خرج مستقبل سوريا من أيدي النظام والمعارضة السورية منذ بدأت التدخلات الدولية والإقليمية في البلاد، فالقرار السيادي تم مصادرته من كلا الطرفين لصالح الدول المتدخلة؛ روسيا، إيران، تركيا، الولايات المتحدة، “إسرائيل”، ومحور الرياض أبوظبي. كل هذه الدول تسعى لفرض أجندتها على بقعة من العالم بات حل القضية فيها من أكبر العقد في التاريخ وربما في القرن الواحد والعشرين. مرت جولات عديدة في مفاوضات جنيف وأستانة دون الوصول إلى حل حقيقي ينهي النزاع ويعيد اللاجئين وتبدأ عملية انتقال سلمية للسلطة. بالإضافة إلى مفاوضات ثنائية وثلاثية في موسكو وأنقرة وطهران لمناقشة الأوضاع في سوريا.
بقيت المؤتمرات تنعقد حتى تم التوصل إلى حل بنظر كل من تركيا وإيران وروسيا، ففي الجولة التي عقدت الشهر الماضي في العاصمة أستانة بجولتها الرابعة تم التوافق بين الدول الضامنة الثلاثة، على اتفاقية لخفض التصعيد في أربع مناطق بسوريا، والبدء بمشاورات بين خبراء من تلك الدول لترسيم حدود تلك المناطق ونشر جنود من دول معينة للفصل.
تقسيم لسوريا أم ماذا؟
والآن وبعد مضي نحو شهر على الاتفاقية وقرب عقد أستانة بجولته الخامسة، يبدو أن المفاوضات الجارية بين خبراء من الدول الضامنة لترسيم مناطق خفض التصعيد، انتهت حتى الآن بالتوافق على منطقتين هما الثانية والثالثة وتشملان الغوطة الشرقية وشمال حمص وشمال غربي حمص، بينما لا تزال المنطقتان الأولى والرابعة قيد التفاوض ممثلة بدرعا وبعض ريف القنيطرة بالمنطقة الرابعة وتشكل إدلب المنطقة الأولى.
سوريا تدخل مرحلة جديدة عنوانها تحويل البلاد إلى مناطق نفوذ واضحة المعالم بين الأطراف الإقليمية والدولية
لم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي حول ماهية القوات التي ستراقب تلك المناطق أو فيما إذا سيتم الاعتماد قوات حفظ اليسلام من الأمم المتحدة أو من قبل الدول الثلاثة الضمانة. إذ أوضح المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن، قبل أيام أنه تم تشكيل آلية بين روسيا وتركيا وإيران بخصوص بخصوص مناطق خفض التوتر في سوريا، وأضاف أنه من الممكن نشر قوات روسية وتركية في محافظة إدلب، وأن القوات الأمريكية ستنتر في جنوب سوريا وأن قوات عسكرية من دول مخلفة ستعمل في مناطق خفض التوتر المتفق عليها.
فيما لا تزال مصادر عسكرية سورية تشكك بالتوصل إلى اتفاق في مناطق خفض التوتر الأربعة، وأنه لن يتم التوافق حتى الآن على تلك المناطق ومن المتوقع أن يحدث توافق دولي في اجتماع أستانة المقبل، فيما يشير مراقبون أن أستانة القادم سيكون لشرعنة وتوقيع ما تم التوصل إليه بين الخبراء طوال تلك الأيام.
المهم الآن أن هذا الاتفاق يسير بخطى ثابتة نحو تأكيد أساسات جديدة على واقع سوريا تثبت التقسيم سوريا كما يرى البعض، وهو ما لم تستطع الدول المتدخلة تحقيقه طوال السنوات الست الماضية، ومن شأن هذه الأساسات أن تدخل سوريا مرحلة جديدة عنوانها “تحويل البلاد إلى مناطق نفوذ واضحة المعالم بين الأطراف الإقليمية والدولية” وهذا يبعد احتمالية التوصل إلى اتفاق سياسي من مفاوضات جنيف المستمرة ويجعلها عبارة عن اجتماعات بروتوكولية لا أكثر لطرفي النزاع السوري، المعارضة والنظام، أو على الأقل في المرحلة الحالية حتى يتم القضاء على “داعش” في شرق سوريا.
سيكون الشمال والشمالي الغربي منطقة نفوذ تركية
وصف البعض هذه التوافقات بأنها بمثابة انتداب من قبل الدول الضامنة للاتفاق، فهو يشير إلى تقاسم حقيقي للأرض السورية بين الدول، وفي ظل غياب معارضة فعالة بسبب التناحر والتشرذم، وتسليم النظام السوري لقراره السيادي لحلفاءه الروس والإيرانيين، سيكون عندها من الصعوبة بمكان إفشال هكذا اتفاقات، بالأخص أنها تجري على أعلى مستوى إقليمي ودولي. او ربما يتم التأثير بها ولعب دور فعال فيها في حال حدوث تغيرات في بنية المعارضة السورية العسكرية والسياسية تكون قادرة على تغيير منحى الأمور، ومن المؤكد حتى الآن أن تركيا ستتولى إدارة شؤون المعارضة ومناطقها وتقوم روسيا وإيران بالعملية نفسها مع النظام السوري كما يرى مراقبون.
مناطق النفوذ في سوريا
حسب توزع القوى في الاتفاق الجديد، فإن الشمال والشمالي الغربي لسوريا سيكون منطقة نفوذ تركية، يُذكر أن أنقرة أقامت قاعدة عسكرية لها بالقرب من مدينة الباب شمال شرقي حلب، وتخطط لإقامة قاعدة عسكرية أخرى في دارة عزة بريف حلب الغربي، وهذا سيتيح لتركيا أن تجعل منها منطقة حيوية يكون امتداد لها في سوريا، تعيد توطين اللاجئين فيها الموجودين في المخيمات داخل تركيا، والأهم من ذلك هو منع تمدد القوات الكردية في ريف حلب وتأسيس كيان لهم على الحدود مع تركيا بما يهدد الأمن القومي التركي.
أما منطقة النفوذ الروسية فستكون الساحل السوري التي تمتلك فيها قاعدة عسكرية في طرطوس ومطار حميميم في اللاذقية إضافة إلى بناء قواعد عسكرية أخرى تسعى روسيا لبناءها بالقرب من مدينة حماة وسط البلاد وفي البادية السورية بالقرب من تدمر.
فيما ستهيمن إيران على منطقة مدينة دمشق وريفها وعلى مدينة حمص وريفها الغربي المتصل بلبنان الذي تحول إلى منطقة نفوذ لحزب الله منذ تدخلت قوات الحزب في سوريا وأنشأت فيها قواعد ومعسكرت للتدريب.
ولا يزال شرق سوريا ساحة صراع بين الأطراف الإقليمية والدولية، كل منها يسعى للظفر بالقضاء على “داعش” والإعلان أنها من قضت عليه. وبعد القضاء على “داعش” هناك عدة جهات تسعى لإدارة الرقة منها النظام السوري وميليشيات إيران وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيًا، بالإضافة إلى قوات النخبة التابعة لرئيس الائتلاف السابق أحمد جرابا والمدعومة من الإمارات.
ستهيمن إيران على منطقة مدينة دمشق وريفها وعلى مدينة حمص وريفها الغربي المتصل بلبنان
أما منطقة دير الزور فهي المنطقة التي تفوح منها رائحة النفط والتي تغري واشنطن لبسط سيطرتها عليها عبر حلفائها على الأرض، حيث تسعى لقطع جميع الأيادي التي تسعى للوصول إليها لتكون منطقة نفوذ أمريكية. لتبقى بهذا منطقة جنوب سوريا المؤلفة من درعا والقنيطرة والسويداء والتي لا تزال تخضع للمساومة والاتفاقات بين واشنطن وموسكو.