أزمة الديمقراطية في إفريقيا: الانقلابات أحد أعراض الخلل السياسي وليست السبب

ترجمة وتحرير: نون بوست

عندما يجتمع المسؤولون الأفارقة لمناقشة مسائل الحوكمة هذه الأيام، يبرز سؤال وهو أي رئيس سوف يطيح به جيشه في المرة القادمة؟ حدث 13 انقلابا ناجحا في أفريقيا في العقدين الأولين من هذا القرن، وفي الفترة من آب/أغسطس 2020 إلى تشرين الثاني/نوفمبر 2023، تمت الإطاحة بسبعة زعماء أفارقة على يد جيوشهم. ومع أن هذه الانقلابات العسكرية حدثت حتى الآن في المقام الأول في حزام من عدم الاستقرار يمتد من النيجر إلى السودان، فإن هناك خطرا حقيقيا من انتشار العدوى على نطاق أوسع.

تميل الانقلابات إلى عكس مسار التقدم الاقتصادي والسياسي في الدول الهشّة بالفعل، وبالتالي فإن وقف صعود هذه الانقلابات قد يكون المهمة الأكثر إلحاحًا بالنسبة لأفريقيا في العقد المقبل.

لكن للقيام بذلك، يتعين على صناع السياسات والمحللين الأفارقة خارج القارة أن يفهموا بشكل أفضل الديناميكيات المشتركة التي تدعم هذه الانقلابات. فمن ناحية، كانت الانقلابات الأخيرة مختلفة عن بعضها البعض، وكان كل منهم مدفوعًا بمشاكل محلية ظهر بعضها ردًا على فشل الحكومة في السيطرة على التشدد الإسلامي. ففي مالي، على سبيل المثال، أدت سنوات من العنف الإسلامي – والتدخل العسكري الفاشل بقيادة فرنسا لمعالجة القتال – قبل الإطاحة بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا سنة 2020 إلى استنفاد ثقة الجمهور في حكومته وفتح المجال أمام الجيش. كما مهّد العنف الإسلامي الجامح الطريق لانقلاب بوركينا فاسو في سنة 2022.

لكن التشدد الإسلامي لم يكن عاملًا في الانقلابات التي وقعت في غينيا والغابون في سنة 2021 و2023 على التوالي. وفي غينيا، التي عانت من حكم دكتاتوريين غريبي الأطوار لعقود من الزمن، أدت تحركات رئيس منتخب للتشبث بالسلطة مدى الحياة إلى التدخل العسكري. وفي الغابون، وفّرت الانتخابات المزورة بشكل صارخ من قبل حاكم ضعيف حكم لمدة طويلة قوة دافعة للتغيير. وفي تشاد سنة 2021، استغل القادة العسكريون الفرصة التي أتاحتها الوفاة المفاجئة للرئيس الذي حكم البلاد لفترة طويلة لتعيين ابنه رئيسًا للمجلس العسكري، ثم تخلوا عن وعدهم بالحد من مدة بقاء المجلس في السلطة. وفي العام نفسه في السودان، سعى القادة العسكريون إلى تعزيز سلطتهم في مواجهة حركة احتجاج شعبية متنامية. وفي الوقت نفسه، يبدو أن الانقلاب الذي حدث في أواخر تموز/ يوليو 2023 في النيجر كان نابعًا من صراع داخلي على السلطة بين الرئيس والقائد العسكري.

لكن حقيقة أن العديد من المآزق المختلفة قد انتهت بنفس الطريقة، أي من خلال شنّ انقلاب لحل أي كافة أنواع المشاكل، قد تصبح راسخة بالفعل. وعلى الرغم من أن كل انقلاب كان مدفوعًا بديناميكياته المحلية، فإن السخط على السلطات الحاكمة ينتشر في معظم أنحاء أفريقيا. تعد المشاكل الاقتصادية المحرك الرئيسي للإحباط الشعبي. في سنة 2022، وجدت دراسة استقصائية سنوية أجرتها “أفروباروميتر”، وهي مجموعة بحثية مقرها غانا تقوم بتقييم المواقف الشعبية في جميع أنحاء القارة، أن مواطني كل دول أفريقيا تقريبًا، بما في ذلك سكان دول شرق إفريقيا وجنوب إفريقيا المستقرة نسبيًا، يعتقدون أن بلادهم تسير في الإتجاه الخاطئ.

في السنوات الماضية، كان ينظر إلى الانقلابات في أفريقيا بشكل سلبي في كثير من الأحيان من قبل السكان. كان يُعتقد أنها جهود يحركها الجشع من قبل رجال يرتدون الزي العسكري لاحتكار موارد الدولة، لكن يبدو أن الانقلابات العسكرية تتمتع بدعم شعبي اليوم، وخاصة في منطقة الساحل. فقد وجد بحث أجراه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سنة 2022، أن ثمانية من كل عشرة من سكان مالي يدعمون المجلس العسكري في بلادهم، على الرغم من أن الاستطلاع نفسه وجد أن الانقلابات الأخيرة تميل إلى جذب أكبر قدر من الدعم بعد وقت قصير من حدوثها، ولكن شعبيتها تنخفض بعد ذلك.

يبدو هذا التحول في الرأي العام مثيرا للقلق فهو يشير إلى أن المواطنين الأفارقة أصبحوا يشعرون بخيبة أمل إزاء الديمقراطية أو يعتقدون على نحو متزايد أن الحكم الاستبدادي هو الحل الوحيد لمشاكل بلدانهم. وفي حين تقوم المؤسسات متعددة الجنسيات باتخاذ إجراءات صارمة ضد البلدان التي تقودها المجالس العسكرية، قام الاتحاد الأفريقي بتعليق عضوية الدول التي تشهد الانقلابات، كما فرضت دول غرب أفريقيا عقوبات قاسية عليها، وقام المانحون الأوروبيون بقطع الدعم عنها.

لكن نهج عدم التسامح هذا يسيء فهم جذور الاضطرابات الجديدة في أفريقيا ويخاطر بالمزيد من إفقار القارة التي تضررت جدًا بالفعل نتيجة الصدمات العالمية مثل تغير المناخ وجائحة كوفيد-19 في سنة 2019، والواقع أن الدراسات الاستقصائية الشاملة تظهر أن المواطنين الأفارقة، حتى أولئك الذين يعيشون في بلدان شهدت انقلابات مؤخرًا، ما زالوا يؤمنون بالديمقراطية، لكنهم كانوا يسعون لتخليص أنفسهم بأي شكل من الأنظمة التي تدعي أنها ديمقراطية ولكنها غالبًا ما تفشل في الوفاء بالوعود الأساسية للديمقراطية.

في مواجهة الكوارث الناجمة عن تغير المناخ، وأزمات الديون السيادية، وارتفاع معدلات التضخم، استجمع السكان في العديد من البلدان الأفريقية طاقتهم للاحتجاج من أجل الإصلاحات الديمقراطية. ولكن على مدى العقدين الماضيين، قام القادة في ربع البلدان الأفريقية بتعديل أو تجاهل حدود الولاية الدستورية لتعزيز سلطتهم. وفي نظر العديد من المواطنين الأفارقة، قد يبدو الانقلاب العسكري بمثابة استراحة مرحب بها في الوضع الراهن المحبط. وأي تغيير، حتى لو كان انقلابًا، يفتح على الأقل نافذة في نفق طويل من فشل النخبة وقمعها.

الانقلابات لا تؤدي إلا إلى تفاقم مشاكل البلدان، لذا يتعين على القادة الذين يأملون في وقفها أن يدركوا السياق الأعمق الذي تنشأ فيه هذه الحركات. وإذا فعلوا ذلك، فسوف يرون ضرورة اتباع نهج مختلف بشكل ملحوظ. فقد تحتاج الحكومات والمؤسسات الأجنبية، مثل الاتحاد الأفريقي، إلى العمل بشكل مؤقت، مع بعض قادة الانقلابات لتشجيعهم على السير في مسار أكثر ديمقراطية، والأمر الأكثر أهمية أنه يتعين على الجهات الغربية الفاعلة أن تحول نهجها المعتاد في التعامل مع القارة، وتحويل الاهتمام بعيدًا عن المساعدات الأمنية والعمل العسكري إلى دعم إصلاحات الحكم وتعزيز ذلك النوع من الدعم الاقتصادي الذي يعمل على تحسين فرص الأسر العادية في تأمين سبل عيش مستقرة.

توقعات عظيمة

قليلة هي المناطق التي تعرضت لنفس الدرجة من الضرر الذي شهدته أفريقيا نتيجة الصدمات العالمية الأخيرة، وكثيرًا ما كان زعماء القارة في حيرة من أمرهم حول كيفية معالجة هذه الأضرار. فقد تسبب تغير المناخ في انتشار الجوع في مساحات شاسعة من شرق القرن الأفريقي، وفيضانات غير مسبوقة في ليبيا وجنوب السودان، وعواصف مميتة في الجنوب الأفريقي. كما أدى الغزو الروسي لأوكرانيا سنة 2022 إلى انخفاض صادرات الحبوب إلى أفريقيا، مما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الوقت الذي كانت تحاول فيه العديد من البلدان رسم مسار نحو إنعاش الاقتصادات المتضررة من جائحة كوفيد-19. ومع أن الصين كانت أكبر مقرض في أفريقيا على مدى السنوات القليلة الماضية، إلا أن قروضها لأفريقيا انخفضت مؤخرًا بشكل كبير، من ذروة بلغت 28 مليار دولار في سنة 2016 إلى أقل بقليل من مليار دولار في سنة 2022. وقد أدى ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية إلى هروب رؤوس الأموال من الاقتصادات الأفريقية الرئيسية حيث يتطلع المستثمرون إلى عوائد أفضل في الداخل.

بلغ متوسط معدل التضخم في القارة 16 بالمائة في صيف 2023، وهو أعلى بكثير من المتوسط العالمي البالغ 7 بالمائة، في حين تجاوزت النسبة 25 بالمائة في كل من نيجيريا وإثيوبيا، البلدين الأكثر اكتظاظا بالسكان في أفريقيا. ومنذ أيلول/سبتمبر 2023، شهدت نيجيريا عشرة أشهر من الارتفاعات المتتالية في التضخم. وفي حين تعتمد الدول الأفريقية أيضًا على النفط من الشرق الأوسط، فإن احتمال اتساع الحرب الجديدة بين إسرائيل وحماس قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة المرتفعة بالفعل.

تمثل هذه الصورة القاتمة تحولاً عن التفاؤل النسبي الذي ميز بداية القرن الحادي والعشرين في القارة، فقد جعلت كل من موسكو وواشنطن أفريقيا ساحة معركة بالوكالة خلال الحرب الباردة، مما أدى إلى تشويه سياساتها وتأجيج الحروب فيها. ولكن من الناحية الاقتصادية، تلقت العديد من الدول الأفريقية أيضًا دعمًا سخيًا من الحكومات الغربية والمؤسسات الدولية التي يهيمن عليها الغرب مقابل عدم الوقوع في أحضان موسكو، بينما حصل آخرون على دعم من موسكو.

ألزم الاتحاد الأفريقي الجديد نفسه بـ “عدم اللامبالاة” فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، مبتعدًا عن نهج منظمة الوحدة الأفريقية المتمحور حول الدولة الذي يركّز على “عدم التدخل”

عندما انتهت الحرب الباردة، انزلق قسم كبير من أفريقيا إلى عِقد من عدم اليقين السياسي والاقتصادي، وتم إسقاط بعض الحكام الأفارقة المستبدين من مناصبهم مع انتشار الديمقراطية في أوروبا الشرقية. وفي الوقت نفسه، تفاقمت المشاكل الاقتصادية في أفريقيا بسبب قيام دول نصف الكرة الشمالي بخفض الدعم المالي مما أدى إلى سعي العديد من البلدان الأفريقية إلى الحصول على قروض من المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وكشرط للحصول على هذه القروض، طلب المقرضون من الحكومات الأفريقية إجراء إصلاحات مؤلمة في السوق.

كانت هذه الإصلاحات مثيرة للجدل، ولكن بعد سنة 2000، بدأ بعضها في تحقيق الأرباح، وشهدت السنوات القليلة الأولى من القرن نموًا سريعًا في أجزاء كثيرة من القارة. نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للبلدان الأفريقية بنسبة 2.5 بالمائة في المتوسط طوال التسعينيات، ولكن ما بين 2000 و2010، ارتفع هذا النمو إلى 5.0 بالمائة، كما تعمق الاستقرار السياسي، وأصبحت الانتخابات روتينية في العديد من البلدان.

كان تأسيس الاتحاد الأفريقي في سنة 2002 بمثابة دليل على ارتفاع الثقة في القارة، فقد كانت منظمة الوحدة الأفريقية، سلف الاتحاد الأفريقي، التي تأسست سنة 1963، تعتبر بلا أنياب لعقود من الزمن؛ حيث تجاهلت انتهاكات وفظائع المستبدين مثل الإبادة الجماعية في رواندا سنة 1994، وقد وصفها الرئيس الأوغندي يويري موسيفيني، قبل أن يتحول بنفسه إلى ديكتاتور، بأنها “نقابة العمال الديكتاتوريين” في العالم. وعندما تحركت مجموعة من الزعماء الأفارقة الشباب الطموحين ليحلوا محل منظمة الوحدة الأفريقية، قرروا أن الوقت قد حان لإلزام الدول الأعضاء بمعايير أعلى.

ألزم الاتحاد الأفريقي الجديد نفسه بـ “عدم اللامبالاة” فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، مبتعدًا عن نهج منظمة الوحدة الأفريقية المتمحور حول الدولة الذي يركّز على “عدم التدخل”، وشددت قيادتها أيضًا على ضرورة منع التغييرات غير الدستورية للحكومة. وفي وقت مبكر، استخدم زعماء البلدان الأفريقية، مثل رئيس جنوب أفريقيا ثابو مبيكي والرئيس النيجيري أولوسيجون أوباسانجو، الهيئة الجديدة لدعم المبادرات الفعّالة مثل الآلية الأفريقية لمراجعة النظراء، وهو برنامج تقوم فيه الحكومات الأفريقية بتقييم بعضها البعض بشكل دوري لقياس أدائها في مجال الحكم الرشيد والشفافية والديمقراطية والمساءلة السياسية.

جراح خفية

خلف الكواليس، ظلت نقاط الضعف قائمة، فقد استمرت معاناة العديد من البلدان الأفريقية من عجز كبير في الحكم الديمقراطي. وكان العقد الأول من هذا القرن فترة مرت فيها الهيمنة الغربية دون منازع إلى حد كبير، وكان على السلطات في أفريقيا أن تكون حريصة على عدم الوقوع في صدام مع الجهات الفاعلة الغربية القوية. قطعت بعض الدول خطوات جادة نحو ترسيخ الديمقراطية، ولكن في حالات أخرى، قام الرجال الأقوياء بتعزيز الديمقراطية الأدائية، متظاهرين بسياسة التعددية الحزبية لجذب العواصم الغربية.

حتى في البلدان التي نظمت انتخابات، حاول أصحاب المناصب في كثير من الأحيان إمالة الكفة لصالحهم، من خلال تقييد قدرة أحزاب المعارضة على حشد الدعم، وقمع المجتمع المدني، وتقليص حرية الصحافة. انتهت العديد من البلدان – بما في ذلك جمهورية أفريقيا الوسطى وغينيا الاستوائية وزيمبابوي – إلى ظل “الاستبداد الانتخابي”، وهو نظام يقوم فيه الرؤساء بإصلاح الانتخابات وتغيير الدستور حتى يتمكنوا من الاستمرار في السلطة خارج حدود فترات ولايتهم.

بات يُنظر إلى التصويت باعتباره طقسًا لا معنى له في العديد من الدول، ولم تتقاسم العديد من الحكومات في القارة فوائد النمو الاقتصادي على نطاق واسع في سنوات الازدهار. عقد بعض الرؤساء صفقات مع النخب القوية، ووسّعوا نطاق وصولهم إلى مزايا الدولة مقابل عدم تحدي قبضتهم على السلطة، في حين كان يُنظر إلى توفير الخدمات للجمهور الأوسع على أنه أولوية منخفضة.

بدأت هذه النظرة الهشة، وإن كانت لا تزال متفائلة، في التآكل عندما تسببت الأزمة الاقتصادية العالمية في سنة 2008 في انهيار أسعار السلع الأساسية، مما أدى إلى قطع مصدر حيوي للدخل للعديد من الحكومات الأفريقية، ثم غزت القوات التي يقودها حلف الناتو ليبيا سنة 2011 لفرض قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. كان هذا تطورًا كارثيًا بالنسبة لغرب أفريقيا، حيث أدى التدخل إلى إطلاق تيارات من الأسلحة المتطورة من مستودعات الأسلحة الليبية إلى منطقة الساحل، مما أدى إلى تمكين مجموعة متنوعة من الجماعات المسلحة غير الحكومية، وتحويل ميزان القوى ضد قوات أمن الدولة سيئة التجهيز وسيئة الدوافع، وإشعال العنف عبر مساحة شاسعة من الأراضي من موريتانيا إلى تشاد.

أدى القتال في السودان وحده إلى مقتل الآلاف من البشر، وتشريد سبعة ملايين آخرين، وإخراج 19 مليون طالب من المدارس

كان الثمن بالنسبة للمدنيين باهظا، فعلى الرغم من أن العديد من البلدان التي وقعت في مرمى النيران لم تكن غنية قط، إلا أن المواطنين في المناطق الريفية كانوا يعيشون في حالة طبيعية وسلام نسبيين. واليوم، انقلب الصراع رأسًا على عقب في العديد من المجتمعات الريفية في منطقة الساحل الوسطى، إذ نزح 10 بالمائة من سكان بوركينا فاسو من منازلهم، وأدى فشل سلسلة من التدخلات العسكرية الفرنسية لوقف تصاعد التشدد منذ سنة 2012، إلى سقوط المزيد من الضحايا بين المدنيين، كما أدت هذه المغامرات الفرنسية الفاشلة إلى تأجيج الاستياء العميق إزاء غطرسة حكومات باريس الواضحة، والتي لا تزال تسعى إلى اتخاذ القرار في مستعمراتها السابقة، كما ولّدت موجة قوية من القومية في معظم أنحاء غرب أفريقيا.

في أعقاب هذه الاضطرابات، لا تزال بعض البلدان الأفريقية تبدو على وشك إنشاء حكم أكثر تمثيلًا للشعب. على مدار ثلاثة عقود من الزمن، كانت إثيوبيا تحت قيادة نفس التحالف السياسي ذي القبضة الحديدية. ولكن في سنة 2018، وصل آبي أحمد، وهو شخصية غير معروفة نسبيًا، إلى السلطة بعد موجة من الاحتجاجات، وسرعان ما أطلق سراح السجناء السياسيين وأعلن عن مجموعة من الإصلاحات السياسية الشاملة، كما أكسبه اتفاق السلام الذي أبرمه مع جارته إريتريا جائزة نوبل للسلام في سنة 2019. وفي العام نفسه في السودان، نجحت حركة احتجاجية ملهمة – مع وجود نساء في أدوار بارزة – في دفع المستبد عمر البشير إلى تقاعد مخزٍ في السجن.

ولكن سرعان ما خرج هذان التحوّلان عن المسار الصحيح. ففي سنة 2021، انخرطت الحكومة الإثيوبية والقوات المتحالفة معها من إريتريا المجاورة في حرب أهلية مع جبهة تحرير شعب تيغراي، التي قادت في السابق التحالف الذي حكم إثيوبيا، وقام الجنرالات الذين حلّوا محل البشير في السودان، والذين حرصوا على التمتع بإمكانية الوصول إلى موارد الدولة دون منازع، بإدخال بلادهم في حرب أهلية لا طائل من ورائها.

ويبدو أن لحظة القطب الواحد قد انتهت. فمع بروز قوى جديدة تسعى إلى تحقيق مصالحها في أفريقيا ــ تعد الصين أبرزها، ولكنها تشمل أيضًا روسيا والقوى المتوسطة مثل البرازيل والهند وتركيا وممالك الخليج ــ أصبح لدى القادة الأفارقة المزيد من الشركاء للاختيار بينهم. لم يعد لديهم شعور بالحاجة الماسة إلى الانصياع للمطالب الغربية التي تدعوهم إلى التحول إلى الديمقراطية،

وتقوم بعض هذه القوى المتوسطة بتغذية صراعات جديدة من خلال توفير الأسلحة للقادة والفصائل المفضلة لديها في المناطق التي لها فيها مصالح تجارية وجيواستراتيجية. وقد أدى القتال في السودان وحده إلى مقتل الآلاف من البشر، وتشريد سبعة ملايين آخرين، وإخراج 19 مليون طالب من المدارس، كما خلفت الحرب الأهلية الأخيرة في إثيوبيا مئات الآلاف من القتلى.

حبوب مُرّة

ليس من المستغرب أن العديد من الانقلابات الأخيرة أعقبتها احتفالات في الشوارع، ولكن التوقعات بالنسبة لأفريقيا ليست قاتمة على الدوام. فقد أفلت عدد من البلدان في شرق أفريقيا والجنوب الأفريقي من شبح الانقلابات وما زالت تتجه نحو ترسيخ الديمقراطية. وفي سنة 2007 في كينيا، تحوّلت مزاعم تزوير الأصوات بعد الانتخابات الرئاسية إلى أعمال عنف عرقية، مما أسفر عن مقتل أكثر من 1000 شخص وتشريد ما يصل إلى 600 ألف آخرين. بحلول سنة 2017، تم التعامل مع ادعاءات تزوير الانتخابات بشكل مختلف تمامًا. ألغت المحكمة العليا الكينية إعلان فوز الرئيس أوهورو كينياتا وأمرت بإجراء انتخابات جديدة، وكانت هذه المرة الأولى التي تصر فيها محكمة عليا في أفريقيا على إعادة الانتخابات المتنازع عليها، وقد احترم المرشحون والمسؤولون في كينيا القرار.

حذت المحكمة العليا في مالاوي حذو كينيا في سنة 2019، وأبطلت فوز الرئيس بيتر موثاريكا في الانتخابات بعد أن اشتكى حزب المعارضة من أن السباق شابته مخالفات.  فاز أحد زعماء المعارضة في إعادة التصويت الذي أمرت به المحكمة. وفي زامبيا سنة 2021، فاز زعيم المعارضة، هاكايندي هيشيليما، بالرئاسة رغم الجهود الحثيثة التي بذلها شاغل المنصب لترجيح كفة الميزان لصالحه، وبعد أن أعلن مسؤولو الانتخابات في زامبيا فوز هيشيليما، رضخ شاغل المنصب للنتيجة وترك منصبه بسلام.

تعاني دولة جنوب أفريقيا من أزمة اقتصادية نتجت عن سوء الإدارة المالية المؤسفة من قِبَل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم، ولكنها تظل دولة ديمقراطية قوية تتمتع بمؤسسات قوية، بما في ذلك المحاكم التي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها مستقلة. وتعمل هذه المحاكم كضامن قوي لدستور ما بعد الفصل العنصري في البلاد، وهو أحد أكثر الدساتير تقدما في أفريقيا. وبشكل عام، كان أداء البلدان الأفريقية التي استثمرت في منح مواطنيها حكماً أكثر استجابة وبنت مؤسسات ذات مصداقية مثل الهيئات القضائية المستقلة، أفضل حالاً.

إن الانتخابات الحرة والنزيهة لا ترتبط بشكل موحد بالاستقرار. ففي رواندا، على سبيل المثال، تحكم السلطات قبضتها على البلاد ولكنها لا تزال تقدم الخدمات بفعالية. مع ذلك، يبدو أن الديمقراطية والاستقرار مترابطان بشكل عام. وقد وجدت دراسة استقصائية سنوية أجرتها مؤسسة مو إبراهيم، وهي منظمة غير حكومية تدعم التحسينات في القيادة الأفريقية، في سنة 2022 أن البلدان التي تحصل على أعلى تقييمات “للحكم الشامل” من مواطنيها تميل أيضًا إلى أن تكون الأكثر سلمية.

قد يبدو الأمر غير بديهي، ولكن في البلدان الأقل استقرارا، قد يأمل المواطنون أن تقودهم الانقلابات في نهاية المطاف إلى طريق أقرب إلى كينيا. وترحيب المواطنين الأفارقة الحار بالانقلابات الأخيرة، في منطقة الساحل بشكل خاص، لا يشير إلى فقدان الثقة في الديمقراطية. وفي وقت سابق من هذه السنة، أجرى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي دراسة لآراء الأفارقة حول الانقلابات والتلاعب بالدستور. وقد شملت الدراسة 8000 أفريقي، 5000 يعيشون في بلدان عانت من الانقلابات الأخيرة و3000 يعيشون في بلدان تتجه نحو ترسيخ الديمقراطية.

قال 67 بالمئة من الأفارقة الذين يعيشون في الديمقراطيات الراسخة إن الديمقراطية تعدّ الطريقة المفضل لديهم للحكم. لكن 55 بالمئة من الأفارقة الذين يعيشون في البلدان التي تخضع للحكم العسكري حاليا قالوا أيضًا إنهم يفضلون الديمقراطية، أي حوالي ثلاثة أضعاف عدد الذين يفضلون الحكم غير الديمقراطي. وقد تم دعم النتيجة التي مفادها أن المواطنين الأفارقة ما زالوا يؤمنون بالديمقراطية من خلال دراسة استقصائية رئيسية أخرى أجريت مؤخرا، من قبل مؤسسة المجتمع المنفتح. ومن خلال تجميع آراء 36 ألف شخص في جميع أنحاء العالم، اتضح أن هناك تأييدا قويًا بشكل خاص للديمقراطية كأسلوب للحكم بين المشاركين الأفارقة.

يبدو أن الدعم الواضح من قِبَل المواطنين الأفارقة للحكم العسكري يشير إلى الاستياء العام من النخب الفاشلة، وليس إلى نفورهم من الديمقراطية. باختصار، تتدخل الجيوش حين تفشل الطبقات السياسية في تجديد نفسها، وتثبت عجزها عن تزويد شعوبها بحلول للمشاكل العاجلة، سواء كانت مرتبطة بالأمن، أو الخدمات العامة، أو إعادة توزيع الثروة. وفي كثير من الأحيان، كان الحكم المدني يعني حكما سيئا، وينظر المواطنون اليائسون إلى الحكم العسكري باعتباره بديلا أفضل.

لكن الطريقة التي استجابت بها الحكومات الغربية والاتحاد الأفريقي والمنظمات دون الإقليمية للاضطرابات أدت إلى تفاقم حالة انعدام الاستقرار. وكان رد فعل هذه المؤسسات عموما الغضب الشديد، حيث أصرت على أن أي انقلاب يؤدي ببساطة إلى إلغاء القواعد والأعراف. قام الاتحاد الأفريقي، على سبيل المثال، بتعليق عضوية بوركينا فاسو، والغابون، وغينيا، ومالي، والنيجر، إلى أن يتم استعادة الحكم الدستوري. وفرضت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا عقوبات قاسية على بوركينا فاسو، وغينيا، ومالي، وقد أدت العقوبات التي فرضتها إلى تقييد وصول النيجر إلى الكهرباء بشدة.

في بعض الحالات، أصرت الجهات الفاعلة الخارجية على أن الرد المناسب الوحيد الممكن على الانقلاب هو إعادة الزعيم المخلوع، حتى عندما تكون الاحتمالات الحقيقية لعكس الانقلاب قاتمة. ففي الصيف الماضي، أمضت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، بدعم قوي من فرنسا، أسابيع في المطالبة بإعادة رئيس النيجر إلى منصبه مع تهديدات بالتدخل عسكريا. وهذا النهج العقابي يؤذي المدنيين بينما يفشل في إحداث تغيير جوهري في سلوك المجالس العسكرية.

الحلّ البديل

الخطوة الأولى نحو عكس اتجاه انعدام الاستقرار السياسي في أفريقيا تتلخص في تبني فهم أكثر دقة له. ولدى العديد من النخب في بوركينا فاسو وغينيا ومالي والنيجر ردود جاهزة على الغضب الذي تم التعبير عنه في العواصم الغربية وفي الاتحاد الأفريقي ردا على الانقلابات العسكرية: أين كنتم عندما كنا نكافح مع الجهاديين الذين يقتلون شعوبنا؟ أين كنتم بعد أن نظم رؤساؤنا الحاليون انتخابات مزورة؟ وعندما عدل الزعماء الأفارقة أو تجاهلوا حدود الولاية الرئاسية، لم يسارع الاتحاد الأفريقي بشكل خاص إلى إدانة هذا النوع من الاستيلاء على السلطة.

بوسع مؤسسات مثل الاتحاد الأفريقي أن تقدم حجة أقوى ضد الانقلابات العسكرية: فهي ببساطة غير ناجحة. يصل الانقلابيون إلى السلطة واعدين باستعادة الأمن وتحسين جودة الحياة، لكن عادة ما ينتهي بهم الأمر إلى جعل الأمور أسوأ. وتقدم منطقة الساحل مثالا على ذلك إذ أصبح وضعها الأمني اليوم أكثر قتامة مما كان عليه قبل استيلاء الجنرالات العسكريين على السلطة. وفي سنة 2007، تم تسجيل واحد بالمئة فقط من الوفيات الناجمة عن العنف الجهادي في جميع أنحاء العالم في منطقة الساحل. وفي سنة 2022، ارتفعت هذه النسبة إلى 43 بالمئة.

وفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي، التابع لمعهد الاقتصاد والسلام، سجّلت بوركينا فاسو في سنة 2022 عددًا من القتلى من الهجمات الجهادية أكثر من أي دولة أخرى في العالم. وليست التأثيرات التي تخلفها الانقلابات على الاقتصادات أقل خطورة. في سنة 2020، نشر باحثون من جامعة ميونيخ دراسة عن الانقلابات ومحاولات الانقلاب في 180 دولة على امتداد 70 سنة. ووجدوا أن الانقلاب الناجح يبطئ نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بمقدار نقطتين أو ثلاث نقاط مئوية.

بعد الانقلاب، يميل الجنود غير المدربين على التعامل مع الشؤون الاقتصادية إلى وضع سياسات غير متوقعة، ما يحبط المستثمرين. وتشكل التخفيضات في برامج المانحين ضربة أخرى. وحتى قبل انقلاب النيجر في منتصف سنة 2023، تمكن القادة هناك من جمع 52 بالمئة فقط من الإيرادات التي يحتاجونها لتشغيل برامجهم الحكومية. وتعني التخفيضات اللاحقة في مساعدات المانحين أن قادتها الجدد سوف يجدون صعوبة في تلبية احتياجات الجمهور.

لكن الجهود الرامية إلى عكس الانقلابات بمجرد حدوثها نادرا ما تنجح. ففي النيجر، على سبيل المثال، كانت فرص إعادة الجيش الحكم للرئيس محمد بازوم شبه منعدمة. ولن يؤدي الموقف المتشدد إلا إلى الحد من قدرة الحكومات الأجنبية والمؤسسات متعددة الأطراف على التأثير على القادة الجدد وتعميق حالة انعدام الأمن.

في حزيران/ يونيو 2023، طالب الانقلابيون في مالي، مشيرين إلى ضرورة حماية السيادة الوطنية، بخروج بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من البلاد. وساهم رحيل قوات حفظ السلام في استئناف الأعمال العدائية بين القوات المالية والجماعات المتمردة المسلحة حيث تنافس الجانبان للسيطرة على القواعد العسكرية التي تركتها الأمم المتحدة وراءها.

يؤيد العديد من المواطنين الانقلابات بسبب اليأس من الصعوبات الاقتصادية والأمنية التي يواجهونها.

وفي هذا السياق المعقّد، فإن الاستجابة الأكثر ذكاءً تهدف إلى تحسين الوضع في البلدان التي استولى فيها الجنود على السلطة. ويتعين علينا أن نفهم الدور الذي لعبته المؤسسة العسكرية في الانقلابات الأفريقية الأخيرة بعبارات أقل نمطية. تتباهى جيوش غرب أفريقيا، والعديد من القوات المسلحة الأخرى في مختلف أنحاء أفريقيا، بشكل عام الآن بفرق مدربة تدريبا جيدا يقودها ضباط تلقوا في كثير من الأحيان تعليمات في مؤسسات عسكرية غربية نخبوية. ويعتقد العديد من المواطنين العاديين في دول مثل مالي أنه على الرغم من التحديات الأمنية مستمرة، فإن القادة العسكريين لديهم أفضل فرصة لاستعادة الاستقرار.

يقدم رد الولايات المتحدة على الانقلاب في النيجر نموذجا بارزا. وعلى عكس باريس، التي قطعت على الفور علاقاتها الدبلوماسية مع الحكام العسكريين الجدد، أشارت واشنطن إلى أنها ستُبقي قواتها المتمركزة في النيجر مشروطة بقبول السلطات الانتقالية العسكرية الانتقال إلى الحكم المدني ورفض المساعدة من الروس. ولا يخلو هذا النهج العملي من المخاطر. وليس هناك ما يضمن أن المجلس العسكري في النيجر سوف يذعن باستمرار لمطالب الولايات المتحدة. لكن هذا النهج يستحق المحاولة. ومن المرجح أن يؤتي أُكله أكثر من الموقف الانتقادي الذي يمنع إمكانية أي تعامل مع القادة الجدد في أي بلد بعد الانقلاب، وربما يشجعهم حتى على البحث عن شراكات مع جهات سلطوية مثل روسيا.

في المستقبل، ينبغي للقادة وصناع السياسات الآخرين أن يكونوا أكثر انفتاحا على العمل مع قادة الانقلاب، وتشجيعهم على اتخاذ خطوات نحو تهجين حكومتهم حتى يتمكنوا من دمج الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، بما في ذلك الجماعات النسائية. وربما يعتبر القادة العسكريون هذه الخطوات أقل تهديدا. ولكنها يمكن أن تسمح للجهات الفاعلة الإقليمية، فضلا عن الشركاء الخارجيين، بدعم الجماعات المدنية التي يمكن أن تحث على العودة في نهاية المطاف إلى النظام الدستوري.

يتعين على الاتحاد الأفريقي أن يذهب إلى ما هو أبعد من تعليق عضوية البلدان التي تواجه تغيرات غير دستورية في حكوماتها. من حيث المبدأ، يعد تعليق عضوية أي دولة بعد المجلس العسكري أمرًا سليمًا، وهو يتماشى مع ميثاق الاتحاد الأفريقي. لكن مجرد تعليق عضوية الدول التي يقودها الجيش لن يفعل الكثير لتحقيق تغيير في المسار في عواصمها. ويتعين على الاتحاد الأفريقي أن يتعاون بشكل مستمر مع السلطات العسكرية الجديدة لتشجيع العودة إلى الحكم المدني. وينبغي للاتحاد الأفريقي أن يظهر قدرا أكبر من الاتساق لتجنب اتهامه بتعليق عضوية الدول بشكل انتقائي: فقد استثنى التشاد في سنة 2021، وحكم بأن الفترة الانتقالية هناك لا ترقى إلى مستوى الانقلاب.

حافظت الولايات المتحدة والنرويج على مساعدات إنسانية كبيرة لدول الساحل التي تعرضت للانقلابات. وردا على الانقلابات، يتعين على الحكومات الغربية الأخرى والأمم المتحدة أن تستمر في تقديم المساعدات الاقتصادية والإنسانية المستهدفة. ويتعين على المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا أن تعيد النظر في العقوبات الضارة التي فرضتها على الدول الأعضاء التي يديرها الجيش، مع استثناء السلع الأساسية مثل الوقود والأدوية والكهرباء على الأقل. ويؤيد العديد من المواطنين الانقلابات بسبب اليأس من الصعوبات الاقتصادية والأمنية التي يواجهونها. وتجنب معاقبتهم هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للجهات الخارجية من خلالها الحفاظ على ثقة هؤلاء المواطنين.

الوقاية خير من العلاج

لا شك أن استخدام نهج مختلف في التعامل مع زعماء الانقلاب لن يكون كافيا لوقف وباء الانقلابات في أفريقيا. والأمر يتطلب قدرا كبيرا من الجهود المتضافرة على نطاق أوسع لمنع تطور الأزمة الاقتصادية إلى اضطرابات سياسية. وخلال السنة الجارية فقط، اندلعت الاحتجاجات بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة في بلدان متباينة مثل كينيا ونيجيريا والسنغال وجنوب أفريقيا. وتنمو موجة الغضب في معظم أنحاء القارة، خاصة بين فقراء المناطق الحضرية.

ولا تستثنى السلطات المحلية من اللوم. ولكن الظروف العالمية تحد بشدة حتى من قدرة الزعماء الأفارقة ذوي النوايا الطيبة على الاستجابة للصعوبات الاقتصادية التي يواجهونها. وهناك مشكلة كبيرة تتمثل في أزمة الديون التي يعاني منها العالم النامي حاليا. تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في أفريقيا 65 بالمئة، أي أعلى بنسبة 10 بالمئة من الحد الأقصى الذي أوصى به صندوق النقد الدولي. وفي سنة 2017، اعتبر البنك الدولي أن 15 دولة من دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تعاني من ضائقة الديون أو معرضة لخطر كبير، وارتفع هذا العدد منذ ذلك الحين إلى 23 دولة.

في أواخر سنة 2020، تخلفت زامبيا عن سداد ديونها السيادية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى جائحة كوفيد-19. في كانون الأول/ ديسمبر 2022، فشلت غانا أيضًا في سداد ديونها وهي تعاني حاليا من معدل تضخم يبلغ 38 بالمئة، وهو من أعلى المعدلات في أفريقيا. وفي سنة 2024، سوف يحل موعد استحقاق قروض سندات اليورو المستحقة على العديد من البلدان الأفريقية، وسوف تضطر الحكومات إلى تحويل الموارد من تقديم الخدمات إلى مدفوعات الديون، وهي خطوة من شأنها أن تثير غضب المواطنين حتما. وبالنسبة لبعض البلدان الأخرى، فإن خطر التخلف عن السداد آخذ في الارتفاع.

إن عبء الديون السيادية المستحقة على البلدان الأفريقية ليس مجرد مشكلة محاسبية. إذ يؤدي التخلف عن سداد الديون إلى معاناة الملايين، ويهدد الأمن والحكم الديمقراطي. وقد توصلت دراسة رئيسية أجراها البنك الدولي إلى أنه بعد تخلف أي دولة عن سداد ديونها السيادية، ترتفع معدلات الوفيات بين الأطفال بنسبة 13 بالمئة، وترتفع معدلات الفقر بنسبة 30 بالمئة، وتظل مرتفعة لسنوات عديدة.

اقترحت الدول الأكثر ثراء خطوات للمساعدة في تخفيف هذه التحديات الاقتصادية. لكن المتابعة كانت بطيئة. على سبيل المثال، تعهدت دول الاتحاد الأوروبي بإعادة تدوير مخصصاتها من حقوق السحب الخاصة – وهو أصل أنشأه صندوق النقد الدولي لتعزيز الاحتياطيات الوطنية للدول الأعضاء – إلى البلدان منخفضة الدخل لمساعدتها على التعافي من الوباء. ولكن وفقا للقادة الأفارقة، فإن وصول هذه المساعدة كان بطيئاً للغاية.

في عصر المنافسة الجيوسياسية المضطربة حيث تتنافس القوى العظمى على النفوذ في أفريقيا، يمكن للولايات المتحدة أن تكسب الحلفاء من خلال مساعدة البلدان الأفريقية على تجنب الانهيار الاقتصادي. وفي خطوة واعدة، انضمت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين إلى قمة حزيران/ يونيو 2023 التي استضافها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لتقييم الحلول لأزمة الديون التي ابتليت بها معظم دول العالم النامي. لكن يتعين على واشنطن أن تفعل أكثر من ذلك بكثير. ويمكنها أن تحث صندوق النقد الدولي على إطالة فترات السداد للمقترضين وتقديم المزيد من التمويل الميسر للدول الفقيرة. وقد تدفع مثل هذه التحركات الصين إلى التماس حسن النية من خلال اتخاذ المزيد من الخطوات الملموسة للمساعدة في معالجة ضائقة الديون التي تعاني منها البلدان الأفريقية.

ازدهار الشباب

يتمثّل الحل الرئيسي لتحسين الأمن وسبل العيش في أفريقيا في الابتعاد عن النهج القائم على الأمن. وفي أعقاب أحداث 9/11، حوّلت الحكومات الغربية الطاقة والتمويل الذي كان موجها في السابق لتخفيف حدة الفقر إلى قطاع الأمن، ووجهت مليارات الدولارات نحو تعزيز قدرة الجيوش الأفريقية. وأصبح التصور بأن الأعمال العسكرية في أفريقيا – من الانقلابات إلى الانتفاضات الجهادية المسلحة – يجب أن تقابل برد عسكري. ولكن هذا النهج حقق نجاحات ضئيلة. ولا تزال العمليات الأمنية حيوية في الجهود الرامية إلى صد التطرّف. ولكن هذه الخطوات لابد أن تكون مصحوبة بجهود سياسية قوية للتعامل مع الجماعات التي قد تكون راغبة في نبذ العنف مقابل حوافز مثل الدعوات للانضمام إلى الأجهزة الأمنية الرسمية في بلادها أو هياكل الحكم المحلي.

إن معالجة الظروف الاجتماعية والاقتصادية الأعمق التي يستغلها المسلحون لتجنيد الشباب الساخطين قد تساعد السلطات على تحويل مجرى الأمور ضد الجهاديين. وتعتبر دولة كوت ديفوار مثالا يُحتذى به. فعلى امتداد العقد الماضي، نفذت البلاد برنامجا شاملاً للتنمية الاقتصادية يتضمن التدريب المهني والتسهيلات الائتمانية للشباب في منطقتها الشمالية. لكن بالمقارنة مع العديد من جيرانها، تعتبر كوت ديفوار غنية نسبيا. وسوف تحتاج البلدان الفقيرة إلى الدعم الخارجي لحشد مثل هذه المبادرات، بما في ذلك من المؤسسات المالية الدولية والحكومات الغربية.

قد يكون صناع القرار في العواصم الغربية، الذين يعانون بالفعل من تحديات محلية، مترددين في محاولة إقناع دافعي الضرائب بفكرة إرسال المزيد من الأموال إلى الخارج. ولكن مساعدة أفريقيا في موسم الصراع الذي تعيشه قد يكون أسهل في التأطير مما يتصوره العديد من زعماء الغرب. وبالنسبة للدول المتقدمة، يشكل الاستثمار في أفريقيا عملاً من أعمال المصلحة الذاتية المستنيرة.

إن العمل مع القادة الأفارقة لخلق فرص وفيرة للشباب لتحقيق النجاح والحصول على تعليم جيد سوف يحمل فوائد تتجاوز حدود أفريقيا. والحقيقة أنها مهمة ضرورية. وإذا استمرت الاتجاهات السكانية، بحلول سنة 2050، سيكون أربعة من كل عشرة أشخاص تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة في جميع أنحاء العالم من الأفارقة. وعندما تتطور شيخوخة السكان في بقية دول العالم، فإن الشباب الأفارقة سيشكلون جزءا متزايدا من القوى العاملة في المستقبل. وإذا كان للاقتصاد العالمي أن يظل ديناميكيا، فلابد أن يتمتع الأفارقة بالمهارات والموارد اللازمة لدفع هذه الديناميكية.

في اجتماع عُقد مؤخرا للاتحاد الأفريقي، طرح أحد مسؤوليه سؤالا استفزازيا على زملائه من الزعماء قائلا: كم عدد البلدان في القارة التي قد تشهد احتفالات شعبية إذا استيقظ مواطنوها على الإطاحة بحكوماتهم؟ قد لا يكون موسم الانقلابات في أفريقيا قد انتهى ولكن الحل على المدى الطويل لتخفيف حدة الصراع في القارة يكمن في القيام بالاستثمارات اللازمة لتحسين الحكم وبناء دول أقوى. ويعدّ هذا العمل شاقا ومُضنيا. وتشجيع الحكم الرشيد أكثر صعوبة بكثير من شن تدخلات عسكرية مبهرجة. ولكنه مع ذلك ضروري. وأولئك الذين يرغبون في تعزيز السلام والأمن في أفريقيا ليس لديهم خيار آخر سوى القيام بذلك.

المصدر: فورين أفيرز