بجوار متحف جوجنهايم ببلباو، إسبانيا، ناظرًا نحو المياه الساكنة والهدوء المحيط، من الصعب تخيل أن تلك البقعة منذ نحو 20عامًا كانت منطقة خربة ناتجة عن المرحلة “ما بعد الصناعية” التي كانت تمر بها المدينة، 20 عامًا تغير بها كل شيء، فقبل ما يقارب 20 عامًا، كانت بلباو مرتعًا للعمليات الإرهابية والفشل الصناعي المحتم، لهذا السبب راهنت المدينة على ذلك المتحف وقد ربح رهانهم، ليس فقط في الحفاظ على بلباو، ولكن أيضًا في أن تُرى العالم التأثير البنّاء للفن، فما الذي غير مجريات الأمور بالمدينة؟
تأثير بلباو
تأثير بلباو هو ذلك المصطلح الذي يطلق على تلك المدن التي تسعى لجذب مؤسسات ثقافية عالمية لبناء منشآت بها لتضعها على الخارطة العالمية بغرض تحسين وإنعاش السياحة وبالتالي اقتصاد تلك الدولة وسمعتها الفكرية الثقافية، فما قصة هذا المصطلح؟ ولماذا بلباو؟
اُعتبرت بلباو دومًا مدينة صناعية ذات ميناء مهم، حيث تقع في شمال إسبانيا واحتلت دومًا قلب العملية الصناعية والتجارية لكونها احتضنت الكثير من المصانع والمكاتب التي ازدهرت كثيرًا في أثناء الثورة الصناعية.
بدأت بلباو في تطوير العملية الصناعية خاصة بعد الحرب الأهلية في الأربعينيات من القرن الماضي، ولكن مع مرور الزمان، ومع بدء تفكك الصناعة، صاحب بدء المواطنين الانتقال إلى المدينة للعيش بها، الحاجة إلى الأماكن العامة التي أثرت بالطبع على الصناعة التي بدأت شيئًا فشيئًا تفقد مكانها كمدينة يعتمد اقتصادها على مينائها وتصنيعها، وتزايدت الأزمة مع حدوث الأزمة الاقتصادية في السبعينيات، بالإضافة لتزايد العمليات الإرهابية، مما دفع إدارة مدينة بلباو إلى التفكير في حل يُنقذ المدينة مما آلت إليه.
ازداد الاهتمام بتطوير بلباو بعد دخول إسبانيا الاتحاد الأوروبي عام 1986، حيث عملت مقاطعة الباسك على تطوير أكبر مدنهم بتعيين أكبر معماريين العالم لتصميم منشآت جديدة مثل مطار المدينة المصمم بواسطة المعماري الشهير سانتياجو كالاترافا
وبدأت خطة المدينة بتحسينها وبدء عملية تجديد حضري، كانت أول خطواتها تنظيف النهر الذي كان مليئًا بالمخلفات الصناعية، مع توسع كبير في شبكة النقل العام، وتحسينات رئيسية في الطرق والميادين والحدائق العامة.
وازداد الاهتمام بتطوير بلباو بعد دخول إسبانيا الاتحاد الأوروبي عام 1986، حيث عملت مقاطعة الباسك على تطوير أكبر مدنهم بتعيين أكبر معماريين العالم لتصميم منشآت جديدة مثل مطار المدينة المصمم بواسطة المعماري الشهير سانتياجو كالاترافا، الذي صمم أيضًا كُبري المشاة المميز، واستدعوا أيضًا المعماري البريطاني الشهير السير نورمان فوستر الذي صمم لهم مترو الأنفاق، ولكن كل ذلك لم ينقل المدينة إلى مرحلة أخرى بذلك الشكل الملحوظ إلى أن كان طُعم السنارة والكرزة التي زينت وجه الكعكة ألا وهو متحف جوجنهايم بلباو الذي صممه فرانك جيري، فكيف بدأت قصة المتحف ومن أين أتت فكرة بنائه؟
قصة البداية
إن اختيار مدينة بيلباو لكي تكون أحد أهم المراكز الثقافية لمؤسسة جوجنهايم في أوروبا كان ثمرة للجهود التي بذلها المسؤولون الباسكيون كمساهمة عملية في إنعاش البنية الاقتصادية المبتلاة بالركود في إقليم الباسك، وكان متحف جوجنهايم بيلباو واحدًا من المشروعات الكبيرة التي وضعت في الحسبان عند إعادة تطوير مدينة وتنمية هذه المدينة.
وكان متحف بيلباو نتاجًا للمشاورات البناءة بين مؤسسة “سولومون أر. جوجنهايم” والسلطات الباسكية، وقد انتهت المشاورات بين الطرفين إلى أن تقوم السلطات الباسكية بتأمين الدعم السياسي والثقافي للمشروع، وكذلك تمويل المتحف وتشغيله، في حين تساهم مؤسسة “سولومون أر. جوجنهايم” في إمداد المتحف بمجموعاتها الخاصة من الفن المعاصر، وأيضًا بالعمل على إقامة وتنظيم العروض الخاصة في المتحف والإشراف عليها، ووضع خبراتها في كل ما يتعلق بهذا الشأن تحت تصرف القائمين على المتحف.
“الإغواء هو أن تجعل الناس يتمنون شيئًا تمنيته أنت دون الحاجة إلى أن تسأل إذنهم لفعل ذلك الشيء، فالإغواء مجرد نقل للرغبة”، كما يقول توماس كرنس مسؤول مؤسسة جوجنهايم للشؤون الدولية، ففي عام 1991 عقد كرنس اجتماعًا مع إدارة الباسك والحزب القومي الباسكي ليتفاوض معهم بخصوص إنشاء متحف جوجنهايم ببلباو، تردد كثيرًا الباسكيون بخصوص هذا المشروع وكان هناك اتجاه بالتفكير في رد هذا العرض بسبب عدة مشاكل أبرزها القضايا الاقتصادية والهوية القومية وإدخال العولمة في مقاطعة الباسك.
فكر كرنس في البداية في مفاوضة العديد من المدن لاستقبال متحف جوجنهايم، ولفتت مدينة بلباو انتباهه لكونها مدينة ذات تاريخ وفنون وحضرية في نفس الوقت، رغم أنها لم تكن التي في مخيلته تمامًا.
وعلى الجانب الآخر فإن سلطات بلباو رغبت بشدة في إنشاء ذلك المتحف لإعادة إحياء مدينتهم لأنهم علموا أن النشاط الاقتصادي سيزدهر بشدة في حال إنشائه بسبب قدوم السائحين إليه، مما سهل المفاوضات كثيرًا والتي انتهت باتفاقية تمد بموجبها حكومة الباسك مئة مليون دولار كتكلفة إنشائية، بالإضافة إلى نحو 70 مليون دولار كرسوم استحواذ وخلافه.
انتقد الكثير من النقاد والصحفيين المتحف باعتبار تأثيره الثقافي السلبي على بلباو حيث اعتبروه مجرد أمركة بنشره للمفاهيم والمبادئ الأمريكية، ومما أكد ذلك لديهم أن مؤسسة جوجنهايم لديها النية في تأسيس سلسلة من فروع متحفها في جميع أنحاء العالم، لذلك كانت هناك مخاوف من انتشار وهيمنة الثقافة الأمريكية على أوروبا
وفي المقابل فإن مؤسسة جوجنهايم ستوفر وتنظم المعارض والإشراف على إدارة المتحف كما ذكرنا من قبل، واختارت مؤسسة جوجنهايم فرانك جيري المعماري الكندي المنشئ لتصميم المتحف والذي طُلب منه تصميمًا جريئًا جديدًا، ولم يخيب جيري آمال المؤسسة، فقد تصمم تحفة معمارية فريدة اعتبرها النقاد من أهم المباني التي أُنشئت في القرن الماضي إلى عصرنا الحالي، ففى عام 2005 في معرض فانيتي اختار 18 خبيرًا منهم 11 فائزًا بجائزة بريتزكر المعمارية المرموقة و8 عمداء لمدارس معمارية كبيرة من أصل 52 خبيرًا، متحف جوجنهايم كأهم مبنى معماري منذ عام 1980.
عند علمهم بالمشروع، انتقد الكثير من النقاد والصحفيين المتحف باعتبار تأثيره الثقافي السلبي على بلباو حيث اعتبروه مجرد أمركة بنشره للمفاهيم والمبادئ الأمريكية، ومما أكد ذلك لديهم أن مؤسسة جوجنهايم لديها النية في تأسيس سلسلة من فروع متحفها في جميع أنحاء العالم، لذلك كانت هناك مخاوف من انتشار وهيمنة الثقافة الأمريكية على أوروبا، وفي نفس الوقت شكك البعض في التأثير الاقتصادي للمتحف على المدينة حيث ادعى البعض أنه سيكون للمتحف تأثير سلبي على الاقتصاد بسبب تكلفة بنائه وخلافه.
افتتاح المتحف
حدثت نقلة نوعية لبلباو عند افتتاح المبنى في عام 1997، والذي أطلق عليه المعماري الكبير فيليب جونسون “أعظم مبنى في زماننا” واُستردت تكلفة المبنى بالكامل خلال ثلاث سنوات فقط، وبعد خمس سنوات من إنشاء ذلك المتحف، قُدّر التأثير الاقتصادي للمتحف على الاقتصاد المحلي لبلباو بقيمة 168 مليون دولار، كما أنه صب نحو 27 مليون دولار على هيئة ضرائب إضافية لتوفير المتحف فوق الأربعة آلاف وظيفة في مختلف المجالات، وأصبحت المدينة محل اهتمام الزائرين، حيث يزور المتحف أكثر من مليون زائر سنويًا، وتحولت المدينة في نفس الوقت من الصناعية تمامًا إلى الثقافية.
وفي سنة 2000 تم ضخ ما يقارب 130 مليون دولار لبلباو بسبب المتحف، بالإضافة إلى نحو 8 مليون دولار صُرفوا داخل المتحف، 43 مليون دولار تم ضخهم نتيجة الإقامة في المدينة من السياح، 35 مليون دولار للطعام المستهلك من قبلهم، 13 مليون دولار للتسوق، تسعة ونصف مليون دولار للمواصلات، وما يقرب من 7 مليون دولار للترفيه، وأصبحت بلباو من أعلى نقاط الجذب السياحية في إسبانيا رغم أن أرقام الزائرين قلت عما كانت عليه في بداية هذا القرن.
مآخذ وانتقادات
من المآخذ على المتحف أن بعض الناس يرون أن جوجنهايم مجرد قلعة من قلاع ديزني على قمة جبل، ذات اسم فخم وتكلفة دخول باهظة للسياح، وأن المتحف لم ينشر أي ثقافة للمدينة ولذلك – على حد ادعائهم – تجد المدينة هادئة خالية من المعارض الفنية المحلية، أو حتى عروض فناني الشوارع، وتجد الحوائط خالية من الجرافيتي، والمبنى بناءً على ذلك لم يكن وسيلة لنشر الثقافة رغم كونه أيقونة ثقافية، إنما وسيلة لنشر الأموال فقط.
الانتقادات الموجهة لجيري أيضًا أن تصاميمه تتميز بالبهرجة والإسراف وعدم الاستدامة، ورد عليهم جيري بوصفه لهم بالمعاصرين الباردين، مؤكدًا حاجة الناس إلى “التعبير” في العمارة
والرد على ذلك أن المتحف متحف فني دولي وليس قوميًا خاصًا بالباسكيين قاطني هذه المدينة وفقط، وهذا ما جعل إحدى شرطيي المدينة من القوميين الباسكيين المتطرفين تحاول تفجير قنبلة في المتحف قبل أسبوع من افتتاحه.
من الانتقادات الموجهة لجيري أيضًا أن تصاميمه تتميز بالبهرجة والإسراف وعدم الاستدامة، ورد عليهم جيري بوصفه لهم بالمعاصرين الباردين، مؤكدًا حاجة الناس إلى “التعبير” في العمارة، حيث إن عمارته كما يصف تتميز بالحركة والإحساس، مضيفًا أن معظم المدن التي بُنيت منذ الحرب العالمية الثانية من طراز العمارة الباردة غير المحفزة للمشاعر والتي تفتقر إلى نكهة مميزة.
بلباو كنموذج
تقول مستشارة المتحف ماريا ساباو: “كان حدوث ظاهرة متحف جوجنهايم بلباو استثنائية نادرة، فقد كان هناك حشدًا من العديد من الأناس الموهوبة الباهرة، ومتحفًا جائعًا للتمدد، أرض متوفرة رخيصة، حكومة ذات أموال، معماري يريد صناعة اسمه، مدينة فاقدة الامل تبحث عن سبب للبقاء، وطبقًا لدراسة أعدت بواسطة ماكنسي، من العوامل الأساسية لإنشاء مدينة ناجحة، قطاع ثقافي مزدهر، مساحات خضراء وافرة، مهاجرين طامحين للتجديد باعثين بحياة جديدة للمدينة.
ومدينة بلباو لم تكن الأولى التي يصبح أحد مبانيها أيقونة جاذبة للسياح، فالمثل حدث مع أوبرا سيدني ومركز بومبيدو في باريس وناطحات باي ساند بسنغافورة على سبيل المثال، والآن كل المدن التي تمر بمرحلة ما بعد الصناعية أو المدن الطامحة لحدوث تطور اقتصادي هائل ترى بلباو كنموذج تحاول تقليده.
فبلباو ليست فقط نموذجًا لضخ الأموال وإنعاش الاقتصاد، بل أيضًا نموذجًا لتحويل مدينة من المحلية إلى جعلها أيقونة ثقافية ووضعها على خارطة العالم ومن ثم تمتلك تلك المدن الطامحة فكرة ترشيح معماري كبير لتصميم فرع لأحد المتاحف الشهيرة لتزدهر المدينة بالثقافة والأموال، وهذا ما فعلته الكثير من المدن مثل أبو ظبي عند بنائهم لجوجنهايم واللوفر، هونج كونج ومتحف أم بلاس، وغيرها من المدن مثل ليفربول وتيرانا وبيرث.
وتبقى الأموال هي العامل الرئيسي لتنفيذ الفكرة من عدمه، فالكثير من المدن مثل مدينة لودز في بولندا على سبيل المثال امتلكت نفس الفكرة وعجزت عن تنفيذها بسبب التكلفة المالية الكبيرة التي لن تتحملها المدينة، ورغم كثرة محاولة تقليد نموذج بلباو، فإن القليل، القليل جدًا من المدن – غير العواصم – نجحت في تحقيق نتيجة هائلة تُذكر كبلباو.
مركز بومبيدو في باريس
إذًا فماذا على الدول الأخرى التعلم من بلباو؟ أن تبني هي الأخرى متحفًا؟ ليس بالطبع، فكل التجارب لم تنجح، عليك أن تفهم التجربة بأكملها وأن تضعها داخل إطارها، فالمتحف كان جزءًا من خطة أوسع ولكنها كانت واسطة العقد التي جذبت الأعين.