأتي أي دولة خليجية عربية (ناهيك عن دول الاتحاد الأوروبي أو الكونجرس الأمريكي) إلى غزة بأكياس من المال لإعادة إعمارها ما لم يكن – وحتى هذا ليس أمرًا مؤكدًا – لدى إسرائيل شريك فلسطيني شرعي وفعال وتلتزم بالتفاوض في يوم من الأيام على حل الدولتين، وأي مسؤول إسرائيلي يقول غير ذلك فهو واهم. وقد قالت لانا نسيبة، سفيرة الإمارات العربية المتحدة لدى الأمم المتحدة، في مقابلة الثلاثاء مع صحيفة وول ستريت جورنال: “نحن بحاجة إلى رؤية خطة حل الدولتين القابلة للتطبيق، خريطة طريق جادة قبل أن نتحدث عن اليوم التالي وإعادة بناء البنية التحتية في غزة”.
الشيء الأكثر تفاؤلًا الذي يمكنني نقله من الرياض، ومن التحدث إلى المسؤولين الأمريكيين في واشنطن قبل وصولي؛ هو أنه عندما تنتهي الحرب في غزة ستظل السعودية ملتزمة من حيث المبدأ باستئناف المفاوضات التي كانت جارية قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، وما كان يناقشه المفاوضون هو صفقة كبرى شاركت فيها الولايات المتحدة، والتي ستدخل في معاهدة أمنية مع السعودية، التي – بدورها وفي الوقت نفسه – ستقوم بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، شريطة أن تلتزم إسرائيل بخطوات محددة للعمل مع السلطة الفلسطينية نحو حل الدولتين.
ولكن بقي لديَّ انطباع قوي للغاية هنا بأن السعوديين يريدون من الأميركيين إنهاء الحرب في غزة في أقرب وقت ممكن، لأن الموت والدمار في غزة يؤدي إلى تطرف سكانهم الشباب (الذين لم يركزوا إلى حد كبير على مشكلة إسرائيل – فلسطين من قبل)، في حين أنها تخيف المستثمرين الأجانب وتعرقل بشكل عام ما تريد السعودية التركيز عليه: خطة رؤية 2030 لولي العهد الأمير محمد بن سلمان لتحويل البلاد، من التعليم إلى البنية التحتية إلى تمكين المرأة.
وفي حين أن القادة هنا ليسوا متعاطفين على الإطلاق مع حماس، ولن يحزنوا على اختفاء الجماعة للحظة واحدة، إلا أنهم يشككون في قدرة إسرائيل على القضاء على حماس إلى الأبد، ويشعرون بالقلق من أن الضرر الذي يلحق بغزة، في محاولتها القيام بذلك، سوف يؤدي إلى تفاقم المشكلة، وإلى العديد من العواقب السيئة غير المقصودة.
يمكن أن تتحول غزة في نهاية المطاف إلى جرح كبير ودائم في الصدر؛ يرهق إسرائيل عسكريًّا واقتصاديًّا ومعنويًّا، ويحرمها من القيادة الأمريكية كقوة عظمى
بالطبع أفهم لماذا سيكون من الصعب على حكومة إسرائيلية، حتى معتدلة، أن تلتزم بإحياء هذا الحوار السعودي الأمريكي الإسرائيلي الفلسطيني في الوقت الحالي؛ ناهيك عن مجموعة المتعصبين الذين يديرون إسرائيل حاليًا، والملتزمون بضم الضفة الغربية وأكثرهم جنونًا حتى ينظرون بشوق إلى ضم غزة. فنظرًا لما حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر؛ لا يرغب الكثير من الإسرائيليين حتى في التفكير – ناهيك عن الموافقة على – التنازل عن السيطرة على الأراضي لأي سلطة حاكمة فلسطينية.
ولكن إذا لم تتوصل إسرائيل إلى رؤية سياسية طويلة الأمد لإغراء العالم لمساعدتها في تمويل إعادة بناء غزة، فإنها سوف تتعرض لكثير من الأذى الدبلوماسي والاقتصادي؛ حيث يمكن أن تتحول غزة في نهاية المطاف إلى جرح كبير ودائم في الصدر؛ يرهق إسرائيل عسكريًّا واقتصاديًّا ومعنويًّا، ويحرمها من القيادة الأمريكية كقوة عظمى تسمح لها بالسيطرة على طول الطريق.
نعم على طول الطريق.. حيث يقوم بيبي نتنياهو بحملة الآن للحفاظ على منصبه من خلال محاولته أن يثبت لقاعدته اليمينية المتطرفة أنه الزعيم الوحيد المستعد لإخبار إدارة بايدن وجهًا لوجه بأن بلاده لن تفعل أبدًا الحد الأدنى الذي تطلبه الولايات المتحدة: وهو أن تساعد إسرائيل في رعاية السلطة الفلسطينية بعد تجديدها، وأن تقدم أفقًا سياسيًّا طويل الأمد لإقامة الدولة الفلسطينية من أجل تطوير شريك فلسطيني قادر ذات يوم على حكم غزة المحررة من حماس وإسرائيل.
ولهذا السبب فإن استعداد السعودية – إذا صمد – للمضي قدمًًا في الحوار الأمريكي السعودي الإسرائيلي الفلسطيني عندما تتوقف هذه الحرب أمر في غاية الأهمية، لكن هذا ليس مجرد عمل خيري من قبل السعوديين، هذه إستراتيجية أساسية، فهذا الجيل من القادة في السعودية وكذلك في الإمارات والبحرين والمغرب (ثلاث دول وقعت اتفاقيات إبراهيم مع إسرائيل) غير عاطفي تمامًا عندما يتعلق الأمر بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على الرغم من أنه معقد.
بدأت المنشورات التي تُظهر التناقض بين صور العروض الثقافية في الرياض والفلسطينيين الذين يتعرضون للقصف في غزة، في الانتشار، مما أثار انزعاجًا كبيرًا للسعوديين، الذين يشعر الكثير منهم بالغضب من مقتل العديد من المدنيين في غزة مثل أي عرب آخرين.
لقد سئم هؤلاء القادة من القول بأن عليهم تأجيل أولوياتهم وتركيز طاقتهم واهتمامهم ومواردهم على القضية الفلسطينية. ولكن في الوقت نفسه؛ فإنهم مرعوبون حقًّا من الخسائر المدنية في غزة، كما أنهم يدركون تمام الإدراك الفساد وعدم الكفاءة العامة للسلطة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه؛ فإنهم يكرهون فروع جماعة الإخوان المسلمين مثل حماس ويفهمون كيف يحاول المتعاطفون معها في جميع أنحاء المنطقة، بمساعدة إيران الساخرة، استخدام صور الأطفال القتلى في غزة على شاشات التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي لتأجيج مشاعر الشعوب العربية.
وقد أوضح لي دبلوماسيون غربيون ومسؤولون سعوديون كيف أن كل هذه الرياح السياسية المعاكسة تعوي اليوم في معارك عربية سيئة تدور رحاها في وسائل التواصل الاجتماعي العربية حول قضية فلسطين. وكان هذا صحيحًا بشكل خاص بعد أن أعرب الأمير محمد، في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز في أيلول/سبتمبر، عن حماسه بشأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل إذا كانت ستتحرك نحو حل مع الفلسطينيين. (أعتقد أن هذه الرغبة السعودية كانت بالفعل السبب الرئيسي وراء هجوم حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر).
على سبيل المثال؛ عندما مضت السعودية في 28 تشرين الأول/أكتوبر قُدُمًا في مهرجانها الترفيهي والرياضي السنوي المعروف باسم موسم الرياض – والذي يتميز بمباريات رياضية يحضرها رياضيون مشهورون على نطاق واسع وعروض لمغنيين وراقصين وفنانين عرب ودوليين – بدأ مؤثرو وسائل التواصل الاجتماعي المؤيدين للفلسطينيين إلى حد كبير من الكويت ومصر في مهاجمة السعوديين بسبب استمتاعهم بأوقاتهم بينما كانت غزة تحترق. وبدأت المنشورات التي تُظهر التناقض بين صور العروض الثقافية في الرياض والفلسطينيين الذين يتعرضون للقصف في غزة، في الانتشار، مما أثار انزعاجًا كبيرًا للسعوديين، الذين يشعر الكثير منهم بالغضب من مقتل العديد من المدنيين في غزة مثل أي عرب آخرين.
وذكرت صحيفة ديلي ميل أستراليا – في تقرير لها – أنه في 21 تشرين الثاني/نوفمبر؛ في مباراة تصفيات كأس العالم لكرة القدم في الكويت بين المنتخبين الفلسطيني والأسترالي، نظم المشجعون الفلسطينيون “احتجاجًا على تصرفات إسرائيل في قطاع غزة”. وفي الدقيقة السابعة من المباراة؛ رفعوا الأعلام الفلسطينية ولوحوا بأغطية الرأس الفلسطينية، “الكوفيات”، علامة على بدء الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر؛ تاريخ هجوم حماس داخل إسرائيل”.
قال صديق أمريكي لي كان يحضر سباق القوارب إن أحد مضيفيه السعوديين كان يوبخه بشأن الولايات المتحدة لدعمها تدمير غزة؛ إنه لأمر معقد.
لم يكن هذا الاحتجاج الذي استمر في الدقيقة السابعة إعلانًا لدعم حماس فحسب، بل كان يُنظر إليه أيضًا على أنه استهزاء بالسعوديين، كما أوضح لي أحد المسؤولين هنا؛ حيث يلعب نجم كرة القدم البرتغالي كريستيانو رونالدو الآن مع فريق النصر السعودي، والذي يرتدي رقم 7، حيث تهتف له جماهير النصر بشدة بعد مرور سبع دقائق من بداية المباراة.
وقبل أسبوعين؛ استضافت السعودية سباق القوارب التمهيدي الثاني لكأس أمريكا السابعة والثلاثين في نادي جدة لليخوت على ساحل البحر الأحمر، بينما كان قراصنة الحوثي من اليمن يهاجمون السفن المملوكة لإسرائيل في نفس البحر الأحمر، وكان رجال الميليشيات الحوثية يطلقون الصواريخ على السفن المملوكة لإسرائيل، وبينما كان كل هذا يحدث في السماء وفي المحيط؛ قال صديق أمريكي لي كان يحضر سباق القوارب إن أحد مضيفيه السعوديين كان يوبخه بشأن الولايات المتحدة لدعمها تدمير غزة؛ إنه لأمر معقد.
ومع ذلك؛ كنت أسير في مركز الفيصلية التجاري يوم الإثنين عندما خرج صاحب متجر في منتصف العمر من متجره للملابس النسائية ليلقي التحية، وتحدث عن جميع الفرص التجارية التي تم فتحها في السعودية. لكن محادثتنا سرعان ما تحولت إلى غزة، وأراد أن يتأكد من أنني أفهم أن العديد من السعوديين لا يدعمون حماس، بسبب القتل الجماعي للمدنيين واختطاف المدنيين الذي فعلوه.
الأخبار السارة: قبل بضعة أشهر؛ أجرت الحكومة السعودية استطلاعًا خاصًا لسؤال السعوديين عن شعورهم تجاه التطبيع مع إسرائيل؛ إذا تم ذلك في سياق الدعم السعودي لإقامة الدولة الفلسطينية، وأخبرني مسؤول كبير أن سبعين بالمائة وافقوا على ذلك. أما الأخبار السيئة: فبالنظر إلى الصور القادمة من غزة الآن؛ أضاف أن الحكومة لن تجرؤ على إجراء هذا الاستطلاع اليوم.
المصدر: نيويورك تايمز