منذ خرج رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد على التونسيين مساء الـ24 من شهر مايو الماضي، أمام بهو قصر حكومته بالقصبة بتصريح مقتضب أشاد به غالبية المواطنين حينها، قال فيه: “أنا ككل التونسيين في الحرب على الفساد، ولا خيار لي إما الدولة وتونس أو الفساد، وأنا اخترت تونس“، والشعب ينتظر الفعل الذي يأتي بعد الكلام.
تصريح قال البعض إنه إيذانًا بحرب طويلة الأمد تستهدف رؤوس الفساد مهما علا شأنها وأذنابهم أيضًا، حتى يتم تطهير البلاد من درنهم ورجس فسادهم، حملة تطال كل من أذنب في حق تونس وساهم في وصولها إلى ما هي عليه الآن من وهن وتعب، إلا أن السؤال الذي يكمن هنا كيف لحكومة فاسدة – والتوصيف لحلفائها قبل معارضيها – أن تحارب الفساد بأعضاء فاسدين ومتناحرين؟
حملة لم تتجاوز بعض الإيقافات اليتيمة في صفوف رجال أعمال ومهربين
لوهلة ظن أغلب التونسيين أن هذا التصريح إعلان حرب ينتصر فيها الشاهد لتونس على الفساد والفاسدين، حرب لا تراجع فيها حتى التطهير الكامل وإن كان على مراحل، فالمهم حضرت العزيمة والإرادة وما عليه إلا التطبيق وسيجد الجميع إلى صفه، هكذا قال التونسيون، فخرج بعضهم إلى الشارع في بادرة حسن نية للتعبير عن دعمهم له، فقد عرف من أين يغازلهم.
وجّهت للمتهمين تهم تتعلق بالفساد وأخرى تتعلق بالمساس بأمن الدولة الداخلي.
لكن بعد أكثر من شهر بقيت حصيلة هذه الحرب، إن كان لنا أن نطلق عليها هذه الصفة في بلد ملفات الفساد تعرض فيه علنًا في الشوارع، ضعيفة جًدا لم تتجاوز بعض الإيقافات اليتيمة في صفوف رجال أعمال ومهربين صعد نجمهم مؤخرًا، أفرج عن بعضهم وبقي البعض الآخر الذين لم يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة تحت الإقامة الجبرية أو في السجن، بتهم تتعلق بالفساد وأخرى تتعلق بالمساس بأمن الدولة الداخلي.
كلام بلا أفعال
هناك في الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط غير بعيد عن تونس، في بلدان ما فتئ الشاهد وحاشيته يسارعون الخطى إليها للتعلم منها أصول الحكم الرشيد والديمقراطية، حسب قولهم طبعًا، يستقيل الرئيس والبرلماني ويُقال الوزير والمستشار أول ما تطاله تهم تتعلق بشبهات فساد وإن كانت ضعيفة، يستقيل ويقال حتى يترك القضاء يعمل ويقول كلمته الفصل.
تلاحق المستشار السابق لوزير البيئة العديد من القضايا التي لم يبتّ القضاء فيها بعد
هذا هناك أما هنا فالعكس، هنا نسمع كلامًا ولا نرى فعلًا، نسمع تنظيرًا ولا نشاهد تطبيقًا، هنا تفتح النيابة العمومية تحقيقًا ضد وزير في الحكومة الحالية عن حزب “آفاق تونس” وأحد المستشارين السابقين على خلفية اتهامات وجهتها نائبة في البرلمان للوزير، ومفادها أنه عين مستشارًا خاصًا له، تحوم حوله شبهة فساد وصدر ضده حكم قضائي، بواسطة عقد ممارسة نشاط خاص مقابل أجر سنوي يقدر بـ40 ألف دينار (17 ألف دولار) بما يخالف القانون.
وينص الفصل 96 من المجلة الجزائية التونسية على معاقبة كل موظف عمومي بالسجن لمدة 3 سنوات وغرامة قدرها 3 آلاف دينار، يعمد وهو في حالة المباشرة أو عدم المباشرة أو الإلحاق إلى المساهمة بنفسه أو بواسطة عمل أو برأس مال في سير منشأة خاصة خاضعة بحكم مهامه لرقابته أو كان مكلفًا بإبرام العقود معها أو كان عنصرًا فاعلًا في إبرام تلك العقود.
وزير البيئة رياض المؤخر الذي تطاله شبهات الفساد
وتلاحق المستشار السابق لوزير البيئة العديد من القضايا التي لم يبتّ القضاء فيها بعد، حيث لا تزال التحقيقات جارية بخصوص 7 قضايا، تنحدر كلها في الفترة من 1994 إلى 2005 عندما كان مديرًا بالوكالة الوطنية للتصرف في النفايات، قبل أن يصبح مديرًا عامًا لهذه الوكالة في العام 2005، كما تتعلق بالوزير نفسه شبهات فساد أخرى، كل هذا ولم يستقل ولم يُقال، بل واصل شطحاته، و”الشاهد ما شفش حاجة” كأن الأمر لا يعنيه وكأن التحقيق لم يطل أحد وزرائه وكأن التهم الموجهة إلى الوزير لا تتعلق بشبهات فساد.
الملفات حاضرة والتتبع أيضا لكن…
نفس الأمر تعلق بوزير آخر، حيث وجه حزب آفاق تونس تهمًا بالفساد للوزير مهدي بن غربية، حيث نُشرت وثائق تتعلق بفساد في صفقات شركة الطيران المدني التونسية لصالح مصطفى بن غربية والد الوزير مهدي بن غربية سنة 2003، وانتهت وفق التقرير المنشور في وسائل إعلام محلية إلى أن والد بن غربية، الحاصل على صفة مدير بشركة الطيران، عمل على نقل عملائها والمتعاونين معها لشركة طيران خاصة أسسها سنة 1997 ويديرها ابنه الوزير الحالي.
تساءل إبراهيم في تصريح إذاعي “كيف لرئيس حكومة أن يقوم بحرب ضد الفساد وله وزير من هذا النوع”
وكان قياديون في حزب آفاق تونس المشارك في الحكم قد اتهموا ابن غربية بالفساد، وأكدوا وجود قضايا في المحاكم بهذا الشأن، ودعا في هذا الشأن رئيس الحزب ياسين إبراهيم رئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى محاسبة المتورطين حوله وتنظيف بيته الداخلي في إطار الحملة التي يقودها لمحاربة رموز الفساد في البلاد، مشيرًا إلى أن الشركة التي يمتلكها مهدي بن غربية الوزير المكلف بالعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني، قامت بالاحتيال على شركة الخطوط التونسية، وهناك قضية منشورة لدى القضاء عن هذا الأمر إضافة إلى قضايا أخرى تعلقت به.
وتساءل إبراهيم في تصريح إذاعي “كيف لرئيس حكومة أن يقوم بحرب ضد الفساد وله وزير من هذا النوع (..)، مهدي بن غربية فضيحة في الحكومة ولو كنت رئيس حكومة لعزلته من أول يوم اطلعت فيه على ملفه لأن بقاءه في الحكومة ضرب لمصداقية جهاز الدولة”، ومع ذلك “الشاهد ما شفش حاجة” و”لا سمع حاجة”، فعيناه مغلقتان أمام هذه الملفات بعد أن كتب أمامهم “غير موجود” “غير معني”، وأذناه موصدتان أمام كل ما يقال عن هذه الملفات، فحكومته ضعيفة ولا داع، وفق تفكيره طبعًا، إلى فتح أبواب جديدة هي في غنى عنها، ولو كان التونسيون في أشد الحاجة إلى رؤيتها تُفتح.
يُتهم الوزير ابن غربية بالاحتيال على شركة الخطوط التونسية
هذان الوزيران لم يكونا الاستثناء فغيرهم كثير في الحكومة والدوائر المقربة لها، وما الفضيحة التي طالت وزيرة الشباب والرياضة مجدولين الشارني حين نظمت وزارتها دورة ، قالت إنها عالمية، في رياضة الملاكمة ليُكتشف بعدها أنها بطولة وهمية، جمعت ملاكمان واحد من تونس وآخر من روسيا يحتلان أسفل ترتيب قائمة الملاكمين، ولا يلتفت إليها أحد، وأسندت مهمة تنظيمها إلى منظمة عرف عنها احتيالها في هذا المجال وإسنادها ألقاب رياضية بمقابل.
الشاهد رأس الحربة
شبهات الفساد لم تكن حكرًا على وزراء الشاهد فقط، بل تعلقت به أيضًا، فالكل يتذكر الجدل الذي رافق تعيين هذا الموظف السابق في السفارة الأمريكية بتونس على رأس الحكومة التونسية قبل سنة من الآن، حيث نشرت تقارير إعلامية وثائق تتحدث عن تلقي الشاهد للتعليمات الأمريكية سابقًا لإقناع السلطات في تونس بالمضي قدمًا في تبني وتسويق واستخدام التكنولوجيا الحيوية في الزراعة في تونس.
هنا لقائل أن يقول كيف لرجل تحوم حوله تهم الفساد هذه أن يقود حربًا جدية على الفساد تمس وزرائه ومستشارين وأتباعه أيضًا، فمن دونهم لا وزن له، رجل أدار ظهره لتونسيين خرجوا ذات يوم مساندين له حاملين صوره؟