لم تجد الديمقراطية في تاريخها كله رواجًا مثلما وجدت في عصرنا هذا، لقد كان معظم المفكرين الغربيين منذ عهد اليونان كثيري النقد لها، بل ورفضها، حتى إن أحد الفلاسفة البريطانيين المعاصرين يقول: “إذا حكمنا على الديمقراطية حكمًا ديمقراطيًا بعدد من معها وعدد من ضدها من المفكرين لكانت الخاسرة”.
لقد عرفت الديمقراطية ثلاث مراحل تاريخية: الديمقراطية اليونانية، ديمقراطية عصر الأنوار، الديمقراطية المعاصرة.
الديمقراطية اليونانية قامت على فكرة أن جميع أفراد الشعب يتخذون القرارات وذلك خلال الاجتماعات الشعبية ولذلك سميت بالمباشرة، وهذا ما يجد أساسه في عبارتي ديموس وكراتوس أي الحكم للشعب، ويعود هذا الشكل لكون أن الدول في هذه الفترة الزمنية كانت تمتاز بقلة عدد السكان.
لكن في الحقيقة كانت هذه الديمقراطية كذبًا ووهمًا، لأن حق الحكم لم يكن متاحًا لجميع أفراد الشعب، حيث لم يكن يحضر الاجتماعات سوى علية القوم، لأن القانون اليوناني كان يمنع على النساء والرقيق والعمال وعدد كبير من التجار من حق حضور الاجتماعات الشعبية، أي يمنع عليهم حقهم في المشاركة في قرارات الدولة.
لقد كان القانون الإغريقي يشترط في المشاركين أن يكونوا ذكورًا أحرارًا، ويجب أن يكونوا من ملاك العقارات، وأن يكونوا قد شاركوا في جميع الحملات العسكرية، فمثلاً في سكان أثينا 43 ألفًا لم يكن يشارك في اتخاذ القرارات سوى 3 آلاف فقط.
هكذا نجد أنه خلال العصر الإغريقي الذي يدعي فيه الغرب أنه مجد الديمقراطية كان الحكم في يد النبلاء، وهذا الواقع يتماشى مع أفكار الفلاسفة حيث إن سقراط مثلًا كان يرى أن السياسة فضيلة لا يمكن أن يشارك فيها البناؤون والإسكافيون والباعة المتجولزن، في حين أن أفلاطون اعتبر في كتابه “الجمهورية” أن المشاركة في اتخاذ القرارات يجب أن تنحصر في أهل المعرفة الذي هم بالنسبة إليه طبقة النبلاء، وحسب رأيه لا يمكن المساواة بين غير المتساويين.
أما ديمقراطية عصر الأنوار فكانت نتاج فكر مجموعة من الفلاسفة أمثال مونتسكيو وجون جاك روس، ولقد وجدت أفكارهم في الثورة الفرنسية مجالًا للتطبيق، لكن في حقيقة الأمر كان الوضع إبان الثورة الفرنسية أبعد ما يكون عن الديمقراطية.
الديمقراطية المتنورة لا تختلف كثيرًا عن مثيلتها اليونانية، فإن كان في عصر الإغريق الحكم بيد النبلاء، فإن الحكم في فرنسا عقب الثورة كان بيد البورجوازية، وكان القانون يشترط في الناخب أن يكون من المالكين وأن يكون له دخل معين
فكيف نستطيع أن نفسر الدور المهم الذي لعبته المقصلة التي فاق ضحاياها 10آلاف، هذا بالإضافة إلى ظهور أشكال جديدة من الديكتاتورية عقب عام 1789، الإمبراطور نابليون بونابرت وحكومة فبشي.
كما أننا نلاحظ أن هذه الديمقراطية المتنورة لا تختلف كثيرًا عن مثيلتها اليونانية، فإن كان في عصر الإغريق الحكم بيد النبلاء، فإن الحكم في فرنسا عقب الثورة كان بيد البورجوازية، وكان القانون يشترط في الناخب أن يكون من المالكين وأن يكون له دخل معين.
أما الديمقراطية المعاصرة فهي تتعارض مع أهم مبادئ الديمقراطية لأنها تعمل على الوصاية على الشعب، فالساسة ليس لهم ثقة بقدرة الشعب في حكم نفسه بنفسه، وهذا ما عبر عنه جيمس ميل بقوله: “يصعب تحميل هذه الطبقة من الجهلة عديمي المسؤولية والعاجزين عن تطوير أنفسهم فكريًا، مهمة الحكم المباشر”.
ولقد توهم منظرو الديمقراطية الأوروبية أنها تمنع استبداد الحكام؛ لأنها لا تسمح بالوصول إلى السلطة إلا من تشرب السلوك الديمقراطي، بينما يؤكد سالزبرجر على أن شارل ديجول كان يحكم بأسلوب أوتوقراطي إلا أنه مستبد عادل ولا يؤمن بالديمقراطية، ويرى أن نظام الحزبين على النمط البريطاني أو الأمريكي متعذر إقامته في فرنسا، وهو مقتنع بحاجة فرنسا إلى حكم قوي، لأن صغار الرجال في نظره لا يستطيعون معالجة عظائم الأحداث، ولذلك كان معجبًا بـستالين ويقول: “إنه كان عالمًا ضخمًا، قيصرًا حقيقيًّا، كان يسيطر على كل شيء بنفسه”.
هذا بالإضافة إلى أن الديمقراطية الغربية تحولت من حكم الأغلبية إلى استبداد الأغلبية، فرغم ادعاء الأنظمة الغربية عدم التمييز على أساس الجنس أو الدين وعدم الانتقاص من حقوق الأقليات، فإن الواقع مخالف لهذه الشعارات التي طالما بهرنا بها.
والأمثلة هنا متعددة، ففي إسبانيا مثلا يمنع الدستور غير الكاثوليك من الانتخاب، هذا بالإضافة إلى ما يعانيه سكان إقليم الباسك من تهميش حيث يحظر عليهم حق الاجتماع وحق تقرير المصير.
وفي بريطانيا ما زلت بعض الوظائف محصورة في أتباع الكنيسة الإنجليزية، من ذلك رئيس القضاة وعمداء الكليات، وفي النرويج يجب أن يكون الملك ونصف الوزراء من البروتستانت.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، التي تحاول أن تظهر في جلباب الدولة الطاهرة الراعية لحقوق الإنسان السياسية والاجتماعية، يمنع القانون تكوين أحزاب ذات مرجعية شيوعية، كما أن قضية التمييز العنصري ضد السود باتت من المعضلات التي تستعصي على الحل.
المفكر الألماني غيرد غيركن والمفكر ميشائيل كونيتسر: “سقط الجدار، ماتت الاشتراكية، واحتفلت ديمقراطيتنا بأكبر انتصاراتها، وانطلقت كالألعاب النارية خطب تمدح الديمقراطية الظافرة، ألعاب مبهرة تعمي عن الواقع، ذلك لأن ديمقراطيتنا نضب معينها، وأصبحت غير قادرة على حل مشاكل الحاضر المعقدة”
ويمكن القول إن الديمقراطية المعاصرة ديمقراطية لا أخلاقية، فباسمهما مات الملايين ودُمرت دول واُحتلت أخرى، فهل نسينا الصومال وفيتنام والشيشان والعراق؟ وهل عرف التاريخ الإنساني غير الديمقراطي مثل ما نعيشه اليوم باسم الحرية من تقاتل وتطاحن؟
يقول المفكر الألماني غيرد غيركن والمفكر ميشائيل كونيتسر: “سقط الجدار، ماتت الاشتراكية، واحتفلت ديمقراطيتنا بأكبر انتصاراتها، وانطلقت كالألعاب النارية خطب تمدح الديمقراطية الظافرة، ألعاب مبهرة تعمي عن الواقع، ذلك لأن ديمقراطيتنا نضب معينها، وأصبحت غير قادرة على حل مشاكل الحاضر المعقدة، فتقف أمام اضطرابات الحاضر والمستقبل مكتوفة اليدين، لقد انحطت إلى ديمقراطية ظاهرية، إلى ديمقراطية ممثلين ومتفرجين، إلى شبه ديمقراطية، هي طقس لم يعد يؤمن به أحد، فعدم الرضا وعدم الاهتمام بالديمقراطية والسياسة ينموان بوضوح، إن صيحة “لكننا نستطيع أن ننتخب” لم يعد لها اليوم أي صدى، وتصل هذه الظاهرة إلى حد القرف من الديمقراطية وأنظمتها النيابية”.
هذه هي الديمقراطية الغربية: نزوع لتطبيع الشذوذ الجنسي والدعارة والشكليات الزائفة، الديمقراطية الغربية أصبحت مفهومًا شكليًا يخفي وراءه ديكتاتورية الطبقة البورجوازية الرأسمالية، فأصحاب السلطة والقرار في هذه المجتمعات التي تسمي نفسها ديمقراطية هم فعليًا أصحاب المليارات والملايين وليس عامة الشعب ولا حتى الطبقة الوسطى.
ويقول الدكتور العلماني عبد الرزاق عيد وهو من المعجبين بالديمقراطية: “ظلت الديمقراطية حتى اليوم اليوتوبيا الأسطورة المستحيلة، أي أنها فكرة مستحيلة الإنجاز، فهي لا تكاد تقترب من شكل أرقى، إلا وتدب أسئلة الحرية الإنسانية ضاجة محتجة على عيوبها وما يعتريها من نواقص، إن القول ببلوغ الديمقراطية تمامها وكمالها في النموذج الليبرالي الغربي ونهاية التاريخ بهذا النموذج حسب فوكوياما، ليست إلا أطروحة ظفر مشبعة بدخان أيديولوجيا الحرب الباردة، وسرعان ما تبددت سحب الدخان الديمقراطية الليبرالية، لتحل محلها طائرات عاصفة الصحراء الأمريكية لحماية الشرعية والديمقراطية النفطية الخليجية، والقضاء على ممكنات خطر عربي يقلق أمن الترسانات النووية الإسرائيلية”.
ويقول نعوم تشومسكي المفكر الأمريكي اليهودي الشهير: “إن مثلًا من قبل الديمقراطية والسوق مثل جيدة طالما أن ميل الملعب يضمن فوز الناس الذين يجب أن يفوزوا، وأما إذا حاولت جموع الرعاع رفع رؤوسها فيجب أن يضربوا إلى أن يخضعوا بشكل أو بآخر”.
ويرى نعوم تشومسكي أن الديمقراطية الغربية هي ديمقراطية بالونية كاذبة، فلا أحد يعرف إلا ما يرغب الليبراليون الكبـار أن نعرفه، والسكان سيرضون بقرار قادتهم ذوي البصيرة، فنموذج الديمقراطية الذي يرتضيه الشعب يساوي باختصار نموذج السيطرة الشمولية.
يقول الليبرالي باسكال سالان: “علينا أن نتخلص من الحكم المسبق السائد الذي أصبح معتادًا والذي يقول إن المعيار الوحيد الذي يمكن من تقييم مستوى تدبير مجتمع من المجتمعات أو تنظيم من التنظيمات هو الديمقراطية”
ويقول الأستاذ السرداب: “والديمقراطية الأُمية كما يسميها عالم الاجتماع أولريش بيكر هي التي تسببت في اندلاع حربين عالميتين وغرق الأرض بالربا وتجار البشر الجدد ولم تعد حقوق الإنسان تحظى باحترام، وقانون الإرهاب في الغرب، والحد من نزوح المهاجرين، ورفض الأجانب، كلها قرارات ديمقراطية سليمة، والحزب النازي وصل إلى الحكم بطريقة ديمقراطية، وكل قرارات الإبادة التي قام بها الحزب تمت بطريقة ديمقراطية عقلانية رشيدة”.
كما يقول الليبرالي باسكال سالان: “علينا أن نتخلص من الحكم المسبق السائد الذي أصبح معتادًا والذي يقول إن المعيار الوحيد الذي يمكن من تقييم مستوى تدبير مجتمع من المجتمعات أو تنظيم من التنظيمات هو الديمقراطية”.
ويقول فوكايوما في كتابه “نهاية التاريخ” عن المستوى الاقتصادي للدولة: “فالدكتاتورية تحقق نتائج أفضل من الديمقراطية بكثير على المستوى الاقتصادي، وشواهد التاريخ توضح ذلك جليًا، كألمانيا في عهد الأباطرة واليابان في عهد أسرة الميجي وإسبانيا وتايوان في فترة الحكم الأوتوقراطي، وحكومة رئيس الوزراء مهاتير محمد في ماليزيا هي حكومة ديكتاتورية بمعايير الغرب، وقبضت على السلطة قرابة عشرين عامًا وأخضعت وسائل الإعلام لرقابة صارمة، ومع ذلك مهاتير محمد أيقونة المعجزة الماليزية، وانتقل بماليزيا من دولة زراعية نامية إلي دولة لا يختلف دخل العامل السنوي فيها عن الدخل السنوي للعامل الأمريكي”.
ومن الغريب أنه ورغم فشل النموذج الديمقراطي الغربي فإنه يسعى إلى تعميمه إما بالقوة وإما بالتنظير، فها هو فرنسيس فوكوياما الذي يقر بنهاية التاريخ يرى في النظام الليبرالي الغربي – وخاصة الأمريكي – الشكل الأخير لتطور المجتمع، ويدعو بقية مجتمعات العالم إلى اللحاق بقافلة التاريخ من خلال اعتماد النظام الليبرالي في الاقتصاد واعتناق الديمقراطية الغربية كمذهب!