تتراجع الثقة بمؤسسات الأمم المتحدة في ظل ضعف التزامها بالمبادئ الإنسانية التي تنادي بها، خاصة فيما يخصّ قضايا اللاجئين، إذ تحولت نشاطاتها وقرارتها إلى موقع شكّ مستمر، ليس فقط في غزة بل أينما تواجد اللاجئ العربي، وبعد فضيحة منظمة الصليب الأحمر التي امتنعت عن انتشال ضحايا القصف في غزة، وتواطؤ الأونروا مع “إسرائيل” في ملفات أخرى، تعود الأونروا في لبنان لإثارة مخاوف اللاجئين الفلسطينيين، بسبب عملية التحقق الرقمي المستجدة التي تطلبها من الفلسطيني.
ألزمت الأونروا اللاجئ الفلسطيني في لبنان وسوريا على إرفاق معلوماته الخاصة على تطبيق خاص بها في خطوة جديدة، تسمح بالتعرف إلى موقع اللاجئ أو المستفيد من خدمات الوكالة، وهذا التدقيق الجديد جعل الفلسطيني يسأل: هل الأونروا فعلًا تعمل لصالح الشعب الفلسطيني أم لمراقبته؟
إذ لاقى التحقق الرقمي اعتراضًا من جهات وقوى فلسطينية، ترى أن الوكالة تهدف إلى تقليص عدد المستفيدين من جهة، والتجسُّس لنقل معلومات عن الفلسطينيين وأنشطتهم من جهة أخرى.
ما التحقق الرقمي؟
بدأت الحكاية يوم 31 يوليو/ تموز 2023، حين أعلنت وكالة الأونروا في لبنان أنها ستبدأ بتنفيذ عملية التحقق الرقمي، حيث صرحت بأن الهدف هو تعزيز المساءلة في ما يتعلق بتقديم الخدمات وحسن استخدام الموارد، وأنشأت هذه الآلية، حسب ما تقول، حرصًا على إيصال الدعم لمن يستحقه من المقيمين في لبنان، والذين هم على قيد الحياة.
استحدثت الأونروا تطبيقًا ذكيًّا يتم تحميله على الهاتف، ويرتبط هذا التطبيق بتطبيق الأونروا الإلكتروني الذي أطلقته الوكالة في أول عام 2023، ويُطلب من كل فرد من مجتمع اللاجئين في لبنان من الذين تبلغ أعمارهم 16 عامًا وما فوق، إكمال عملية التحقق إذا كانوا يرغبون في أن يتم تضمينهم في برامج المساعدة النقدية الحالية والمستقبلية.
وتتم الخطوات على الشكل التالي، بعد التسجيل في تطبيق eUNRWA، يتم استخدام تطبيق التحقق الرقمي من الهوية، يتطلب التطبيق التقاط صورة شخصية ذاتية (سيلفي)، وإرفاق نسخة من بطاقة الهوية أو جواز السفر.
سيقوم برنامج الأونروا الإلكتروني بعد ذلك بمقارنة الصورة الشخصية ووثيقة الهوية بقاعدة بيانات الوكالة للتحقق من صحّتها، في حال عدم تمكُّن برنامج الذكاء الاصطناعي من تأكيد المطابقة، سيتم توجيه اللاجئين تلقائيًّا إلى مقابلة عبر الفيديو مع موظفي الأونروا للتحقق من هويتهم، من خلال محادثة قصيرة مع فريق من الموظفات، وتؤكد الأونروا أن هذه العملية ستعمل على تعزيز ثقة المانحين بأن المساعدة تصل بكفاءة إلى أولئك الذين يحتاجونها حقًّا.
يبدأ التحقق الرقمي بحسب الوكالة أولًا مع لاجئي فلسطين من سوريا الموجودين حاليًّا في لبنان، ثم تشمل هذه العملية جميع لاجئي فلسطين، بدءًا من الذين يتلقون مساعدات نقدية حاليًّا، ويمكن بعد ذلك توسيع نطاق عملية التحقق الرقمي لتشمل أقاليم أخرى من أقاليم عمليات الأونروا.
إذًا هو تحقق رقمي وضعَ اللاجئ أمام إرباك كبير وتخوفات من شطبه، أو حتى نقل وكشف تحركاته ومعلوماته الخاصة، فالكثير يطمح إلى السفر، والبعض ينتمي إلى تنظيمات فلسطينية، وآخرون لا يريدون أن تكشف حياتهم علنًا على تطبيق يرصد تحركاتهم ويراقبهم.
على مشارف مخيم عين الحلوة الكائن في مدينة صيدا، تسكن الحاجة فاطمة، وهي لاجئة فلسطينية سبعينية تستفيد من مساعدات الأونروا، تقول إن “العادة جرت بأن قسم الشؤون الاجتماعية للأونروا يأتي إلى بيتي لأخذ معلومات دقيقة”، فهي أرملة تعيش بمفردها بعد سفر بناتها، تقول إن في آخر مقابلة أصرّت الأونروا على معرفة أين سافر البنات وكيف سافرن، وتعترض قائلة: “ما شأنهم بهذه التفاصيل؟”.
لم تلتزم الحاجة بعملية التحقق الإلكتروني، وقالت إنها لم تحمّل التطبيق وليس عندها معلومات عن هذه العملية بحكم كبر سنّها، وتسأل: “لما هذا التحقق طالما كل الملفات موجودة عندهم منذ سنوات ويعرفون كل شاردة وواردة؟”، وتتساءل متخوفة ما إذا كانت ستفقد المساعدات إذا لم تلتزم بعملية التحقق.
اعتراض القوى الفلسطينية
لم يكن صدى عملية التحقق الرقمي إيجابيًّا بين مجتمعات اللاجئين، حيث لاقت العملية انتقادات واسعة، إما من ناشطين فلسطينيين وإما قوى فلسطينية، ووصفوها بأنها معقّدة، وطرحوا تساؤلات حول جدواها ومَن المستفيد منها.
كانت الأونروا قد بدأت عملية التحقق الرقمي للنازحين الفلسطينيين من سوريا، وقد لاقت اعتراضًا أيضًا، لكنهم أُجبروا على التسجيل تحت مغبّة حرمانهم من الحصول على المساعدات المالية الشهرية.
ويخشى اللاجئون الفلسطينيون من أن يكون هذا التحقق مدخلًا لتقليص أعداد المستفيدين، وبوابة للمسّ بمكانتهم القانونية، خاصة أن عملية التحقق فردية، في حين يشير آخرون إلى التوجه بعدم إفادة الزوج/ة غير الفلسطيني/ة من مساعدات الأونروا.
في المقابل، رفضت قوى سياسية وحزبية هذه العملية، واعتبرت أنها تكشف عن معلومات شخصية، وتنطوي على أخطار أمنية محتملة، ومخاوف من تسرب البيانات إلى جهات دولية معادية للقضية الفلسطينية.
وقال عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ومسؤول دائرة وكالة الغوث فيها، فتحي كليب، لـ”الجزيرة”: “منذ اليوم الأول لدعوة الأونروا للتفاعل مع مشروع التحقق الرقمي، عبّرنا عن تحفظاتنا في بيان رسمي، وخلال لقاء جمعنا مع مديرتها في لبنان دورثي كلاوس، نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي”.
وأضاف: “ما زلنا على موقفنا من حيث التخوف من إمكانية استخدام هذا المشروع ومعطياته لأغراض تمسّ بالحقوق الوطنية لشعبنا، واليوم نجدد دعوتنا لمسؤولي الأونروا إلى إزالة الهواجس والقلق الذي تعيشه فئات واسعة من اللاجئين الفلسطينيين”.
ودعا فتحي كليب الأونروا “إلى الوقوف على المخاوف التي طرحناها، وعدم الإصرار على إجراء العملية بهذا الشكل المتسرّع، خاصة أنه لم تثبت موافقة صريحة عليه من المرجعيات الفلسطينية المعنية”.
وفي تصريح آخر، يؤكد مسؤول ملف الأونروا في حركة الجهاد الإسلامي في لبنان، جهاد محمد، أن الأونروا منذ سنوات تحاول القيام بعدة إجراءات تهدف إلى إحصاء اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان، عبر استخدام عدة وسائل تكنولوجية.
وطالب الأونروا بإعادة النظر في قوانينها وخدماتها المقدمة، في ظل الظروف الاستثنائية التي يمرّ بها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، وشدد على ضرورة توسيع برنامج شبكة الأمان الاجتماعي، ليشمل جميع اللاجئين دون تفرقة أو تمييز، خاصة أن نسبة الفقر تجاوزت 90% وفق إحصاءاتها.
وتتخوف القوى الفلسطينية من أن يؤدي التحقق الرقمي إلى شطب آلاف المسجّلين في سجلّات الأونروا من الذين يقيمون خارج لبنان، سواء كانوا كلاجئين في دول الشتات، أو يعملون في الخليج العربي، أو يحملون جنسيات دول أخرى وبالتالي يتم حرمانهم من حقوقهم.
مماطلة الأونروا لفتح المدارس
تردّ الأونروا بدورها على جميع المعترضين بتصاريح متفرقة، مختصرة دورها بأنه يصبّ في صالح اللاجئ، وأنها تعمل لتسهيل وصول المساعدات المالية أو الطبية وجذب المانحين، لكن يسأل الفلسطيني أليس من الأجدر فتح اليوم المدارس في أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان؟ إنه مخيم عين الحلوة، فمنذ الاشتباكات الأخيرة والمدارس مغلقة، والعام الدراسي يكاد ينتصف مع وعود الأونروا المتكررة بفتحها، ويعاني الكثير من تلاميذ المخيم في هذا الصدد.
يسير أحمد، تلميذ الصف التاسع، مسافة تصل إلى نصف ساعة للالتحاق بمدرسته خارج مخيم عين الحلوة الذي يسكن فيه، لا يستطيع توفير مواصلات لارتفاع تكلفتها في ظل الأزمة، وانضمّ أحمد الى مدرسة خارج المخيم بعد تعذُّر فتح مدرسته التابعة للأونروا.
يقول إن رحلته اليومية شاقة جدًّا، يتخللها المرور بعدة حواجز بين الجيش اللبناني وقوى فلسطينية، ناهيك عن أيام المطر والعواصف التي يصل بها مبللًا، يتأخر في كثير من الأحيان بسبب الازدحام على مداخل المخيم، معاناة يتمنى أحمد أن تنتهي قريبًا، فالسنة الماضية كانت المدرسة تبعد دقائق من المشي عن منزله دون تكلفة مواصلات وازدحام.
يرى أهل مخيم عين الحلوة أن هناك مماطلة مقصودة من قبل الأونروا في إطالة أمد الأزمة، حيث يظهر كأنها لا ترغب في تحمل المسؤولية في المخيم.
ورغم بداية العام الدارسي الجديد، لم تتمكن وكالة الأونروا من فتح مدارسها الثمانية في مخيم عين الحلوة، والتي تضررت نتيجة اشتباكات مسلحة بين فصائل فلسطينية.
دفع هذا الحال الوكالة إلى نقل طلابها، وعددهم نحو 6 آلاف طالب، مؤقتًا إلى مدارسها المجاورة للمخيم وفي قلب مدينة صيدا، حيث يتلقون التعليم بنظام الفترتَين، ما أثار نوعًا من الاعتراض السياسي والشعبي بسبب مشقّة الانتقال والأعباء المالية.
في هذا السياق، قال رئيس دائرة التربية والتعليم بوكالة الأونروا في صيدا، محمود زيدان، إن الوكالة تلتزم ببروتوكول لا يمكن تجاوزه أو القفز فوقه، في الكشف الأمني على أي مركز أو مكتب أو مدرسة دخل إليها مسلحون، أي أن مسح أضرار المدرسة يمرّ بعدة مراحل ربما تطول كثيرًا أو تقصر.
في المقابل، يرى أهل مخيم عين الحلوة أن هناك مماطلة مقصودة من قبل الأونروا في إطالة أمد الأزمة، حيث يظهر كأنها لا ترغب في تحمل المسؤولية في المخيم، أو تنوي نقل مؤسساتها منه، وتعود الأونروا إلى الواجهة لتكون موضع شكّ في أعمالها التي يرى فيها اللاجئون أنها لم تعد تعمل لمصلحتهم.