يخرج رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي هرتسي هاليفي، ليصف ما جرى من قتل جنوده 3 أسرى إسرائيليين في غزة “عن طريق الخطأ”، بأنه حدث مؤلم وصعب للغاية، وفي حادث آخر يقول قائد لواء جولاني -لواء النخبة- في جيش الاحتلال، إن ما جرى في الشجاعية في قطاع غزة حدث صعب، وقد أعلن الاحتلال مقتل 8 جنود في تلك المعركة.
ومن تصريحات أننا “ندفع ثمنًا في الحرب” على لسان رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو وأعضاء مجلس الحرب، إلى إدلاءات أخرى تتحدث عن صعوبة المشهد، ومع ذلك لم تتوافق هذه التصريحات مع حجم القتلى المعلن عنه في صفوف جنود الاحتلال الإسرائيلي، الذي يعمد الإعلان عن قتيلَين بمعدل يومي، ويزيد الأعداد المعلنة تبعًا لإعلانات كتائب القسام عن الأعداد، ليحافظ على هامش مصداقية أمام جمهوره.
وليس الأمر أن الاحتلال لا يُصاب في مقتل خلال العملية البرية في قطاع غزة، والذي أعلن، حتى لحظة كتابة التقرير، عن مقتل 127 من ضباطه وجنوده في 58 يومًا من العملية البرية، لكن مرجع الأمر يعود إلى الرقابة العسكرية، التي تفرض منع نشر المعلومات المتعلقة بـ”أمن الدولة” إلى وفق ما تسمح به، وفق رؤيتها في تدرُّج إعلانات مقتل الجنود بجنديَّين يوميًّا، للحدّ من ضغط الجبهة الداخلية للاحتلال الإسرائيلي الواقفة على شفا حفرة من الانفجار في الحكومة.
الرقابة العسكرية تحكم القبضة على الإعلام
مع النكبة الفلسطينية وإعلان دولة الاحتلال عام 1948، ورثت “إسرائيل” الرقابة العسكرية عن الانتداب البريطاني وضمّتها إلى شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، ومارست الرقابة العسكرية الإسرائيلية عملها في رقابة وإدارة ما يصدر عن مؤسسات الإعلام العبرية، ذلك استمرارًا لهيئة الرقابة على الصحف التي أسّسها الانتداب البريطاني في فلسطين، واستنادًا إلى أنظمة الدفاع لساعات الطوارئ من عام 1945.
ومنذ عام 1996، نظّم اتفاق عمل الرقابة العسكرية بين جيش الاحتلال و”لجنة المحررين” في الإعلام العبري، ويعيِّن وزير أمن الاحتلال رئيسها المعروف باسم “الرقيب العسكري”، الذي يعمل باستقلالية عن الجيش والحكومة، لمراقبة ما تنشره الصحافة العبرية وتعديل أو منع نشر المواد التي يرى أنها “تهدد الأمن القومي”.
ويجوز للرقيب العسكري أن يطلب عرض أي مادة إعلامية قبل نشرها، ولكن نظرًا إلى الكمّ الهائل من المعلومات المتداولة إعلاميًّا بشكل يومي، يحدد مكتب الرقيب قائمة بالمواضيع المحددة التي يجب عرضها عليه قبل نشرها، وأي صحيفة أو منظمة حقوقية أو قناة تلفازية وحتى عبر منصات التواصل الاجتماعي تريد تناول أي معلومة قد تندرج تحت تلك المواضيع، يجب عليها إرسال التقرير بشكل مسبق للرقيب العسكري للموافقة عليه.
أما “لجنة المحررين” فهي الوسيط بين الرقيب العسكري ووسائل الإعلام العبرية، وتضم ممثلين عن معظم الصحف وقنوات التليفزيون، ويجتمعون عادة مع رئيس وزراء الاحتلال وأعضاء حكومته ومسؤولين رفيعين، ليتمَّ إطلاعهم على معلومات سرّية بشرط ألا يقوموا بنشرها حتى وإن جاءتهم من مصادر أخرى.
خلال عملها، وقعت إشكالات بين وسائل الإعلام العبرية والرقيب العسكري، حتى اضطرت حكومة الاحتلال إلى تشكيل لجنة سريد للرقابة العسكرية أو “اللجنة البرلمانية لشؤون الرقابة العسكرية”، ولجنة شكّلها كنيست الاحتلال ترأّسها عضو الكنيست السابق يوسي سريد عام 1990، وتولت مهمة الرقابة على عمل الرقابة، وجمعت وجهات نظر وانتقادات من صحفيين إسرائيليين حول طبيعة عمل وقيود الرقابة العسكرية، وأوصت بتغيير نظام الرقابة دون تغيير القانون الناظم له.
وفي كل عام، يحظر مكتب الرقيب العسكري الإسرائيلي نشر حوالي 2240 قصة صحفية، جزئيًّا أو كليًّا، لاحتوائها على معلومات “قد تضرّ بالأمن الإسرائيلي والسلم العام والنظام المجتمعي”، يتزامن مع منع الرقيب الصحف من الإشارة إلى وجود معلومات معيّنة تم حظرها.
“طوفان الأقصى”: كيف ستحكم الرقابة طوقها؟
مع اندلاع عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وجدت الرقابة العسكرية نفسها أمام كمٍّ مهول من المعلومات وأعداد القتلى غير المسبوق في تاريخ الاحتلال، تبعتها العملية البرية في قطاع غزة وحرب الشوارع التي خاضتها المقاومة الفلسطينية، فأوقعت خسائر فادحة في آليات الاحتلال وجنوده وضباطه، ومقابل ذلك كانت هناك أعين مترقبة في “إسرائيل” حول نجاعة الحرب على غزة في تحقيق أهدافها، بإعادة الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، أو بالقضاء على حركة حماس.
ومع بدء انقسام واضح في صفوف الاحتلال حول الاستمرار في الحرب من عدمه، بدأت صحف عبرية تحاول تخطي الرقابة العسكرية بتحقيقات صحفية، وكان على رأسها صحيفة “هاآرتس” التي أعلنت أن المدنيين الإسرائيليين في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، قد قُتلوا ربما بقصف إسرائيلي لا بأسلحة المقاومين الفلسطينيين.
وأتبعت “هاآرتس” تحقيقها الأول بتحقيق آخر في 10 ديسمبر/ كانون الأول، قالت فيه إن العدد الذي أعلن عنه جيش الاحتلال هو 1600 جريح منذ بدء العمليات العسكرية في قطاع غزة، بينما تظهر القوائم الجزئية التي أعلنت عنها المستشفيات أنها استقبلت 4 آلاف و591 جريحًا خلال الفترة نفسها، وتزامن الإعلان مع ما كشفته صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية في يوم 9 ديسمبر/ كانون الأول، من أن عدد الجرحى من الجنود بلغ 5 آلاف جريح، وأكثر من 2000 اعترفوا رسميًّا بأنهم أصبحوا معاقين.
لكن صحيفة “يديعوت أحرنوت” عدّلت خبرها تحت ضغط الرقيب العسكري، وبينما قالت في المادة الأصلية أنهم نحو 5 آلاف جريح، حذفت الرقم في الصيغة المعدلة، واحتفظت فقط بعدد المصابين بإعاقة، والذين بلغ عددهم 2000 منذ بدء “إسرائيل” حربها على قطاع غزة.
المستشفيات تعلن أيضًا.. ماذا يحدث؟
لم تتوقف إعلانات الإصابات على الصحف العبرية ووسائل الإعلام، حيث أعلن مستشفى سوروكا الإسرائيلي في بئر السبع أنه استقبل 2034 جنديًّا مصابًا بدرجات متفاوتة الخطورة منذ بداية الحرب البرية في 27 أكتوبر/ تشرين الأول وحتى 9 ديسمبر/ كانون الأول، مع إصدار أرقام يومية بعدد الإصابات الواردة له.
حول ذلك، يؤكد المختص في الشأن الإسرائيلي عصمت منصور، على أن بداية الحرب مع غزة لم تكن قضية المصابين تحظى باهتمام كبير من قبل جمهور المستوطنين أو حتى وسائل الإعلام الإسرائيلية، في ظل العملية العسكرية المتصاعدة.
ووفق حديث منصور لـ”نون بوست”، فإن تحقيق صحيفة “هاآرتس” الذي كشف عن وجود تلاعب بالأرقام وإخفاء أعداد المصابين، وعدم الكشف عن الأرقام الحقيقة، دفع إلى تغيُّر المشهد، ودفع المستشفيات الإسرائيلية إلى الإعلان عن كمّ الإصابات التي تصلها.
وبحسب حديث المختص في الشأن الإسرائيلي، فإن عملية النشر التي قامت بها المستشفيات، خصوصًا أوقات العمليات الكبرى في الحرب، جاءت بسبب عدم وجود قوانين أو قرارات تمنعها من الإعلان عن الإصابات التي تصل إليها، في حين تقتصر الرقابة العسكرية على الشريحة الإعلامية.
يعكس إعلان تفاصيل الحرب والإصابات من أكثر من جهة، وتفكُّك القبضة الحديدية للرقابة العسكرية -عن قصد أو دون قصد-، الانقسامات الواضحة في صفوف الاحتلال.
ومن الواضح أن هناك خلافًا بين الجيش ووسائل الإعلام، فعلى سبيل المثال ترسل “هاآرتس” مراسلين للوقوف على باب المستشفيات لعدّ المصابين، وأصبحت المستشفيات تعلن عن أعداد من استقبلتهم، وهو ما يؤكد على أنه كلما طالت الحرب كلما بدأت الرقابة بفقدان السيطرة، وفق منصور.
أما المختص والباحث في الشأن الإسرائيلي عادل شديد، فذكر أن الناطق العسكري باسم جيش الاحتلال والرقابة العسكرية حاول قبل أسابيع منع إدارات المستشفيات من إصدار أي تقرير عن عدد المصابين من المعارك في غزة والشمال الذين يصلون إلى المستشفيات.
وقال شديد لـ”نون بوست” إن إحدى العمليات التي نفّذها “حزب الله” اللبناني في الشمال شهدت تناقضًا في الأعداد، بعد أن أصدرت إحدى المستشفيات في الشمال أعداد المصابين والذي كان مختلفًا عمّا أعلنه جيش الاحتلال، ففي البداية ذكرت مؤسسة الجيش أن إجمالي المصابين فقط 3 جنود، بينما أعلنت المستشفى بعد ساعة عن وصول 12 جنديًّا إسرائيليًّا مصابين بجروح مختلفة، جزء منهم بإصابات خطيرة.
وبحسب شديد، سبّبت هذه الواقعة بالنسبة إلى جيش الاحتلال الحرج أمام جمهور المستوطنين والجبهة الداخلية، فبدأ الجيش محاولة إلزام المستشفيات بعدم طرح معلومات تتناقض مع المعلومات التي يصدرها جيش الاحتلال، مشيرًا إلى أن المستشفيات تصدر تقريرها رغم محاولات المنع.
بكلمات أخرى، يعكس إعلان تفاصيل الحرب والإصابات من أكثر من جهة، وتفكك القبضة الحديدية للرقابة العسكرية -عن قصد أو دون قصد-، الانقسامات الواضحة في صفوف الاحتلال، والتي تختلف بين المؤسسة العسكرية التي تجد نفسها تدافع عن فساد نتنياهو ورغبته إطالة الحرب للبقاء في حكمه، وبين آلاف المستوطنين وعائلات الأسرى في شوارع تل أبيب تطالب بوقف إطلاق النار وإعادة الأسرى.