على النقيض من الجمود المعتاد في تحركاته الخارجية، أثار التحرك الخارجي الحيوي الأخير للملك المغربي محمد السادس تجاه عدد كبير من الدول الإفريقية تساؤلًا لدى الكثير من المتابعين للشأن المغربي الذين اعتادوا على انكماش جسيم في تحرك المغرب الخارجي على الصعيدين الإفريقي وغير الإفريقي على حدٍ سواء.
وسطع شعاع الانفتاح السياسي المغربي عقب عودة المغرب في 30 من يناير 2017، إلى الاتحاد الإفريقي الذي انسحب منه منذ 32 عامًا، وفيما حصل المغرب على موافقة 39 دولة من أصل 54 للعودة إلى الاتحاد، لوحظ أن المغرب تراجع عن إرهان عودته إلى الاتحاد بانسحاب “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” أو “جبهة البوليساريو” ـ أعلنت استقلالها عن المغرب عام 1976 ـ وهو ما أبرز عدة تساؤلات عن السيناريوهات التي يمكن رسمها بشأن أهداف المغرب من تحركه المذكور.
سيناريوهات عدة قد توضح الدوافع أو الأهداف التي أدت إلى خلق مسار جديد في العلاقات الخارجية للمغرب مع الدول الأخرى، خاصة الإفريقية منها، وربما تكون السيناريوهات أدناه الأقرب لتوضيح الدوافع أو الأهداف الحقيقية وراء التغيّر المفاجئ والحيوي الذي ظهر على المسار السياسي الخارجي للمغرب.
ـ مناورة جديدة لإيجاد حل نهائي للصحراء الغربية وتفادي النتائج السلبية لسياسة الانعزال
منذ عام 1984، والمغرب يتبع سياسة “الكرسي الفارغ” للضغط على الاتحاد الإفريقي ودوله لسحب اعترافاتها بالصحراء الغربية، مستندًا في تلك السياسة إلى الميثاق التأسيسي للاتحاد الذي يوجب على الدول الأعضاء احترام سيادة بعضها بعضًا، وعلى ما يبدو نجح المغرب في تحقيق بعض من أهداف هذه السياسة، حيث انخفض عدد الدول الإفريقية المعترفة بالصحراء الغربية من 75 إلى 29.
ولكن على صعيد آخر، يبدو أن المغرب شعر بأن سياسة “الكرسي الفارغ” أو “الانعزال” لن تمكنه من الظفر بحل جذري للقضية الصحراوية، فالانعزال لم يدفع الاتحاد، رغم انخفاض عدد أعضائه المعترفين بالصحراء كجمهورية مستقلة، إلى إلغاء عضوية الصحراء الغربية بالكامل، لذا ربما رأى المغرب في أن عودته إلى الاتحاد أمرًا جيدًا لإيجاد حل جذري لقضية الصحراء الغربية، وسد الطريق الدبلوماسي على الصحراء الغربية التي تستفيد دبلوماسيًا من عضويتها في الاتحاد لدحض أطروحة المغرب والدفاع عن رؤيتها بشأن نزاع الصحراء، مستفيدةً في ذلك من الغياب الطرف المغربي الذي لا يوجد من يدافع عنه.
ولإجراء مناورة جديدة تسد جميع الطرق الدبلوماسية والاقتصادية أمام الصحراء الغربية، اتجه المغرب، على ما يبدو، لانتهاج سياسة الانفتاح الدبلوماسي والاقتصادي الذي يُفضي إلى ميلاد “سياسة اتحادية” دبلوماسية واقتصادية وأمنية واجتماعية وثقافية توثق الأواصر بين الدول بشكل متين، وتُعزز هذه السياسة التي يُطلق عليها علميًا سياسة “الليبرالية البنيوية” بدعم من الإطار المؤسساتي الجامع للعلاقات بين الدول.
النظر إلى المؤشرات الاقتصادية المغربية نلاحظ بأن المغرب استطاع تحقيق تنمية اقتصادية جيدة خلال الفترة السابقة، وانطلاقًا من تلك المؤشرات يريد المغرب، على الأرجح، الاتجاه نحو خلق اتحاد اقتصادي مدعوم بجوانب ثقافية واجتماعية متداخلة مع عدة دول إفريقية
وفي مثالنا يُمثل الاتحاد الإفريقي ذلك الإطار الذي يعزز من فتح أوراق وخطط وأجندات الدول على بعضها البعض، فتصبح الدول تسير وفقًا لهدف إحراز المصالح المشتركة بشكل أكبر، وبالتالي يُبقي هذا الإطار على الحماس الاتحادي بين البلدان المتحدة قائمًا.
بالنظر إلى المؤشرات الاقتصادية المغربية نلاحظ بأن المغرب استطاع تحقيق تنمية اقتصادية جيدة خلال الفترة السابقة، وانطلاقًا من تلك المؤشرات يريد المغرب، على الأرجح، الاتجاه نحو خلق اتحاد اقتصادي مدعوم بجوانب ثقافية واجتماعية متداخلة مع عدة دول إفريقية.
اتحادٌ يجعل المصالح السياسية والأمنية للدول المتحدة تلتقي في نطاق مشترك، يُعزز هذا الاتحاد من خلال النشاطات الثقافية والاجتماعية والإعلامية المتبادلة بين الدول المتحدة، وبعد تحوله لاتحاد وطيد ومعقد يشمل عدة قطاعات اقتصادية متداخلة بشكل وثيق بين الدول المتحدة، فإن الأخيرة تضطر لتجاوز المسائل السياسية العالقة التي قد تؤثر في ذلك الترابط، لأن الضغط الاقتصادي والمؤسساتي المترابط يجعلها تخشى تدهور العلاقات الاقتصادية المترابطة على أصعدة عدة.
في الحقيقة، تُقيَم سياسة المقاطعة الدبلوماسية أو الاقتصادية التي اتبعها المغرب لفترة من الزمن ضد بعض الدول الإفريقية، على أنها سياسة صلبة تزيد من تدهور العلاقات، وتعود على الدولة بالنتائج السلبية، ولا تثمر أي توافق بين الدول، إلا أن السياسة الاتحادية تُقيم على أنها سياسة ناعمة توفر الفائدة المتبادلة للدول، وبالتالي تمثل وسيلة إقناع جيدة يمكن للدولة الساعية لتحقيق هدف سياسي ما الارتكاز عليها.
إن الموقع الاستراتيجي للمغرب يشكل حلقة وصل دبلوماسية واقتصادية وثقافية مهمة بين القارتين الإفريقية والأوروبية
أيضًا، إحراز العديد من الشركات والبنوك المغربية استثمارات كثيفة في عدد من الدول الإفريقية، يوحي بأن المغرب يملك قطاعًا اقتصاديًا متداخلًا مع عدد من الدول الإفريقية، حيث يمكن له الاتكاء عليه وإكمال عملية التقارب مع تلك الدول من خلال نقله من تعاون اقتصادي في قطاع أو قطاعات ضئيلة، إلى تقارب اقتصادي يشمل عدة قطاعات، ومن ثم اتفاقية تجارة حرة يشوبها تعاون مؤسساتي حقوقي وطيد، ومنها إلى سوق حرة، ومن هنا إلى تكامل اقتصادي يضمن للمغرب تحقيق ما يرنو إليه من مآرب دبلوماسية.
إلى جانب ذلك، فإن الموقع الاستراتيجي للمغرب يشكل حلقة وصل دبلوماسية واقتصادية وثقافية مهمة بين القارتين الإفريقية والأوروبية.
والحاجة الماسة لمثل هذه السياسات في القارة السمراء التي تقاسي الأمرين نتيجة التبعية القاتمة للدول الكبرى، عنصر يساند المغرب في تحقيق مبتغاه، وبالنظر إلى التحرك الدبلوماسي لملك المغرب الذي شمل عدة دول بعضها ما زالت معترفة دبلوماسيًا بالصحراء الغربية كإثيوبيا وتنزانيا، وأخرى غير معترفة كرواندا وغينيا بيساو، والذي تم تحت عنوان “عمل وصداقة”، نستدل من خلال سيطرة الاتفاقيات المبرمة بهدف تعزيز التعاون والاقتصادي والثقافي والاجتماعي والتعليمي بين المغرب والدول المُزارة، بأن المغرب ماضٍ في رفع نصاب الدول الصديقة التي قد تتحول إلى دول مطالبة بإسقاط عضوية الصحراء الغربية.
وما يجعل هذا السيناريو ملامسًا للواقع وليس ضربًا من مثاليات الخيال، هو إقناع المغرب دولة الباراجواي بسحب اعترافها بالصحراء الغربية عام 2014.
ولعل مطالبة 28 دولةً عضوةً في الاتحاد الإفريقي، العام الماضي، الاتحاد بإسقاط عضوية الصحراء الغربية، حفزت المغرب على انتهاج هذه السياسة الانفتاحية عبر الوسائل المذكورة آنفًا، لتحقيق الهدف النهائي المتمثل في الحصول على مواقف داعمة له في قضية الصحراء التي يصبو لحلها من خلال منحها الاستقلال الذاتي الخاضع لسيطرته.
لم يحرز المغرب ما يرنو إليه من سياسة الانعزال، وواجه عزلة سياسية واقتصادية من قبل عدد واسع من الدول الإفريقية، ولم يقف الأمر على ذلك، بل فسح المجال أمام الدول الإقليمية المنافسة للمغرب، وعلى رأسها الجزائر وجنوب إفريقيا الداعمتين بشدة لحركة البوليساريو والقائدة لمشروع حصول الصحراء على استقلالها الكامل، لتعزيز نفوذهم مع الدول الإفريقية على حساب المغرب.
ويظهر من بدء ملك المغرب من بعض الدول التي تقع في شرق القارة الإفريقية، أي القريبة من جنوب إفريقيا، أن المغرب يسعى لإعادة موازنة موقعه القابل للسمو في ظل العدد القليل للمنافسين الإقليميين، لتقليص النتائج السلبية لتلك السياسة.
تحرك وظيفي مدفوع من قبل قوى إقليمية
يبدو هذا السيناريو مكملاً وداعمًا للسيناريو أعلاه، ويستند هذا السيناريو بشكل أساسي على فرضية دعم أو مساندة المملكة العربية السعودية للمغرب للتحرك في هذا الاتجاه، لكي تتمكن من إيصاله إلى موقع قوة سياسية واقتصادية مؤثرة في الدول الإفريقية، لا سيما بعد تنامي الدور الإيراني في القارة السمراء.
ذلك التنامي الذي بات يشكل تهديدًا بارزًا لحليف السعودية الأقوى في إفريقيا “المغرب”، نتيجة العلاقات الدبلوماسية المتينة البائنة التي تربط بين الجزائر ـ المحاذية للمغرب والمنافسة الأساسية له ـ وإيران ـ المنافس الأساسي للملكة العربية السعودية ـ، فإن كانت المملكة منشغلة بالمنافسة الإقليمية المحيطة بها، فيمكنها الركون لدفع المغرب لكبح جماح تمدد النفوذ الإيراني عبر سياسة رفع مستوى التعاون الشامل.
يواجه المغرب، اليوم، مشكلتي الوجود والحدود، فسيادته الوجودية التاريخية مهددة بحصول الصحراء الغربية على الاستقلال الكامل نتيجة تحركها الحيوي في الاتحاد الإفريقي الذي انعزل عنه لسنوات طويلة، وحدوده مهددة بخطر تعاظم النفوذ الدبلوماسي الإيراني الذي تشكل الجزائر أحد أهم محاطته الإفريقية
تتبع القوى العظمي والإقليمية سياسة “حلقة الوصل” أو “السياسة الجسرية الجيو ـ سياسية” لتنفيذ السياسات التي تخدم مصالحها في إقليمٍ يبعد عنها جغرافيًا، وفي ظل تراجع الدور المصري في إفريقيا نتيجة الخلافات مع عددٍ من الدول الإفريقية، وفي ضوء إظهار مصر بنظامها الحالي ـ نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي ـ “علامات التمرد” ضد الداعم الرئيس ـ المملكة العربية السعودية ـ تبدو الأخيرة مضطرةً لدفع المغرب نحو رفع نفوذه التأثيري في القارة.
في العموم، يواجه المغرب، اليوم، مشكلتي الوجود والحدود، فسيادته الوجودية التاريخية مهددة بحصول الصحراء الغربية على الاستقلال الكامل نتيجة تحركها الحيوي في الاتحاد الإفريقي الذي انعزل عنه لسنوات طويلة، وحدوده مهددة بخطر تعاظم النفوذ الدبلوماسي الإيراني الذي تشكل الجزائر أحد أهم محاطته الإفريقية، وبالأخص في ظل نظرة إيران السلبية للمغرب الذي تراه على أنه حليف للسعودية وضد سياستها، لا سيما بعد مشاركته في التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، وهو الأمر الذي يفسر ببساطة الدوافع التي اضطرته لاتباع سياسة الانفتاح في الوقت الحالي بالتحديد.