ترجمة وتحرير نون بوست
يفكر الرئيس رجب طيب أردوغان في “التركة” التي سيخلفها بعد رحيله، فهو يرغب في البقاء في السلطة، ولكن ليس بالضرورة طمعا في السلطة في حد ذاتها.
عادة ما يضطر السياسيون، خاصة أولئك الذين يحملون إيديولوجيا، إلى مواجهة سؤال مفاده “ماذا بعد؟” وفي ظل تحقيق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لانتصار بفارق ضئيل في استفتاء شهر نيسان/أبريل، الذي ضمن له صلاحيات جديدة وواسعة، فإنه بإمكانه الآن السيطرة على الحياة السياسية في البلاد إلى سنة 2029. وفي الواقع، سيكون أمامه أكثر من عقد من الزمن لتغيير تركيا، وتغيير معنى أن تكون إنسانا في هذه الدولة.
خلال العقد الأول من حكمه، الذي بدأ خلال سنة 2002، نجح حزب العدالة والتنمية الذي له جذور إسلامية في تصدر المشهد بفضل النمو الاقتصادي السريع، ونجح في تقديم إصلاحات ليبرالية، وتحييد الجيش الذي لطالما أجهض الديمقراطية التركية عبر سلسلة من الانقلابات على مدى ستة عقود. ولكن لسائل أن يسأل: هل يكون هذا فقط هو كل ما كان حزب العدالة والتنمية وزعيمه أردوغان يأمل في تحقيقه؟
أردوغان يرى نفسه إنسانا مصيره الزوال، وفي نفس الوقت مؤسسا للجمهورية التركية الثانية، وهو طموح يحتاج للمزيد من الوقت لتحقيقه.
بشكل ما، يمكن القول إن حزب العدالة والتنمية بات ضحية لنجاحه، إذ كان بإمكانه توسيع مجال الحريات والديمقراطيات ومواصلة دعم الاقتصاد. ولكن ربما يكون أردوغان الذي رأى في نفسه شخصية تاريخية، قد رغب في أن يذكره التاريخ ليس فقط لأنه طور تركيا، بل أيضا لأنه غيّرها. بالإضافة إلى ذلك، قد لا تكون أحيانا صفات الكفاءة وحسن التصرف كافية، حيث أن رؤية أردوغان لم يكن فيها مجال لظهور قيادات أخرى، وهو ما يعدّ حقيقة توضحت مرة أخرى خلال صراع النفوذ الذي انتهى بانسحاب رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو، بعد أن كان لوقت طويل قياديا بارزا للعدالة والتنمية ومهندسا للسياسة الخارجية للحزب.
ويطرح أسلوب أردوغان المتصلب في مواجهة خصومه في الداخل والخارج عديد الأسئلة المحيرة، وهي أسئلة صعبة حول دور الرجال العظماء في عالم السياسة. إلى أي مدى يمكن أن يصل تأثير رجل واحد على أمة بأكملها تتميز بتاريخها الثري وعاداتها العريقة ومؤسساتها القوية؟ لطالما امتنع علماء السياسة عن منح أهمية كبيرة للأفراد، بما أن هذا سيعقد البحث المنطقي عن الأسباب والنتائج، والقدرة على استخلاص الدروس من الأحداث. وبعبارة أبسط، من الصعب جدا تحديد دور نموذجي للأفراد في الحياة السياسية.
خلال مقال مهم نشر خلال سنة 2001، بعنوان إعادة رجل الدولة إلى المشهد، دافع زملائي دان بايمان وكين بولاك عن فكرة “إنقاذ الرجال والنساء كأفراد من التجاهل الذي فرضه عليهم علماء السياسة”. ويتمثل التحدي في تحديد الأوضاع التي يكون فيها الأفراد أكثر أهمية من غيرهم. ويحدث هذا السياق عندما تكون المؤسسات ضعيفة وغير قادرة على إدارة الأمور. وبالطبع يعتبر تعطش القادة للسلطة وإصرارهم على تجاهل وتحدي وأحيانا تفكيك هذه المؤسساتـ أحد أسباب ضعف المؤسسات. في هذه الحالة، من المرجح أن يكتسب القادة الطموحون الكثير من النفوذ.
وفي هذا السياق، كتب كل من بايمان وبولاك أن “زعيما يتميز بكاريزما استثنائية يستطيع التغلب على المؤسسات حتى لو كانت قوية”. وهذا بالضبط ما كان أردوغان قادرا على فعله في معركته مع الدولة العميقة التي كانت سابقا مهيمنة على تركيا، كمؤسسة تتحرك في الظل وتمتلك شبكات قوية خاصة في العسكر والقضاء والمخابرات.
في الحقيقة، تمكن الرئيس التركي بشكل واضح من تحقيق عديد النجاحات، التي بات يُضرب بها المثل خلال سنة 2015. وأصبح أردوغان بشكل متزايد يقدم نفسه كرجل دولة يضاهي مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة، الذي أنهى الخلافة العثمانية خلال سنة 1924. وفي آذار/مارس 2014، نشر أردوغان مقطع فيديو يقول فيه أنه بصدد قيادة تركيا في حرب الاستقلال الثانية، بعد وقت قصير من إصدار حزبه لبيان صحفي وصفه فيه بأنه “باني تركيا”.
لم يكن أردوغان مهتما بمراجعة القواعد الأساسية للدولة الحديثة، ولماذا قد يفعل ذلك؟ إذ أن نموذج الدولة المركزية القوية هي كل ما عرفه في حياته، حيث لطالما كان واحدا من الطبقة المتضررة من هذا النظام
خلال الكتابة حول النموذج التركي في كتابي الأخير “الاستثناء الإسلامي”، كنت مهتما بسؤالين: أولا، إلى أي مدى وصل تأثير أردوغان كفرد؟ وفي علاقة بذلك، إلى أي مدى كان أردوغان مدفوعا بالأفكار الدينية؟ تصعب الإجابة عن هذه التساؤلات، كما يقول الرئيس السابق عبد الله غول، الذي يعد أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية، إذ أنه لا أحد كان مثيرا للجدال والاستقطاب مثل أردوغان.
ولطالما اعتبر الكثيرون غول كأكبر منافس لأردوغان. ولكن ماذا لو كان غول، أستاذ الاقتصاد المعروف بهدوء طبعه، قد أصبح زعيما لحزب العدالة والتنمية؟ لقد قال لي أحد مستشاريه السابقين أن “غول يكره الخطاب الشعبوي، كما أنه شخص براغماتي. وهو من النوع الذي ينظر إلى بعض المسائل ويقول من المستحيل أن أقوم أنا بهذا الفعل، فلماذا أقدم على المخاطرة؟ وهو يريد من الناس أن يصبحوا أكثر تدينا، ولذلك فهو يخشى من أن الخطاب المثير للجدل قد يضر بهذه القضية”.
وفي نفس الوقت، وعلى الرغم من أن غول كان شخصا براغماتيا جدا، إلا أنه أيقن في النهاية أن التفكير المحافظ الديني والاجتماعي هو طريقة جيدة لكسب دعم القواعد في بلد تدور فيه القضايا الرئيسية حول الهوية، الإيديولوجيا والدين.في الأثناء، ربما كان بإمكان غول إيجاد طريقة أفضل للتعامل مع هذه المسائل، فهو كان يعتقد أنه لن يكون ناجحا في هذا الأسلوب.
تماما كما كان الخطاب المحافظ والديني يؤتي ثماره في الانتخابات، فإنه كان يعدّ أيضا منطقيا على المستوى الشخصي. ليس لدي شك في أن أردوغان يعتقد بكل قوة أن الأتراك عليهم أن يصبحوا أكثر تدينا. وقد أشار مستشار سابق في حزب العدالة والتنمية إلى أن وفاة والدة أردوغان في تشرين الأول/أكتوبر سنة 2011 كان لحظة مصيرية حيث كان أردوغان مثل الطفل الصغير عندما يكون معها، وقد قال هو بنفسه: “بعد أن توفيت أمي بدأت أفكر أكثر في الموت”.
والمعنى هنا يتجلى في أن أي زعيم إسلامي سيبدأ بالتفكير في الوقوف بين يدي الله في يوم القيامة، والله هنالك سيسأله عن كيفية ممارسته لسلطاته. كما يفترض أيضا أي زعيم إسلامي أن الله لن يسأله فقط عن الأتراك بل عن الأمة ككل، أي المسلمين حول العالم بشكل عام. وفي هذا السياق، جاء في حديث عن النبي محمد: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”. والمعنى هو أن الإمام أو زعيم الناس هو الراعي وسيسأل في يوم القيامة عن كيفية تعامله معهم. وإذا كان أردوغان راعيا، فإن الأتراك هم الرعية، ومؤسسات الدولة هي وسائل الراعي.
وقد أظهر أردوغان اهتماما كبيرا باستعمال قوة الدولة لتوعية الناس عوضا عن فرض التدين عليهم، بمعنى أنه لم يقم بفرض التعاليم الإسلامية بشكل مباشر كما يظن البعض، بل اعتمد طريقة ناعمة لنشر التدين. فعوضا عن منع الكحول، وهو أمر لم يكن ممكنا في تركيا، قام حزب العدالة والتنمية برفع الضرائب على المشروبات الكحولية ومنع بيعها بعد العاشرة مساء. كما قام الحزب بتوفير مساعدات مالية للشباب لتشجيعهم على الزواج المبكر. وعلاوة على ذلك، يتمتع الأزواج الذين لديهم أكثر من ثلاثة أطفال أيضا بمنحة مالية. ولم يصل الحزب لدرجة سن قوانين جديدة تمنع الإجهاض، ولكن كان واضحا أن هذه المسألة تقلق الزعيم الفعلي للعدالة والتنمية.
على الرغم من أن غول كان شخصا براغماتيا جدا، إلا أنه أيقن في النهاية أن التفكير المحافظ الديني والاجتماعي هو طريقة جيدة لكسب دعم القواعد في بلد تدور فيه القضايا الرئيسية حول الهوية، الإيديولوجيا والدين
من جهته، قال أردوغان ذات مرة: “لا فرق بين قتل الجنين في بطن أمه وقتل شخص بعد الولادة”. وأثناء تحدثه بأسلوبه القيادي الروحي، كان أردوغان بصدد إظهار آرائه حول الحياة الفاضلة. وقد ذكر لي آنذاك مسؤول هام في حزب العدالة والتنمية أن “أردوغان يتصرف أحيانا مثل الأب، فليس كل ما يقوله هو قانون نافذ، بل مجرد مقترحات، وهو يريد حماية الشباب من الممارسات السلبية”.
في المقابل، أظهر هذا الأسلوب الإسلامي المشخصن أيضا حدود الحركات الإسلامية الحديثة. ويظهر ذلك خاصة عندما أثار إسماعيل كهرمان رئيس كتلة العدالة والتنمية في البرلمان، جدلا كبير في نيسان/ أبريل سنة 2016 حينما اقترح “إلغاء مبادئ العلمانية من الدستور” رغم أن هذه الفصول لا يمكن المساس بها. ومباشرة، سارع أردوغان بالنأي بنفسه عن هذه المقترحات على الرغم من أن ما اقترحه كهرمان كان ليحظى بالقبول في أي مكان آخر.
من جهة أخرى، لا تنص الدساتير في الشرق الأوسط بشكل عام على العلمانية، وبالتالي من الطبيعي أن يرغب حزب ذو جذور إسلامية في استعمال عبارات في الدستور أكثر حيادا. (دستور الولايات المتحدة على سبيل المثال لا يتضمن أي إشارة لكلمة علمانية، ولا ينص مثل الدستور التركي على تضييق التعبير الديني في الحياة العامة).
كان أردوغان يحمل رؤية للمجتمع لم تكن قد تشكلت تماما. كما لم يكن حزب العدالة والتنمية نفسه يضم الكثير من المنظّرين، ناهيك عن علماء الدين والشريعة. وبذلك فإن إسلاميي تركيا كانت لديهم أفكارا ولكنهم بدوا عاجزين عن التعبير عنها بشكل متناسق. ومن أبرز الاستثناءات في هذا الصدد، إبراهيم كالين، كبير مستشاري أردوغان الذي يوصف بأنه ذراعه الأيمن. والجدير بالذكر أن هذا الرجل الذي عمل سابقا كمدرس للفلسفة الإسلامية في جامعة جورج تاون في واشنطن، ومؤلف كتاب السيرة الفكرية حول الفيلسوف الشيعي صدر الدين الشيرازي، كان شخصا محبا للكتب وناكرا للذات عندما جلست معه في 2005 في القصر الأبيض، حيث بدى منهمكا في حوار ليس فقط معي أنا، بل مع نفسه، وأحيانا كان يسرح في التفكير أثناء مناقشة الفلسفة الإسلامية في فترة ما بعد الحداثة.
كان إبراهيم كالين يحمل تقديرا كبيرا لأردوغان، وقد خدمه بكل وفاء لوقت طويل، ولكنني شعرت لديه بشيء من البرود، باعتبار أنه كان قادرا على التأثير على أردوغان لدرجة محدودة فقط، وفي النهاية كانت السياسة المعتمدة هي “دع أردوغان يكن أردوغان”.
كان الرئيس أردوغان شخصا مستقلا، ويعتمد على تجاربه الشخصية، التي تعدّ حسية وليست فكرية. ففي حال كانت فكرية، لما ذهب إلى استغلال وزارة الشؤون الدينية التركية لنشر الفكر الإسلامي، مثلما كان أتاتورك في السابق يستغلها لغرض معاكس تماما. وتحت حكم حزب العدالة والتنمية، باتت وزارة الشؤون الدينية تشرف على الأئمة والمساجد والمدارس الدينية وخطب يوم الجمعة، وضاعفت من عدد موظفيها، وارتفعت ميزانيتها السنوية أكثر من أربعة أضعاف. وعلى الرغم من أن الأقليات كان بإمكانها الحصول على إعفاء، إلا أن الدروس الدينية أصبحت إلزامية للأطفال في المدارس العمومية.
وفي خطاب في سنة 2015، افتخر أردوغان بأن تسجيل التلاميذ في مدارس إمام خطيب الدينية التي تشرف عليها الدولة ارتفع من 65 ألف شخص إلى حوالي مليون شخص، وهي نقلة ضخمة ستغير كيفية فهم الشباب التركي لدينه وتراثه.
ولم تعد المؤشرات التقنية مثل ارتفاع الناتج الفردي الخام كافية للتعبير عن رؤية أردوغان “لتركيا الجديدة”. هذه العبارة أصبحت حاضرة في كل مكان خلال سنة 2014 في صفوف أنصار حزب العدالة والتنمية. وفي هذا الصدد، عبّرت صحيفة يني شفق عن هذه الفكرة بالقول: “تركيا الجديدة ليست مجرد شعار، تركيا الجديدة هي مشروع يتمثل في إعادة تشكيل وبناء تركيا بعد قرن من الزمن”. وكثيرا ما يستعمل الإسلاميون عبارة “مشروع” لوصف التغيير المجتمعي البطيء، والذي يبدأ من القاعدة نحو القمة.
وفي ظل وجود هذا المشروع طويل الأمد في الأذهان، فإنه لا غرابة في أن حزب العدالة والتنمية يأمل في حكم تركيا إلى سنة 2071، وهي سنة ستمثل ذكرى ألفية مهمة رغم أنها ليست معروفة كثيرا. ففي سنة 1071، دخلت الإمبراطورية السلجوقية ما يعرف اليوم بتركيا، بعد هزيمتها للجيوش البيزنطية في معركة ملاذ كرد. وقد تبدو سنة 2071 بعيدة جدا، ولكن بشكل يعدّ البقاء في السلطة إلى تاريخ 2071 طموحا معقولا. ففي خطاب ألقاه رئيس الوزراء داوود أوغلو في أغسطس/آب 2014، أشار إلى أن: “حزب العدالة والتنمية بدأ كحركة جيل جديد، ولكنه ليس حصرا على جيل واحد كما أنه ليس مقتصرا على أجيال وقرون معينة. بل هو رمز للكفاح من أجل العدالة والحق، انبثق من عمق التاريخ وسيتواصل إلى نهاية الزمان”.
كان أردوغان يحمل رؤية للمجتمع لم تكن قد تشكلت تماما. كما لم يكن حزب العدالة والتنمية نفسه يضم الكثير من المنظّرين، ناهيك عن علماء الدين والشريعة. وبذلك فإن إسلاميي تركيا كانت لديهم أفكارا ولكنهم بدوا عاجزين عن التعبير عنها بشكل متناسق
وفي كتابه “صراع الحضارات”، وصف ساموال هانتينتون تركيا بأنها بلد ممزق، وقال أنها يمكن أن تستعيد وحدتها عبر التحول إلى دولة محورية تقود العالم الإسلامي، عوضا عن كونها عضوا تابعا للغرب. وليتحقق ذلك، اعتبر هانتينتون أن تركيا سيتوجب عليها لفظ “تركة” أتاتورك بشكل أكثر شدة من لفظ روسيا لإرث لينين. وسيتطلب الأمر زعيما من عيار أتاتورك يستطيع الجمع بين الشرعية الدينية والسياسية من أجل تحويل تركيا من بلد ممزق إلى دولة رائدة”.
لقد كتب هانتينتون هذه الكلمات خلال 1996، عندما كان أردوغان لا يزال عمدة في مدينة إسطنبول لم يسمع به الكثيرون خارج تركيا. وتعد حالة تركيا مثيرة للانتباه، فهي نموذج من اندلاع ربيع في الشرق الأوسط كان يمكن أن تكون مآلاته مختلفة. وباستثناء الإسلاميين بمختلف مشاربهم، لم يعد كثيرون آخرون يتحدثون عن “النموذج التركي”، على الأقل دون سخرية ودون الإشارة إلى أن البلاد تنحدر إلى صراع سياسي في ظل تواصل الهجمات على حرية الصحافة (بعض الأحزاب الإسلامية الأكثر وعيا، مثل حركة النهضة التونسية، لم تعد تستشهد بتركيا كما كانت تكون في الماضي). كما كتب الصحفي التركي مصطفى أكيول في سنة 2016: قبل خمس سنوات، كان الجميع يتحدث عن النموذج التركي، ولكن في هذه الأيام أنا أفكر في تلك الأوقات بحنين وندم”.
في المقابل، لا يبدو أن إسلاميي تركيا مهتمين بهذا الأمر، إذ أن صراعهم الذي يتركز الآن على الواجهة الداخلية، يحظى بالأولوية قبل أي شيء آخر. وثمار هذه الجهود فيما يتعلق بالتركة والتاريخ، قد لا تظهر إلا في سنة 2029 أو 2071 أو ربما أبعد من ذلك. ولكن هذا لا يهم، فكما قال لي مستشار سابق لدى داوود أوغلو: “العلمانيون يعيشون بجثة أتاتورك، ونحن نحتاج لدفن أتاتورك في قبره مجددا”. أذكر أنني رمقته حينها بنظرة استغراب، ولكنه لم يكن يهتم بوقع كلامه. فقد أصبح الأمر بالنسبة له مسألة معتقد.
وقبل عقود من الزمن، كان أتاتورك قد غيّر معنى الإنسان في تركيا. وليغيّر تركيا بحسب رغبته، كان يحتاج لأن يكون متشددا ومتهورا خاصة وأنه لا بدّ من جمع السلطات في يد شخص واحد متسلط، باعتبار أن أغلب الشعب التركي لم يكن موافقا على خطة فرض العلمانية التي وضعها أتاتورك. وبهذا الشكل، أصبح هنالك تضارب بين هدف بناء الدولة عبر تجميع السلطات، وهدف نشر الديمقراطية عبر توزيع السلطات.
والآن بعد حوالي قرن من الزمن، لا تزال الدولة طموح الجميع. فأردوغان حاول السيطرة عليه، من خلال استخدام نموذج أتاتورك للدولة المركزية وهندسة المجتمع من أجل إلغاء كل ما كان قائما منذ زمن طويل. وبالنسبة لباقي العالم، كان ينظر لذلك على أنه ديكتاتورية. أما بالنسبة لأردوغان فهو يعتبر أن الأمر هو عبارة عن عدالة، نظرا لأنه يعيد الأتراك إلى طبيعتهم الأصلية التي تتميز بالتدين، قبل أن يقدم أتاتورك على تغييرهم.
على ضوء هذه المعطيات، حافظت القواعد المحافظة لحزب العدالة والتنمية على صبرها خلال سنوات الألفين، بينما كان الحزب منهمكا في القيام بالإصلاحات الديمقراطية ودعم الطبقة المتوسطة التي استفادت كثيرا من السياسات الاقتصادية للحزب. وقد أخبرهم قادة العدالة والتنمية بأن يكونوا صبورين، لأن بعض التغييرات التي لطالما انتظروها على غرار إلغاء قانون حظر ارتداء الحجاب في المؤسسات العمومية والجامعات سيأتي في الوقت المناسب. فهم لم يرغبوا في المخاطرة بالدخول في مواجهة لم يستعدوا لها بعد حول هذه المسألة الحساسة، التي تعتبر تحديا للعلمانية المتشددة للدولة التركية التي لم يسيطروا عليها تماما.
لذلك، لم يكن أردوغان مهتما بمراجعة القواعد الأساسية للدولة الحديثة، ولماذا قد يفعل ذلك؟ إذ أن نموذج الدولة المركزية القوية هي كل ما عرفه في حياته، حيث لطالما كان واحدا من الطبقة المتضررة من هذا النظام، على غرار ما تعرض له من سجن بسبب إلقائه قصيدة دينية. وكانت لدى أردوغان رؤية مميزة للمجتمع التركي، تقوم على استعادة الأمجاد العثمانية والعودة للفطرة الإنسانية، وهي فطرة الإسلام. وتماما كما صنعت الدولة الكمالية صورة للرجل التركي المثالي، عملت الدولة تحت حكم أردوغان على صنع تصورها الخاص والمختلف تماما للرجل التركي الصالح. وكانت هذه هي طريقة أردوغان لإلغاء تركة أتاتورك.
في 15 تموز/يوليو سنة 2016، شهدت تركيا آخر محاولة انقلابية فاجأت الجميع بما فيهم أكبر الخبراء في الشأن التركي. فبناء على هذا النموذج الحسابي، قام العالم السياسي جاي أولفيلدر بوضع توقعات لإمكانية حدوث انقلاب في تركيا خلال 2016 لا تتجاوز نسبة 2,5 بالمائة. وبشكل ما تبين لاحقا أن تلك المحاولة الانقلابية كانت هدية من السماء، سرعان ما فهم أردوغان ذلك حيث قال لاحقا: “إن الانقلاب الفاشل كان هدية من الله”.
عموما، دفع هذا التصريح ببعض الملاحظين إلى إثارة الشكوك وطرح فرضية قيام أردوغان نفسه بافتعال ذلك الانقلاب. ولكن التفسير الصحيح ربما يكون هو الأكثر بساطة: إذ أن أردوغان لم يخطط لذلك ولكنه أيقن أن الانقلاب هدية من الله. فقد كان الانقلابيون على وشك قتله، حيث أنهم أطلقوا النار على الفندق الذي كان يقيم فيه بعد وقت قصير من مغادرته. لكن في النهاية، يعدّ هذا التفسير الديني لأردوغان أمرا طبيعيا باعتبار أنه شخص متدين.
وتجدر الإشارة إلى أن البعض تحدثوا حول حتمية وفاة أردوغان في يوم من الأيام. وقد أوضح هو هذه المسألة خلال أول لقاء صحفي بعد استفتاء نيسان/أبريل الذي حقق فيه الانتصار، حيث قال: “أنا إنسان فان فعلا”. وأضاف أردوغان أنه يمكن أن يموت في أي وقت، وهو تصريح يحيلنا إلى ما يفكر فيه هذا الرجل إذ أن أردوغان يرى نفسه إنسانا مصيره الزوال، وفي نفس الوقت مؤسسا للجمهورية التركية الثانية، وهو طموح يحتاج للمزيد من الوقت لتحقيقه. من ناحية أخرى، مرت معاني العبارات الدينية والسياسية التي أطلقها أردوغان بعد الاستفتاء دون أن يلاحظها الغرب، رغم أنها كانت مليئة بالمعاني بالنسبة لأولئك الذين يفهمون بالإشارة. فقد سارع أردوغان صحبة الوجوه المهمة في حزبه لزيارة قبر أبو أيوب الأنصاري، وهو من أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذين شاركوا في أول حصار للقسطنطينية وتم دفنه قرب أسوار المدينة. وعندما سقطت القسطنطينية في يد العثمانيين بعد ثمان قرون، أصبح ضريح الأنصاري أحد أكثر الأماكن قُدسية في إسطنبول، حيث يتم فيه تنصيب السلاطين. كما زار أردوغان ضريح السلطان سليم الأول، الخليفة الذي عزز السيطرة على مكة والمدينة.
يمكن القول إن حزب العدالة والتنمية بات ضحية لنجاحه، إذ كان بإمكانه توسيع مجال الحريات والديمقراطيات ومواصلة دعم الاقتصاد. ولكن ربما يكون أردوغان الذي رأى في نفسه شخصية تاريخية، قد رغب في أن يذكره التاريخ ليس فقط لأنه طور تركيا، بل أيضا لأنه غيّرها
كما وجد أردوغان الوقت أيضا للقيام بزيارات لبعض الرموز السياسية الراحلة على غرار ضريح رئيس الوزراء السابق عدنان مندريس، ونجم الدين أربكان. ويعد نجم الدين أربكان أول رئيس حكومة إسلامي ينتخب بشكل ديمقراطي في الشرق الأوسط، قبل أن تتم الإطاحة به خلال سنة 1997 بانقلاب ناعم. كما كان مندريس أول رئيس وزراء منتخب بشكل ديمقراطي، يقوم بتخفيف القيود على الشعائر الإسلامية. وقد تم شنقه بعد أول انقلاب عسكري في تركيا في 1960. ويعتبر أردوغان أن حادث إعدام مندريس كانت نقطة تحول في حياته نحو الاهتمام بالسياسة، حيث يذكر أنه في ذلك اليوم بكى مع والده، على الرغم من أنه لم يكن سوى في السابعة من العمر. ولذلك يشعر أردوغان أنه الآن بصدد إكمال مشروع مندريس، من خلال تعزيز موقع الإسلام في تركيا في الحاضر والمستقبل. ولكن أردوغان يعي تماما أنه ربما لن يعيش ليرى رؤيته تتحقق.
وبما أن أردوغان على يقين أنه ربما لن يعيش للأبد، فإن تحقيقه للنظام الرئاسي كما فعل في استفتاء نيسان/أبريل يمثل أفضل ضمان له لحماية “تركته”. ومن خلال إنشاء مجلس رئاسي منتخب شعبيا، بعد أن كان الرئيس يصوت عليه البرلمان قبل سنة 2014، ضمن المتدينون الأتراك مكانة لأنفسهم مهما كان الشخص المرشح للمنصب. وباختصار، إذا لم يحصل أي انقلاب عسكري جديد أو مؤامرة غير متوقعة، فإن رئيس تركيا الذي سيكون غالبا من حزب العدالة والتنمية، سيتوجب عليه قبول وحتى اعتناق التقاليد الدينية التركية. وربما في النهاية يتم حمل أتاتورك فعلا إلى قبره. أما المعارضة الدولية ومهاجمة الأطراف الخارجية للنموذج التركي الذي يقدمه أردوغان، فهي ليست إلا ثمنا بسيطا سيتم دفعه.
المصدر: ذي أتلنتيك