“ما بعد إسرائيل”.. لست أول من نطق العبارة، فقد صارت حديث الآملين خيرًا في كل الرقعة العربية، إلا القليل من الخائفين من كل تغيير. يوجد عالم ممكن بعد زوال الكيان من الخريطة. وهل يزول؟ يقول الخائفون، نعم؛ تقول المقاومة ويأمل أنصارها.
يمكن إعادة بناء صورة للعالم وضمنه صورة للمنطقة العربية ليست تحت الاحتلال الكريه لقطعة عزيزة على النفوس من أرض العرب. كيف ومتى ما زالت الإجابات عن أسئلة مثل هذه مبكّرة أو عسيرة على التخيُّل، لكن من كان يظن أن يصيب العدو ما أصابه في غزة بفعل “طوفان الأقصى”، على يد فئة قليلة تسلحت بالإيمان والأمل وضربت عدوها فأثخنت وتستعدّ للحسم.
ماذا يكون بعد “إسرائيل”؟ دولة فلسطينية لشعب يملك كل مقومات الدولة إلا جهازها الإداري؟ وعرب أحرار مستقلون لا يفاوضون على بقائهم تحت الحد الأدنى من شروط الحياة الإنسانية؟ دعونا نحلم، فقد منحتنا المقاومة الظافرة فرصة للحلم.
سبق أن اندحر الصليبيون
لكل محبط نقول لقد خضعت المنطقة لاحتلال سابق وتحررت، مكث الصليبيون بها قرنَين من الزمان، وانتهى زمنهم باندحار كامل، وعاش فيها أهلها أحرارًا، وما حدث مرة في التاريخ يصير قابلًا للحدوث دومًا، فقانون التحرر بالإرادة أقوى.
الصليبية أيضًا كانت دعوة دينية، ومارست القتل باسم المسيح، ولا يختلف الاحتلال الصهيوني عن الصليبي إلا في الذريعة الدينية، حيث تشابُه كثير في الوقائع والمآلات، وتطابُق في الفاعلين نراه حتى الآن بكل وضوح.
ولكل آمل نقول انظر ترى، مجرد اختلاف طفيف في الأسماء والوسائل المتاحة. ألا ترى التطابق بين المنجنيق وصورايخ القسام؟ ألا ترى التطابق بين جند القسام والجهاد وبين جند صلاح الدين؟ ألا ترى العزيمة واحدة والهدف واحدًا والقلوب كأنها قُدّت من نفس الخلية؟ لذلك نرى استقلال فلسطين، كل فلسطين، بدءًا من معركة الطوفان، دون إنكار الممهّدات التي سبقتها، ومن ذلك إبقاء القضية حية لا تموت في القلوب.
وفي العقول مسار كامل عرفَ تعثرات واخترقه ضعاف النفوس في محطات كثيرة، لكنه لم يهن ولم يتراجع ولم يفقد الأمل، وها هو ينفّذ مرحلة متقدمة على طريق التحرر والاستقلال من البحر إلى النهر، ثم يكون هناك عرب أحرار غير مكسوري الجناح بفعل قوة عدو اخترق دولهم ونخبهم، فحوّلهم إلى كتل بشرية مغلوبة على أمرها ومستسلمة لأقدار لم تصنعها، إنما فُصّلت لها تفصيلًا. وعلى ماذا نبني كل هذه الأحلام غير الواقعية حتى الآن؟
الحلم داخل الواقعية
من الواقعية السياسية والأدبية أن نرى المراحل الطويلة المتبقية في طريق الاستقلال التام، هناك صفّ سياسي فلسطيني غير متوافق على إدارة بلد موحّد، ويعاني من تمزقات أيديولوجية موروثة من مرحلة ما قبل الطوفان (وهي تمزقات بتأثير صهيوني مباشر)، ويوجد محيط عربي كاره لنفسه، كاره لأي انتصار حتى لو لم يدفع فيه دمًا، وهذا الصف العربي (وفيه أنظمة ونخب وجمهور مريض باليأس والإحباط) مرعوب من احتمال الانتصار الغزاوي في الطوفان.
ولذلك نتوقع أنه لن يتوانى عن كسر كل آمال عربي شعبي يعلَّق عليه، ويوجد محيط دولي معادٍ ورافض لفكرة الفلسطيني ووجوده، بله التعامل معه كبشر صاحب حق، وكل هذه الصفوف هم أعداء مؤجلون/ متربصون إلى ما بعد الطوفان، أي معارك قادمة للمقاتل المنتصر في غزة، والعسير في أمرها أنها لا تحتاج قتالًا مسلحًا بل معارك سياسية طويلة النفس، ورغم هذا نتفاءل؟
نعم لقد ربح المقاتل المعركة الأهم، لقد كسر إرادة العدو وأدخل الشك إلى عقله وإلى قلبه، ودفعه إلى التفكير في مصيره المجهول إذا فقد سلاحه وقد فقد عسكره. نتفق هنا مع تحليلات كثيرة ترى الفضيحة العسكرية التي ظل يخفيها جيش عدواني وقاتل، لكنه جبان ولا يصبر على الحرب.
لم تشفع له مدة الحرب ليحسم، ولم تشفع له الأسلحة، ولم يشفع له حلفاء مدجّجون نزلوا بثقلهم إلى جانبه، فخاب وخيّب أمل شعبه في الأمن، مثلما خيّب أمل الحلفاء الذين ظنوا به قدرة لا تهزم، فانكشف عن كتلة خائفة، ولعلهم الآن يتساءلون على من سيعتمدون مستقبلًا في إدامة وضع ما قبل الطوفان.
هنا حدث الشرخ الأكبر، وانتقل الرعب والشعور بالعجز والهزيمة من صف المقاتل وسنده الشعبي الفلسطيني والعربي إلى العدو وحلفائه، وفيهم أنظمة عربية مستعدة لدفع المال والعتاد، ليظل العدو واقفًا يخيف الشعوب العربية.
لقد سقط الخوف في غزة وهو يتلاشي في أماكن كثيرة لم تسفر بعد عن وجهها، لكن الشعور العام المسيطر هو أن هزيمة العدو ممكنة، وهي تجري بقوة، وأن النصر بعدها ممكن، وهو يتقدم بقوة لم يتوقعها إلا المقاتل الغزاوي الذي قدّر وعمل، فانتصر بكسر العدو كسورًا واقعية محسوسة ومنظورة، وكسورًا نفسية غير قابلة للجبر والترميم، على هذا يبنى حديث المستقبل، أي حديث تحرير واستقلال الفلسطيني في أرضه والعربي في قطره.
توجد حياة بعد “إسرائيل”
هذه الجملة التي يجب أن يرددها كل فلسطيني وعربي بعد الطوفان، هذه هي صلاة المنتصرين في غزة وما حولها، حتى إجبار العدو (في مرحلة أولى) على تعايش عقلاني ينتهي حتمًا بهروب عقلاني، فمن الحكمة ألا يواجه المحتلون (وقد انهزموا) أصحاب الأرض (وقد انتصروا).
بعد الذي أصابهم في غزة لا نرى إلا أفواج الراحلين كمقدمة على جلاء كبير بدأ وسيتضاعف ويتّسع، حتى يصبح أمل الخروج من فلسطين أمل كل مستوطن، ولقد قرأنا لعبد الوهاب المسيري، طيّب الله ثراه، قولًا حكيمًا فيه أن ارتفاع كلفة العدو على حماته ستجعلهم ينفضون أيديهم منه، والبحث عن بديل ضمن سياسات بديلة نراها تسطر الآن في غزة.
لقد رفعت غزة الطوفان كلفة العدو على حماته، فهم منذ شهرَين يصبّون له الأسلحة صبًّا، ويرفدونه بالرجال والاستخبار فيفشلون جميعهم، ولا نخال إلا كواليس السياسة الآن تعجّ بالباحثين عن مخرج من مستنقع غزة العطر بأرواح الشهداء.
ونختم بانتظار صورة قيادة العدو الأكبر في الدوحة مع قيادة حماس، يضعان شروط السلام الدائم مع صاحب الأرض، تمامًا كما جلسوا إلى طاولة قيادة طالبان. في انتظار تلك الصورة نحصي المثلثات الحمراء والصفراء، وندعو بالتوفيق وسداد الرمي ولو خرجنا عن شكليات التحليل الموضوعي.