كان لكثيرٍ من مثقفي العالم العربي خلال القرن العشرين وشطرًا من القرن الجاري حضورًا لافتًا للنظر، وانخراطًا بارزًا في أبرز انشغالات وقضايا العرب الاجتماعية والثقافية والسياسية، وكان لـهم حظٌ وافر من التأثير في الجمهور والساسة من خلال مواقف أو كتابات أو مقالات أو ندوات يعبرون فيها عن يقـظتهم وحضورهم في مجمل ما يستجد من نوازل، أو يحدث من انعطافات تاريخية حاسمة.
فضلًا عن وجودهم في طليعة القوى الوطنية المناضلة من أجل العدالة والديمقراطية والتغيير، وانبثاث بعضهم في تنظيمات وأحزاب يضخون في شرايينها مواقف وطنية صارمة، ويضيفون لأوراقها السياسية وبياناتها ومؤتمراتها نكهة خاصة وثقلًا معرفيًا هائلًا وعمقًا في الفكر والنظر والممارسة.
تحضرنا هنا أسماء لامعة من طلائع المثقفين المغاربة والعرب الذين كان لهم باعٌ في قضايانا، ومسؤولية ملفتة للنظر إزاء ما يطرأ، شهرًا بشهر ويومًا بيوم في عالمنا العربي الكبير، لم تفصل تلكم النخب في لحظات من حياتها بين “الثقافة” و”السياسة”.
رموزٌ ومسؤوليات الـمثاقفة
فهــذا عبد الله العروي يفزعه التأخر التاريخي الرهيب للعالم العربي وانحسار برنامج الثورة والإصلاح القومي بزعامة “دولة العسكر”، بهزيمة العرب أمام الكيان الصهيوني سنة 1967، فيصدر أطروحته الثائرة “الإيديولوجيا العربية الـمعاصرة”، كإجابة برنامجية إصلاحية منخرطة في تحولٍ كبير أحاط بالعالم العربي غداة الهزيمة الـمفجعة، وكمبادرة لتلمس الجواب عن كبوة التأخر التاريخي.
كتب المفكر “نديم البيطار” أطروحته عن “الإيديولوجية الانقلابية” كإجابة ثورية ضد مسار الدولة العربية الذي أخْفق مشروعها وتراجعت إيديولوجيتها مع نكسة 67
ويواصل جهوده وحضوره في كثير من قضايانا الوطنية والعربية، متحدثًا تارة، وناشرًا أخرى، ومحاورًا من طرف مجلة هنا، ومصدرًا لأطروحة جديدة هناك، في حركية دائبة ملتزمة بمسؤولية الـمثقف إزاء وطنه وأمته، ونتلمس في كثير من إصداراته، الإسهام الفاعل في ملفات العالم العربي الحارقة، من (مفهوم العقل) إلى (ديوان السياسة)، ومن سلسلة (خواطر الصباح) إلى روايته (الآفــة)، ولا يزال يتدفق حاضرًا ومستحضرًا ومؤثرًا.
وعلى منواله كتب المفكر “نديم البيطار” أطروحته عن “الإيديولوجية الانقلابية” كإجابة ثورية ضد مسار الدولة العربية الذي أخْفق مشروعها وتراجعت إيديولوجيتها مع نكسة 67.
وبالعودة إلى علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني وكلاهما قامتين علميتين وهامتين سياسيتين جعلتا قضايا الوطن والأمة العربية على رأس جدول انشغالاتها، بل ربما هما العلمان الأكثر حضورًا في الشؤون العامة والخاصة لمغرب القرن العشرين، إلى جانب الحضور البارز للزعيم عبد الخالق الطريس في الشمال، فتراثهم الزاخر من مراسلات، ندوات، مذكٍرات، كتب، مقالات، خطب، نلْمس فيه انشغالًا مكثفًا بدقيق المستجدات وكبير التحولات وصغير الأخبار، في حركية وجهاد متواصل يعجزان الآن مؤسسات ومنظمات على قدها وقضيضها.
ولا أخال الناظر إلى (النقد الذاتي) و(دفاعا عن وحدة البلاد) و(أعلام من المشرق والمغرب) و(أحاديث في الفلسفة والتاريخ والاجتماع) و(الحرية) و(الديمقراطية وكفاح الشعب المغربي من أجلها في الماضي والحاضر) وباقي المقالات المبثوثة في أعداد (جريدة العلم) و(الاستقلال – بالفرنسية) منذ أربعينيات القرن الماضي، ليخطئ موقع الزعيم علال الفاسي في شؤون المغرب والعالم العربي، وكذلك الحال بالنسبة للناظر في إرْث الأستاذ بلحسن الوزاني سواء (مذكرات حياة وجهاد) أو (حرب القلم) أو (الإسلام والدولة)، أو عبر سلسلة مقالاته في جريدتي (عمل الشعب) و(الرأي العام)، التي تبين تفانيه في الانخراط الجاد في صلب قضايا حارقة.
وسيرة المناضل السياسي والزعيم البارز المهدي بن بركة أشْهر من نارٍ على علمٍ في هذا الباب، فقد كان الرجل على مسافةٍ قريبة من هموم الجماهير وانشغالات بناء الدولة الوطنية بعيد الاستقلال، ورهانات بناء المجتمع الجديد كما كان يحلم.
يطالعنا المثقف الكبير محمد عابد الجابري بحضوره الهائل واشتباكه المفتوح مع قضايا الفكر والتربية والتعليم والسياسية والثقافة والإمبريالية والنضال الديمقراطي، بحيث برز أقرانه المغاربة والعرب في ميدان اضطلاع المثقف بمسؤولياته وأدواره
وقد كان كثير الاهتمام بتفاصيل العمل الحزبي والنقابي والطلابي بالمغرب، فضلًا عن مساهماته الـمبكرة في ديناميات التحرر العالمي ضد الإمبريالية، وله كفاءة قل نظيرها في مواكبة قضايا إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، إذْ نراه ناشرًا لمقال في نازلة هنا، ومصدرًا لبلاغ في شأن حادثة هناك، مسكونًا بهاجس الحضور الدائم في الصغير والكبير من الملفات، حتى أدى ثمنًا لذلك حياته الغالية.
في سياق آخر شديد الصلة بمهمات أو مسؤوليات المثقف، يطالعنا المثقف الكبير محمد عابد الجابري بحضوره الهائل واشتباكه المفتوح مع قضايا الفكر والتربية والتعليم والسياسية والثقافة والإمبريالية والنضال الديمقراطي، بحيث برز أقرانه المغاربة والعرب في ميدان اضطلاع المثقف بمسؤولياته وأدواره، ولا يزال العالم العربي يحتفظ للجابري بمقامٍ معلوم عنده في طلائع المثقفين الكبار.
فمن خلال مذكراته السياسية والثقافية نقف على حياةٍ عريضة حافلة بالمواقف والإضافات والإسهامات الفذة، جاعلاً من الثقافة ورشًا في معترك السياسة والنضال الوطني، فنراه في ملفات (الصحراء والصراع على السلطة ونضال الطبقات الشعبية ضد الفقر والتهميش والاجتهاد والسلفية الجديدة وحقوق الإنسان وتفجيرات الدار البيضاء وحرب الخليج الأولى والثانية ومسلسل هيئة الإنصاف والمصالحة والتنمية والحرب على العراق وندوات الفكر في المغرب العربي والثورة الإيرانية والعولمة والنظام العالمي الجديد والتطبيع والتراث والحداثة وفكرة اتحاد المغرب العربي والتناوب التوافقي وتجربة الانتقال الديمقراطي في بداية الألفية الحالية، إلخ)، حاضرًا بقوة، ناقدًا ومؤلفًا، ومشاركًا في ندوة وطنية ودولية، معلقًا في الصحف والمجلات الدورية، مدونًا في مقال، إلى ما غير ذلك من الوسائل التي كان الجابري يؤرخ لحضوره من خلالها.
هذا فضلًا عن مئات المقالات السياسية في جريدتي (التحرير) و(المحرر) ما بين 1959 و1974م، ثم في جريدة (الاتحاد الاشتراكي) زمن الثمانينيات وإلى نهاية الألفية، نجده فيها صحفيا متتبعًا لأدق تفاصيل الحياة السياسية المغربية زمن “الإيديولوجيا والسياسة”، أما انشغالاته الفكرية ومضامين كتبه القيمة التي جعل غالبها في متن أهم أعطاب ورهانات وقضايا المغرب والعالم العربي والإسلامي، فحدث ولا حرج.
في الجزائر، وهي تتهيأ للثورة الكبرى نرى المثقف الألمعي مالك بن نبي وقد أحاط بشخصية الشعب الجزائري، وأضحى يختط لنضالاته ضد الاستعمار سبل الفعالية، ويمنح لكتائب الشباب المجاهد آفاقًا تبدد ضباب الاستكبار الفرنسي، ليواجه الحداثة الغازية بشجاعة نادرة مسنودة بثقافةٍ مقاومةٍ متأصلة من روح التاريخ وقيم العقيدة
ونتذكر جانبًا من شد الحبْل وإرخائه، والحرب الثقافية والأدبية التي كانت جمهورية مصر ساحة لها بين كبار كتاب ومثقفي أرض الكنانة، عن قضايا ووجهات نظر ونوازل اجتماعية ومستجدات سياسية، حيث لا تكاد تمر بالأمة أو الوطن أو الدولة (لحظة) إلا وكان لأمثال طه حسين ومحمود عباس العقاد وقاسم أمين والمنفلوطي ومحمود شاكر وتوفيق الحكيم ومحمد الغزالي وغيرهم في فترات لاحقة حضورٌ وتأطير وتأثر وجدالات لا تكاد تنتهي، لكنها تعطي معنى للأفكار والأشياء والأشخاص، وتعبر عن مقدرة المثقف العالية على المواكبة، ورساليته الحية.
وفي الجزائر، وهي تتهيأ للثورة الكبرى نرى المثقف الألمعي مالك بن نبي وقد أحاط بشخصية الشعب الجزائري، وأضحى يختط لنضالاته ضد الاستعمار سبل الفعالية، ويمنح لكتائب الشباب المجاهد آفاقًا تبدد ضباب الاستكبار الفرنسي، ليواجه الحداثة الغازية بشجاعة نادرة مسنودة بثقافةٍ مقاومةٍ متأصلة من روح التاريخ وقيم العقيدة.
وبعينٍ مراقـبةٍ لكل حركة تمهيدية للثورة الجزائرية المجيدة، ولتعديل المبادرات الوطنية بما يتفق مع فعالية الكفاح في مختلف الصعد، وضع كتابه (في مهب المعركة، إرهاصات الـثورة)، وصار على ذات المنوال متجاوبًا مع أسئلة جيل ما بعد الاستقلال السياسي، ومنخرطًا في برنامج النهوض العربي، ومعالجًا إشكالات النهضة ومبصرًا العرب بوجهة التاريخ الجديد، ومتابعًا لكل طارئ ومتـغيرٍ في الفضاء العربي في كتبه الأخرى المعروفة اليوم لدى القاصي والداني.
ومن بلاد فارس، افتك المثقف الشاب الآخذ بناصية العلوم الاجتماعية والمهارة التحليلية والذكاء الفياض والنبوغ الفكري والصفاء الروحي المناضل الأستاذ علي شريعتي، مسارًا فريدًا في التدليل على قدرة المفكر على الإنتاج الـملتزم بقضايا الأوطان والعمران والإنسان، جبنًا إلى جنب مع النضال الميداني لفائدة الـمضطهدين في الأرض، والحضور الواعي في بوتقة الهموم الاجتماعية لعالم ثالثي منهوب ومقهور.
وقد جاء معظم إرثه الشفهي الـمسجل وإنتاجه الكتابي الـمدون صرخةً ضد الظلم والاستبداد والاستحمار والاستعمار، وقرْصًا منبهًا لمكامن المرض في جسم الأمة العليلة، ومادة عارفة بالحالة الروحية لأجيال الشباب ولظروفهم، ونصوصًا مدركة للحاجة إلى الدين المتطابق مع الزمان، وحاجة المجتمع لوجود قاعدة دينية، وحاجة لتحقق هاتين الحاجتين لدى جيل الشباب.
هؤلاء وغيرهم الذين كانوا يحجون إلى مجالسه العلمية بـ”النادي الحسيني للإرشاد” في طهران بعدد يناهز 6000 طالب وطالبة جامعيين أو متخرجين، فانساحوا في الأرض حاملين بذور اليقظة والفكر النضالي الذي أثْــروا به الثورة الإيرانية في مرحلة لاحقة.
إن الكثافة الإصلاحية التي تميز بها علي شريعتي – رحمه الله – جعلت منه رمزًا ثقافيًا صلبًا ومثقفًا بشرعية تاريخية واجتماعية كبيرة، وتقديرًا خارج حدود إيران لدوره وجهوده كمصلح مثقفٍ منخرط في قضايا الجماهير ومتشبع بفن التفكير في الإنسانية.
وتبقى إصدارته العديدة وفي طليعتها كتابه القيم (النباهة والاستحمار)، إضافة إلى (مسؤولية المرأة) و(بناء الذات الثورة) و(العودة إلى الذات) و(سيماء محمد) و(مسؤولية الـمـثقف)، أثْمن باقةٍ من العلم العالم والعامل، الـمؤثر والـحاضر، الذي لا تزال امتدادت أثره بادية لحد الآن.
قضايا يتيمة ولا مثقف لها
من هذه السياحة العجْلى غير الـمعززة بأمثلة من واقع نماذج القضايا والإشكالات والمستجدات التي كانت مـثار تفاعل الـمثقف العربي، أردنا الخلاص إلى تسجيل ملاحظة بخصوص ما تشهده الساحة العربية من غياب المثقف أو تقاعسه – لأسباب ذاتية أو موضوعية – عن أبرز ملفاتها ومستجداتها، حتى أضحت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي الأسرع تجاوبًا ونقلًا وتفاعلا.
نتيجة لأسباب تاريخية فلا نكاد نلمس حضورًا لمثقفي اليوم – المعتبرين – فيها، فلا نشهد تلكم السجالات التي كانت تعقب نكبة 1948 أو نكسة 1967، ولا الحضور التحليلي القوي للمثقفين كما تابعناه عقب حرب الخليج 1991م، وأحداث سبتمبر 2001م، والحرب على العراق، والربيع الديمقراطي العربي 2011م
أحداث مهمة تجود بها المنطقة من حين لآخر، إما اصطناعًا من أطرافٍ معينة أو نتيجة لأسباب تاريخية فلا نكاد نلمس حضورًا لمثقفي اليوم – المعتبرين – فيها، فلا نشهد تلكم السجالات التي كانت تعقب نكبة 1948 أو نكسة 1967، ولا الحضور التحليلي القوي للمثقفين كما تابعناه عقب حرب الخليج 1991م، وأحداث سبتمبر 2001م، والحرب على العراق، والربيع الديمقراطي العربي 2011م.
في حين كانت شهادات وإضاءات محمد عابد الجابري تأريخًا لما فات تأريخه، تعرفنا من خلالها على أحداث وقضايا ومبادرات ومقالات كتبت في عز حرارة اللحظة العربية وسجالات حمي وطيسها عقب تلكم الأحداث، وأطروحات دبجت بحثًا عن جواب فكري وعملي عن “الأزمات”، ما كنا لنحصل معطيات عنها دونما البحث الـمضني في طيات عشرات الجرائد والمجلات المغربية والعربية، والندوات الـمتلْفزة والحوارات الـمسجلة وكتب التاريخ والفكر.
أما اليوم، فوقوفًا عند أزمة الخليج الراهنة يبين لك بالملموس ضمور المثقف العربي الوازن من الفضاء العمومي وقضاياه، وفي المتن منه مستجد الأزمة الخليجية الـمفتعلة، بحيث تصبحنا وتمسينا مقالات صحافية مجازفة، أو تقارير مراكز بحثية تتحرى الموضوعية، أو أعمدة رأي لـكتبة هواة ينقشون اسمهم في جدار الحضور عبر تحليلاتٍ تنتظر مرور الزمن الحار لتتجمع لديها المعطيات علها تكتب ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
أما الجرأة والعمق والاستثناء في التحليل والبراعة في التعليق والإقناع في الحوار والجدة في الطرح والقبْض على جمر الحرف والاعتكاف في محراب الكتابة لإنتاج أطروحات على غرار (الإيديولوجيا العربية الـمعاصرة) و(العرب والفكر التاريخي) و(الحركات الاستقلالية في المغرب العربي) و(إشكاليات الفكر العربي الـمعاصر) و(نقد العقل العربي) و(شروط النهضة) و(الدولة والدين)، ففي خـبـر “كان”.
وقل نفس هذا القول عن أحداث أخرى تغلي بها المنطقة العربية وقضايا راهنة، من حراك الريف الأبي إلى مآسي السنة البْـلوش في إيران، المجاعة في الصومال والقرن الإفريقي، كوارث التطهير العرقي الجارية في إفريقيا الوسطى، معارك الاستنزاف الطائفي في البحرين، تهديدات داعش الـمجرمة لشبابنا وبناتنا، تحدي السياسة التوسعية الصهيو – أمريكية في الشرق الأوسط، مخاطر الانفصال في المالي، فظائع الترويع في سوريا، فضائح تهويد المقدسات في فلسطين، معاناة مسلمي الإيجور بين مطرقة الشيوعية وسندان التـشيع، وغـيرها من القضايا التي إنْ افتقدت للمثقف، فهل يكفيها السياسي، وهذا ربيب ذاك وتلميذه؟