دخل الفلسطينيون مع الكيان المحتل منذ احتلال أراضيهم عام 1948 عشرات السجالات، وخاضا معًا مئات المعارك السياسية من أجل إقرار حلّ لهذا الصراع الأطول في الآونة الأخيرة، في ظل مراوغة وتسويف وخداعات مستمرة من دولة الاحتلال التي تحظى بغطاء دعم دولي، حال بين الفلسطينيين وحقوقهم التاريخية المشروعة.
وبعد ماراثون طويل من الانتهاكات العسكرية التي تخللتها بعض المعارك السياسية غير المحايدة، في ظل فقدان المجتمع الدولي أبجديات النزاهة، وخنوع الموقف العربي الإسلامي الرسمي، تراجعت المطالب الفلسطينية من التمسُّك بخيار الدولة الواحدة على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلى فكرة حل الدولتَين وتقسيم البلاد إلى دولة فلسطينية وأخرى إسرائيلية.
ومع كل حرب تنشب في الداخل الفلسطيني، يخرج ملف الدولتَين من أدراج التجميد ليوضع مجددًا على طاولة النقاش، بصفته الخيار الأكثر دعمًا من المجتمع الدولي، والأقرب إلى تنفيذه لوضع حدّ نهائي لهذا الصراع، وما إن تنتهي الحرب حتى يعود الملف برمّته إلى أدراجه مرة أخرى.
وعامًا تلو الآخر تبدلت الأدوار، وتغيرت الأماكن، حيث قبل الفلسطينيون بهذا الحل بعد رفضه سابقًا، في مقابل اعتراض إسرائيلي على فكرة إنشاء دولة فلسطينية من الأساس، مقارنة بالقبول به بداية الأمر، ليتحول هذا الخيار إلى أداة لتصفية القضية الفلسطينية وليس حلها كما يتوقع البعض.
ويمكن الوقوف على ذلك عبر إطلالة سريعة على أبرز محطات تلك المسألة وصولًا إلى ما باتت عليه الآن، والتحديات والعقبات التي تجعل من تنفيذها أمرًا غاية في الصعوبة، إن لم يكن ضربًا من المحال.
لجنة بيل.. أول طرح لفكرة التقسيم
خلال الانتداب البريطاني لفلسطين (1920-1948)، بدأ التاج الملكي في لندن بتبنّي سياسة تهجير اليهود إلى الأراضي الفلسطينية بشكل كبير، حينها شنّ عرب فلسطين ثورة عارمة لتحرير أرضهم من الاستعمار الإنجليزي، والضغط لأجل وقف تلك الموجات المهاجرة المحمية من الجيش البريطاني وقواته المتمركزة في الأرض العربية.
وأمام العنف المتصاعد في الأراضي الفلسطينية، دُشّنت لجنة ملكية رفيعة عُرفت باسم لجنة بيل (Peel Commission)، نسبة إلى رئيسها إيرل بيل، وزير الدولة البريطاني لشؤون الهند سابقًا، وعضو المجلس الخاص للمملكة المتحدة، وذلك عام 1937، كان هدفها تقديم المقترحات الخاصة لإنهاء تلك المواجهات بين الفلسطينيين واليهود القادمين من كل بقاع العالم استجابة لدعوات لندن.
واقترحت اللجنة على الأطراف الثلاثة، الفلسطينيين واليهود والإدارة البريطانية، حزمة من المقترحات لإنهاء هذا الخلاف، كان على رأسها تقسيم الدولة الفلسطينية بين العرب واليهود، وهو المقترح الذي رفضه الجانب الفلسطيني بشكل كبير، لتفشل اللجنة في أولى مهامها.
لم يستسلم البريطانيون لهذا الفشل، وفي العام التالي مباشرة، 1938، تم تشكيل لجنة أخرى تحمل اسم “وودهيد”، على أمل إقناع الأطراف الثلاثة بقبول فكرة التقسيم، لكنها كما سبقتها واجهت انتقادات ورفضًا كبيرًا من الفلسطينيين الذي تمسّكوا بكامل تراب بلادهم، وأنه لا مكان فيها لليهود.
قرار 181.. دولة واحدة و3 أقسام
في 29 يناير/ كانون الثاني 1947، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، وذلك بعد انقضاء فترة الانتداب البريطاني لفلسطين، قرارها 181 المعروف باسم “قرار التقسيم”، وهو أول قرار صادر عن الأمم المتحدة بشأن تقسيم الأراضي الفلسطينية.
القرار قسم فلسطين إلى 3 أقسام، الأول تابع لدولة فلسطين العربية التي تمتدّ على مساحة 11 ألف كيلومتر، ويشكّل نسبة 42.3% من إجمالي الأراضي الفلسطينية، ويضمّ مدن عكا والضفة الغربية، والجليل الغربي، ورفح وأجزاء من صحراء النقب على طول الشريط الحدودي مع مصر.
القسم الثاني دولة يهودية لـ”إسرائيل” على مساحة 15 ألف كيلومتر، ويشكّل نسبة 57.7% من إجمالي الأراضي الفلسطينية، ويضم تل أبيب وحيفا، وبحيرة طبرية وإصبع الجليل، ثم منطقة أم الرشراش (إيلات حاليًّا) في الجنوب بصحراء النقب.
القسم الثالث هو المناطق المقدسة وتشمل مدينة القدس الشريف ومدينة حيفا (جنوب القدس) وجميع الأراضي الفلسطينية المجاورة لها، حيث أُقرّ القرار بوضعها تحت الوصاية الدولية، وقد صوّت على هذا القرار 33 دولة بالموافقة فيما رفضته 13 دولة أخرى، كما امتنعت 10 دول عن التصويت.
قرار 242.. الغموض كلمة السر
بعد الهجوم الإسرائيلي على الأراضي العربية في يونيو/ حزيران 1967، واحتلال عدد من المناطق العربية في الداخل الفلسطيني وسيناء والجولان، أصدر مجلس الأمن الدولي في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه قرارًا حمل رقم 242، يقضي بانسحاب قوات الاحتلال من المناطق التي احتلتها.
واشترط المندوب البريطاني لدى مجلس الأمن، اللورد كارادون، وهو الذي قدم القرار للمجلس، أن يكون التصويت عليه بالكلية، إما بالموافقة عليه كاملًا وإما رفضه بشكل كامل، دون مناقشة التفاصيل، وهو الأمر الذي أحدث ارتباكًا وغموضًا في تفسير الكثير من بنوده، لا سيما الفقرة الأولى منه المتعلقة بانسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
الفقرة تضمّنت الكثير من الغموض في تفسير النصوص، خاصة ما يتعلق بمفهوم الانسحاب من الأراضي المحتلة، وهل هي التي احتلتها “إسرائيل” بعد 1967 أم قبلها، وهو ما أحدث ارتباكًا لدى الدول الأعضاء في المجلس، بخلاف تبايُن ترجمة الفقرة بين اللغات المختلفة، حيث جاءت في الإنجليزية بمعنى وفي وغيرها من اللغات الأخرى كالفرنسية والبريطانية والروسية بمعنى آخر.
وتشير بعض الروايات إلى أن المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي هو صاحب أول اقتراح لتقسيم الأراضي الفلسطينية بين فلسطين و”إسرائيل” بالمعنى التقليدي، وذلك عام 1967، وهو المقترح الذي قوبل بترحيب نسبي داخل أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
القرار قوبل بترحيب إسرائيلي، إذ يتضمن أول اعتراف رسمي بوجود “دولة إسرائيل” فوق التراب الفلسطيني، كذلك رحّبت به حركة فتح التي اعتبرته انتصارًا سياسيًّا لها، كونه يتضمن الانسحاب من الأراضي التي احتلتها “إسرائيل” عام 1967، لكنه قوبل بالرفض من بعض الفصائل الفلسطينية الأخرى التي تطالب بدولة فوق كامل التراب الفلسطيني.
اتفاقية أوسلو وقيام الدولتَين
انتهجت تل أبيب سياسة التسويف في تطبيق قرار 242، لتدخل حركة فتح والكيان المحتل في سجالات جديدة من المفاوضات استمرت لسنوات، أسفرت في النهاية عن توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 في العاصمة الأمريكية واشنطن، بين منظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا عنها ياسر عرفات، ووزير الخارجية الإسرائيلية شمعون بيريز.
ناقشت الاتفاقية ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي للدولة الفلسطينية، وقيامها بشكل رسمي إلى جانب دولة الاحتلال بعد 6 سنوات، أي بغضون عام 1999، غير أن التلكُّؤ الإسرائيلي والخداع الذي تنتهجه تل أبيب حالا دون تنفيذ ذلك، لتبقى الأمور على ما هي عليه.
وفي عام 2002 تأسّست ما سُمّيت بـ”اللجنة الرباعية”، استجابة لمقترح رئيس الوزراء الإسباني السابق خوسيه ماريا، والمكوّنة من أمريكا والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة، والتي هدفت إلى تدشين خارطة طريق جديدة لإعلان دولة فلسطينية مستقلة بحلول عام 2005، وتجميد المخططات الاستيطانية في الأراضي المحتلة، نظير وقف الانتفاضة وإنهاء العمليات المسلحة التي تستهدف الإسرائيليين.
ورغم التنازلات التي قدمها الجانب الفلسطيني بشأن قبول هذا المقترح، وتخلي فصائل المقاومة وعلى رأسها حماس -تحت الضغوط الإقليمية التي مورست عليها- عن موقفها الرافض مسبقًا، والإعلان في عام 2017 عن إمكانية قبول الدولتَين، إلا أن ذلك لم يلقَ أي قبول لدى الجانب الآخر.
ومنذ ذلك الوقت ولا يزال الكيان المحتل يسوّف ويتهرّب من تنفيذ تعهُّداته بتطبيق القرارات الأممية بشأن حل الدولتَين، وفي المقابل وسّع من رقعة توسُّعاته الاستيطانية لتشمل العشرات من المناطق الفلسطينية التي يفترض أنها تابعة للدولة الفلسطينية وفق تلك القرارات، ما يدعو إلى التساؤل حول مستقبل هذا الحل، وهل بالفعل يمكن التعامل معه كخيار سلام لإعلان الدولة الفلسطينية أم مخطط خبيث لوأد القضية وتصفيتها بالجملة؟
مخطط لتصفية القضية لا حلّها
في عام 2002 تبنّت الجامعة العربية مقترح حل الدولتَين مجددًا، استجابة لمبادرة العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز آل السعود في القمة العربية التي عُقدت في العام نفسه، والتي طالبت بانسحاب “إسرائيل” الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967، وإعلان دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة تكون عاصمتها القدس الشرقية، مقابل انتهاء النزاع العربي الإسرائيلي والدخول في اتفاقية سلام شاملة.
الأمر تكرر مع كل قمة عربية تم عقدها لاحقًا، وصولًا إلى القمة العربية الإسلامية التي عُقدت في الرياض في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، حيث جدد البيان الختامي لها على ضرورة إنهاء الاحتلال وحل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتَين، مشددًا على حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والعيش في دولته المستقلة ذات السيادة على خطوط الرابع من يونيو/ حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشريف.
ولاقت تلك البيانات ترحيبًا تقليديًّا من الأمريكيين وغيرهم من قادة العالم، الذين يطالبون منذ عشرات السنين بفكرة حل الدولتَين كخيار وحيد لنزع التوتر في الشرق الأوسط، لكن في المقابل تتشبّث دولة الاحتلال بموقفها الرافض لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، والأمر ازداد حدّة في خطاب الرفض في ظل سيطرة اليمين المتطرف على السلطة في تل أبيب.
عمليًّا من الصعب تنفيذ هذا المقترح في الوقت الراهن، في ظل مئات المستوطنات التي بناها الاحتلال في الضفة وغزة وغيرها، والخطط الخمسية والعشرية لمزيد من التوسعات التي من الصعب إزالتها وإخراج المستوطنين منها، هذا بخلاف الرفض المشدد من قبل المقاومة لمقترح دولة منزوعة السلاح الذي عرضه بعض القادة العرب، من باب طمأنة تل أبيب بشأن مستقبل الدولة الفلسطينية، ما يجعل من تطبيق هذا الحل مسألة خيالية وغير قابلة للترجمة الفعلية على أرض الواقع.
في ضوء ما سبق، يتّضح أن خيار حل الدولتَين تحول مع مرور الوقت من مقترح لإنهاء الصراع وبناء دولة فلسطينية ولو حتى منزوعة السيادة والسلاح والقيادة منقوصة التراب، إلى مسكّن تستخدمه دولة الاحتلال وأعوانها لتخدير الفلسطينيين والداعمين لهم، وأداة طويلة الأمد لتصفية القضية الفلسطينية ببطء.