ترجمة وتحرير نون بوست
من منا لا يريد عالما يكون كل ما يتفاعل معه قد صمم خصيصا من أجله؟ في الواقع، أدى بروز البيانات الضخمة والتعلم الآلي إلى الرقي بنا إلى مرحلة تتحقق فيها هذه الرؤية وفقا لوتيرة سريعة وبشكل لا يصدق. وفي الأثناء، تدعم هذه الرؤية قدرتنا على التقاط وتخزين كل المعطيات الخاصة بنا، انطلاقا من ضربات المفاتيح على أجهزة الكمبيوتر وصولا إلى التسلسل الجيني والحمض النووي الخاص بنا.
من هذا المنطلق، أدى ما سبق ذكره إلى بروز الطب المشخصن الذي ينتقي الإجراءات التي تتلاءم مع كيمياء أجسامنا المميزة. بالإضافة إلى ذلك، ظهرت الإعلانات المشخصنة التي تجسد العلامة التجارية لبنطال الجينز الذي يناسبنا بشكل أفضل، وحتى التعلم، وقعت شخصنته حسب احتياجاتنا الفردية.
في واقع الأمر، يكمن الهدف الرئيسي وراء التعلم المشخصن في توفير بيئات وتوجيهات التعلم تكون ذات مغزى للمتعلم كبديل عن منهج “النموذج الواحد الذي يناسب الجميع” الذي يتعاطى من خلاله كافة الأشخاص مع المادة ذاتها في الوقت ذاته في قاعة الدرس. خلافا لذلك، يشمل مصطلح “المشخصن”، مجموعة كبيرة من الأساليب والإستراتيجيات التي تحمل مفاهيم مختلفة لمجتمعات مختلفة ما يجعل الفهم الدقيق لكيفية تنفيذ هذا المنهج أمرا محيرا.
عموما، ترتبط بعض هذه المقاربات بالتعلم القائم على الفائدة، حيث تتم شخصنة التدريس من خلال السماح للطالب باختيار المشاريع والمعضلات التي تحفزه سواء في مجال الكيمياء المتعلقة بالنشاط البيئي أو الفيزياء الخاصة بالقفز بالمظلة. وتقوم بعض المقاربات الأخرى بإنشاء مجتمعات للتعلم، حيث تعمد إلى تكوين مجموعة عمل صغيرة وخلق فرص للمعلمين للمشاركة بشكل معمق في فهم احتياجات طلابهم التعليمية.
باعتبارها بديلا عن الأساليب التقليدية، تخاطب مقاربات القرن الواحد العشرين لشخصنة التعليم الحالة المعرفية والتحفيزية للمتعلم. والجدير بالذكر أن هذه المقاربات لا يمكن تحقيقها إلا بفضل تدفقات البيانات التي يتم توليدها في إطار إشراك المتعلمين بشكل متزايد في أنشطة التعلم عبر شبكة الإنترنت. فضلا عن ذلك، تقوم المقاربات على مبدأ أن التعلم ينتج من خلال القيام بجملة من النشاطات بدل الاستماع السلبي للمعلومة. وبالتالي، تركز هذه المقاربات على التعاطي بشكل مباشر مع المشاكل المهمة في مجال ما.
يكشف الذكاء الاصطناعي نقاط القوة والضعف لكل متعلم ومن ثم يوظفها
تعتمد أنظمة التعلم المشخصنة على الذكاء الاصطناعي الذي يقوم يخلق نموذج يجسد معرفة الطالب بهدف تقييم الوضعية الحالية للمتعلم بشكل فردي ومن ثم يوفر إرشادات تستهدف تلك الوضعية، ويحدث ذلك على مرحلتين. خلال المرحلة الأولى، وفي الوقت الذي يعمل فيه المتعلم على حل معضلة ما، تكشف أنظمة التعلم المشخصنة المفاهيم الخاطئة والشائعة التي تعترض المتعلم عند أي خطوة على طريق التعلم. ومن هذا المنطلق، يصبح النظام قادرا على تقديم الملاحظات والدعم الذي يتعلق غالبا بالمسألة التي يعمل عليها الطالب.
فعلى سبيل المثال، وعند العمل على مشكلة جمع الكسور، قد يخلط الشخص بين المقام والبسط. أما نظام التعلم المشخصن الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي، بإمكانه كشف هذا الخلط ومد الطلبة بالملاحظات والتوجيهات اللازمة التي من شأنها أن تقودهم إلى استيعاب مفاهيم البسط والمقام، مما سيساعدهم تبعا على إتمام المهمة. وتتمثل المرحلة الثانية في صلب هذه الأنظمة في اختيار المواد المناسبة للطالب في إطار العمل وفقا لما يعرفه المتعلم وما يجهله. وفي هذا الإطار، عادة ما يتم تجزئة مجالات التعلم إلى عناصر مختلفة وصولا إلى المهارات الأساسية في كل مجال.
وبناء على ذلك، يصبح الطلبة قادرين على التركيز على تنمية المهارات التي يفتقرون إليها والتي يحتاجونها بشكل مطرد في مسيرتهم الدراسية. وعلى سبيل المثال، قد يثبت ذات المتعلم فهمه لجمع الكسور ولكن فقط حين يكون المقام نفسه وبالتالي يقوم هذا النظام خصيصا باستهداف ممارسة عمليات الكسر التي تشمل مقامات مختلفة بالنسبة لذلك المتعلم.
ينمي التعلم المشخصن من حجم انخراط المربي
في الوقت الذي تعتمد فيه هذه الأنظمة على تجميع تدفقات البيانات الرقمية، حين يكون الطلاب بصدد العمل على جهاز الكمبيوتر، فإنها مصممة خصيصا للعمل ضمن البيئة الطبيعية للفصل الدراسي. وفي هذا السياق، من الممكن يتكفل المربي بتقديم الدروس في الفصل على امتداد ثلاثة أيام في الأسبوع فيما يعمل الطلاب على أجهزة الكمبيوتر خلال اليومين الآخرين، مما يسمح للمعلم بتجنب أكبر مشكلة قد تواجهه، أي أن يضطر إلى بذل مجهود إضافي للتركيز على النهوض بالمستوى “المتوسط” للصف.
عوضا عن ذلك، يستطيع الطلاب المتفوقون، الذين غالبا ما يشعرون بالملل أثناء متابعتهم الدرس في الصف، المضي قدما حسب وتيرتهم الخاصة والانخراط أكثر مع المواد المقدمة لهم. أما الطلاب الذين يكافحون لمواكبة وتيرة الدروس، سيحظون بفرصة الحصول على مساعدة شخصية في إطار نظام التعليم المشخصن. والأهم من كل ذلك، سيتحرر المربي من القيود التي تفرض عليه مجانسة طريقة تدريسه، وبالتالي سيتمكن توظيف آليات الفصل الدراسي لتقديم مساعدة إضافية موجهة بشكل خاص للطلبة الذين هم في أمس الحاجة لها.
في الواقع، تم إثبات نجاعة هذه الأنظمة بالنسبة للطلبة من خلال العديد من الدراسات، حيث ساهمت في تطوير قدرتهم على التمكن بشكل فعلي من المحتوى المقدم لهم. علاوة على ذلك، أظهرت بعض الدراسات أن أنظمة التعلم المشخصنة تتسم بفاعليتها خاصة بالنسبة للطلاب الذين هم في أمس الحاجة إليها والذين قد يناضلون من أجل مواكبة أقرانهم في ظل غياب أنظمة شبيهة بها. والجدير بالذكر أن أحدث الأعمال في هذا المجال قد أضافت ميزات أخرى من شأنها تحسين سبل التعلم على غرار العميل الافتراضي الذي يحفز الطلاب ويدعمهم من أجل الحصول على مساعدة أفضل.
في حين أن فكرة هذه الأنظمة والتنفيذ الأولي لها كان موجودا منذ حوالي ربع قرن، إلا أن اللحظة المناسبة لتطبيقها يبدو أنها قد حانت في عصرنا الحالي. ويعزى ذلك إلى التقدم الذي يشهده التعلم المعمق، والنمذجة الإدراكية، والأجهزة التي ما فتئت تتطور يوما بعد يوم. وبالتالي، أصبح عصر التعلم المشخصن بمثابة مسؤولية تقع على عاتقنا.
المصدر: بولد