ترجمة وتحرير: نون بوست
في 12 كانون الأول/ ديسمبر، وبّخ الرئيس الأمريكي جو بايدن إسرائيل علنًا بسبب حربها الجوية في قطاع غزة قائلًا “لقد بدأوا يفقدون دعم العالم بسبب القصف العشوائي الذي يحدث”، وهو ما يعكس نفاد صبره بشكل متزايد. وتُقدّر وكالات الاستخبارات الأمريكية أن ما بين 40 إلى 45 بالمئة من الغارات الجوية الإسرائيلية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر استخدمت قنابل غير موجهة أو “غبية” على عكس الذخائر الموجهة بدقة أو القنابل “الذكية”، وذلك وفقًا لتقارير نشرتها شبكة “سي إن إن” لأول مرة. ولكن ماذا يكشف هذا الرقم؟
ظهرت القنابل الذكية الموجهة بالليزر لأول مرة في حرب فيتنام وتطوّرت في التسعينات عندما اخترعت الولايات المتحدة ذخيرة الهجوم المباشر المشترك، وهي مجموعة أدوات توجيه بنظام “جي بي إس” يمكن ربطها بالقنابل الغبيّة العادية. في حرب الخليج الأولى ضد العراق سنة 1991، كانت ستة بالمئة فقط من القنابل الأمريكية عبارة عن صواريخ موجّهة (انظر الرسم البياني). وعندما قصفت صربيا سنة 1999 ارتفعت النسبة إلى 29 بالمئة. بحلول الحرب الأفغانية في سنة 2001، بلغت النسبة 57 بالمئة – وهو نفس المعدل في إسرائيل اليوم – و68 بالمئة بحلول حرب العراق الثانية في سنة 2003.
إن استخدام إسرائيل لهذا العدد الكبير من القنابل الغبية أمر يثير الدهشة. ولا تزال روسيا تستخدم الكثير، حيث يُعتقد أن حوالي 95 بالمئة من الصواريخ التي أسقطتها على شمال سوريا في سنة 2015 كانت غير موجهة. ولكن الولايات المتحدة وحلفاءها نادرًا ما يستخدمون الذخائر غير الموجّهة حاليًا. وكانت جميع القنابل التي أسقطها حلف شمال الأطلسي على ليبيا في سنة 2011 تقريبًا من طراز “بي جي إم”. وكذلك كان الأمر بالنسبة لنحو 90 بالمئة من القنابل التي استخدمتها إسرائيل في الأسبوعين الأولين من الحرب.
قال مارك غارلاسكو، خبير الأسلحة السابق في البنتاغون الذي يعمل حاليًا في منظمة باكس الهولندية غير الحكومية التي تركز على حماية المدنيين، إن الرقم الإسرائيلي “صادم”. وربما كانت المرة الأخيرة التي ألقت فيها الولايات المتحدة أسلحة غير موجهة على مناطق مأهولة بالسكان قبل أكثر من عشرين سنة باستخدام القنابل العنقودية على مشارف بغداد. وأورد غارلاسكو أن انخفاض دقة القنابل غير الموجهة وتأثيرها على منطقة واسعة قد يُفسّر سبب ارتفاع عدد القتلى في غزة.
عمومًا تعد أجهزة “بي جي إم” أكثر دقة وبالتالي أكثر كفاءة. وقد أظهرت الدراسات التي أجرِيت في حرب الخليج الأولى أنه بالنسبة للعديد من الأهداف، حلّ طن واحد من الصواريخ الموجهة محل 12 إلى 20 طنا من الذخائر غير الموجهة. وفي فيتنام، استغرق الأمر حوالي 30 رحلة جوية لتدمير هدف واحد. وفي العراق سنة 2003، كان بإمكان رحلة جوية واحدة أن تصيب ما يصل إلى 16 هدفًا مختلفًا.
مع ذلك، ربما يكون هناك سببان وراء استخدام إسرائيل للقنابل الغبية. أولاً، تعني ظروف القتال في غزة أنها قد تكون قادرة على ضرب أهداف معينة باستخدام ذخائر غير موجهة بشكل فعال. وقال مسؤول أمريكي لشبكة “سي إن إن” إن القوات الجوية الإسرائيلية كانت تستخدم القصف الانقضاضي – حيث يتم إطلاق القذائف بعد هبوط حاد – مما يجعل هجماتها أكثر دقة.
أوضح إدوارد سترينجر، المارشال الجوي المتقاعد في سلاح الجو الملكي، أن هذا التكتيك كان في السابق تكتيكًا روتينيًا استخدمته طائرات جاغوار البريطانية للهجوم الأرضي في حرب الخليج الأولى “إذا كان لديك هدف في منطقة صغيرة، فهذا هجوم صحيح مثل إسقاط قنبلة موجهة بالليزر. بدقة في حدود 20 إلى 30 قدمًا”. ووفقًا لأشخاص مطلعين على الاستهداف، فإنه يتم إسقاط غالبية القنابل الإسرائيلية غير الموجهة على مداخل أنفاق حماس في شمال غزة.
وفي تقرير نشرته السنة الماضية عملية العزم الصلب، التحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة، الذي يقصف العراق وسوريا منذ ما يقارب عقدًا من الزمن، قُدّمت نفس الحجة في تفسير سبب استخدام القوات الجوية العراقية للقنابل الغبية، وهو أن استخدام القنابل غير الموجهة بشكل صحيح أرخص من استخدام القنابل المزودة بمعدات توجيه باهظة الثمن، مع تحقيق نفس التأثير.
في تلك الحملة، أسقطت الولايات المتحدة أحيانًا قنابل غير موجهة ظاهريًا على الطرق المشتعلة، لتقييد تحركات الجهاديين، ولكن في الواقع لرفع معنويات الجنود العراقيين الذين ابتهجوا بأدلة الدعم الجوي، على حد تعبير ستيسي بيتيجون من مركز الأمن الأمريكي الجديد في الولايات المتحدة.
يتم تسليم كل نوع من الذخيرة بطريقة مختلفة. تكون القنابل الذكية أكثر دقة عندما يتم إسقاطها على ارتفاع 15 ألف إلى 23 ألف قدم، مما يمنح أجنحة التوجيه الخاصة بها وقتًا كافيًا لتصحيح هدفها، وذلك كما يشير فيليب ميلينجر، العميد السابق لكلية دراسات القوة الجوية المتقدمة في الجامعة الجوية التابعة للقوات الجوية الأمريكية في ألاباما. ويجب إسقاط القنابل الغبية من ارتفاع أقل بكثير أي حوالي 5000 قدم.
هذا من شأنه عادة أن يضع الطائرات في نطاق صواريخ أرض جو، لكن حماس لا تملك قدرة كبيرة على الدفاع الجوي. والجدير بالذكر أن حماس سبق أن استخدمت صواريخ “ستريلا-2” أو “إس أي-7” سوفيتية الصنع التي تطلق من الكتف التي تعود للسبعينات، لكن سقفها منخفض نسبيًا. وبما أن عرض قطاع غزة لا يكاد يصل إلى بضعة أميال، فإن الطائرات الإسرائيلية لا تنكشف إلا لبضع ثوان، وهو وقت غير كافٍ للمدافعين لتحديد الهدف وإطلاقه، لذلك يشعر الطيارون الإسرائيليون بالأمان عند إطلاق القنابل.
ربما لا يكون استخدام إسرائيل للأسلحة غير الموجهة هو السبب الرئيسي وراء ارتفاع عدد الضحايا. والأرجح أن إسرائيل تضرب في الأغلب الأهداف التي تريد ضربها، بما في ذلك بالقنابل دقيقة التوجيه، ولكنها تتسامح مع مستوى عالٍ من الأذى الذي يلحق بالمدنيين في هذه العملية، غير أن استخدام القنابل غير الموجهة قد يكون عاملا مساهما. من المرجح أن يهبط الصاروخ بشكل مباشر في وسط المنطقة المستهدفة، كما يعترف سترينج، وسوف تستقر القنبلة الغبية التي تم إطلاقها في مكان ما هناك. وقالت إميلي تريب، مديرة شركة “إيروارز” التي تتعقب الضرر الذي يلحق بالمدنيين في الحرب، إن “الفرق بين 20 و30 قدمًا كبير عندما يتعلق الأمر بالمدنيين الذين يعيشون في هذه المنطقة”.
وخلص أحدث تحليل أجرته مجلة “الإيكونوميست” عبر الأقمار الصناعية إلى أن حوالي 43 ألف مبنى في غزة (16 بالمئة من المجموع) قد تضررت وأن ما لا يقل عن 450 ألف شخص (20 بالمئة من السكان) أصبحوا الآن بلا مأوى. وأوضح غارلاسكو “على الرغم من أنني متأكد من أن بعض القنابل قد تم إسقاطها بهذه الدقة التامة، إلا أن لدي تحفظات شديدة حول هذا الاستخدام واسع النطاق لهذا التكتيك. وعلى الرغم من أن الجيوش الأمريكية والغربية تتدرب على هذا المعيار، إلا أن هناك سببًا لاستخدام صواريخ موجهة”.
مع ذلك، هناك نقص في المعروض من الصواريخ الموجهة. هذا يوصلنا إلى السبب الثاني المحتمل لاختيارات إسرائيل للأسلحة. في الحرب الليبية، استنفدت العديد من دول الناتو بسرعة مخزونها الصغير واضطرت إلى اللجوء إلى الولايات المتحدة. وفي سنة 2015، بعد مرور 15 شهرًا وإلقاء 20 ألف قنبلة على الحملة ضدها، اعترف قائد القوات الجوية الأمريكية بأن قواته “تنفق الذخائر بشكل أسرع مما يمكننا تجديده”. وبعد مرور سنة، تم إسقاط مجموعات الصواريخ الموجهة في غضون 48 ساعة من خروجها من خط الإنتاج في ولاية ميسوري.
نظريًا، يجب أن يكون لدى إسرائيل الكثير من الاحتياطيات. وقد اشترت ما قيمته حوالي 1.9 مليار دولار من الصواريخ الموجهة من شركات أمريكية منذ سنة 2015، بما في ذلك 14.500 مجموعة من صواريخ “بي جي إم” وآلاف الصواريخ الموجهة بالليزر. ومنذ السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر، أرسلت الولايات المتحدة ما لا يقل عن 15 ألف قنبلة إلى إسرائيل، بما في ذلك ما يقدر بنحو 3000 قنبلة. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر، أخبر بايدن الكونغرس أنه يعتزم إرسال قذائف “سبايس” بقيمة 320 مليون دولار، والتي تشبه قنابل “جدام” الذكية.
لكن الحملة الجوية الإسرائيلية كانت شرسة على نحو غير عادي. وتفيد التقارير بأنه تم إسقاط 29 ألف ذخيرة إجمالا. ويعادل هذا تقريبا العدد الذي ألقته الولايات المتحدة وبريطانيا على العراق بأكمله في الشهر الأول من الحرب سنة 2003، وهوما يقل قليلاً عن 500 قنبلة يوميا.
وحسب تريب “لا يزال هذا أعلى بكثير مما رأيناه في أي صراع آخر، على الأقل في العشرين سنة الماضية”، مضيفة أن هذا يشمل الحرب الجوية الروسية في شمال سوريا منذ سنة 2015. وإذا كانت الاستخبارات الأمريكية صادقة، فإن إسرائيل ستكون قد استهلكت حوالي 16 ألف إلى 17 ألف جزءًا من صواريخ “بي جي إم”.
لا تنفد مخزونات إسرائيل بالضرورة من الذخيرة. ويشعر العديد من المسؤولين الإسرائيليين بالقلق من أن حربا أكبر تلوح في الأفق مع حزب الله، الجماعة المسلحة اللبنانية. كما هددت إسرائيل بضرب الحوثيين في اليمن، وهم جماعة مسلحة أخرى متحالفة مع إيران تطلق صواريخ باليستية باتجاه إسرائيل. وتتمتع هذه الجماعات، إلى جانب إيران، بإمكانية الوصول إلى أنظمة دفاع جوي أكثر تطورا من تلك التي تمتلكها حماس، وهي قادرة على ضرب أهداف أبعد وأعلى. وربما تريد القوات الجوية الإسرائيلية الحفاظ على مخزونها من القنابل الذكية لهؤلاء الأعداء الذين يتمتعون بحماية أفضل.
المصدر: الإيكونوميست