لم تبدأ حملات الدعم والتأييد للسردية الفلسطينية في أمريكا والغرب نشاطها بعد “طوفان الأقصى”، إنما راكمت جهودًا فكرية وإعلامية امتدت عبر تاريخ المقاومة الفلسطينية الشعبية، مرورًا بالانتفاضة الفلسطينية الأولى والتي فرضت سرديتها على العالم حتى بمصطلحاتها، فدخلت كلمة انتفاضة القاموس الرسمي كاعتراف من العالم بانتشار هذا المصطلح، للتعبير عن حالة المقاومة الفلسطينية للجيش الإسرائيلي صاحب سياسة تكسير العظام في تلك الفترة.
ثم جاءت الانتفاضة الفلسطينية الثانية لتبني على مكتسبات الانتفاضة الأولى، وتثبت سردية المقلاع الذي ناطح الدبابة، متمثلة بصورة الطفل الشهيد فارس عودة.
وتعود الأحداث الفلسطينية إلى واجهة العالم بعد أن خفتت لأكثر من عقد، بعد انشغال العالم بمتابعة موجة الربيع العربي الأولى، فتعيدهم القدس إلى المشهد من جديد في هبّة باب الرحمة عام 2019، ثم في أحداث حي الشيخ جراح ومعركة “سيف القدس” عام 2021، ليصل المد والتأييد الشعبي العالمي ذروته بعد أحداث “طوفان الأقصى”، ليحمل من اسمه نصيبًا ويمتد ليشمل طوفانًا من حملات الدعم والتأييد والدعوة إلى التأثير على حكومات الغرب بالطريقة التي تفهم: لغة رأس المال والمقاطعة الاقتصادية.
إن مبدأ النجاح في عملية الحشد والتعبئة الذي قامت به الحراكات المختلفة لدعم السردية الفلسطينية، بُني بالأساس على مبدأ تراكم الإنجازات الصغيرة، لتكوِّن سيلًا من الدعم والتأييد في العديد من الحملات الضاغطة الآنية.
وسنستعرض في هذه المقالة 3 أمثلة عن حملات الدعم والتأييد، من خلال حثّ الجماهير على زعزعة اقتصادات الشركات الكبرى في الدول المؤثرة على المشهد السياسي والعسكري في منطقة الشرق الأوسط، وفي فلسطين على وجه الخصوص.
حركة مقاطعة إسرائيل BDS (Boycott, Divestment and Sanctions)
تعرّف “حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها”، نفسها بأنها “حركة فلسطينية ذات امتداد عالمي تسعى لتحقيق الحرية والعدالة والمساواة، وتعمل من أجل حماية حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف”، ومنذ انطلاقتها عام 2005 كمبادرة ثم كحركة، نجحت في زرع بذور عزل النظام الإسرائيلي أكاديميًّا وثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، حتى بات الاحتلال يعتبر الحركة اليوم من أكبر “الأخطار الاستراتيجية” المحدقة به.
وقد نجحت هذه الحركة في معارك كبرى، مثل انسحاب شركة أورانج من السوق الإسرائيلية، وانسحاب العديد من الصناديق السيادية من الاستثمار في دولة الاحتلال، إضافة الى سنوات من النضال ضد شركة G4S والتي انتهت بنصر حركة المقاطعة، كما أنهت شركة بوما مع نهاية عام 2022 رعايتها للمنتخب الإسرائيلي، كنتيجة تراكمية لفعل حركة المقاطعة المستمر ضدها منذ سنوات.
حملة Fight money with money
مع أن فكرة هذه الحملة انطلقت خلال عدوان عام 2014 على قطاع غزة، أي قبل 9 سنوات، إلا أنها وخلال الحرب الحالية تلقت رواجًا كبيرًا في أوساط الأمريكيين، وترتكز فكرة هذه الحملة على سحب الأموال بشكل جماعي من البنوك الأمريكية الكبرى، بهدف الضغط عليها لتغيير سياساتها الداعمة للاحتلال الإسرائيلي تحت عنوان Capitalism meets Capitalism.
وعند سحب تلك الأموال يقوم المشتركون بنقل أموالهم من البنوك الكبرى إلى الاتحادات الائتمانية المحلية، مع إخطار البنوك التي تم سحب الأموال منها عن سبب مغادرتهم لها، والمطالبة بوقف إطلاق النار وإنهاء الاحتلال غير القانوني وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، وأنهم لن يعودوا للاستثمار في تلك البنوك إلا إذا أثبتت البنوك أن جماعات الضغط التابعة لهم اتصلت بالسياسيين للمطالبة بوقف إطلاق النار وإنهاء الاحتلال، وأنهم انسحبوا من دولة الاحتلال، وتجدر الإشارة أن التفاعل على وسم #fightmoneywithmoney فقط قد بلغ 5.3 ملايين مشترك.
حملة War Tax Resistance
“من غير الممكن إجراء الحروب الحديثة من دون جنود وأسلحة، لكن قبل أن تتمكن الحكومات من شراء الأسلحة وتوظيف الجنود، يجب عليها أولًا جمع الأموال اللازمة من خلال الضرائب أو الاقتراض. مقاومة ضريبة الحرب هي رفض دفع بعض أو جميع تلك الضرائب الفيدرالية التي تسهم في الإنفاق العسكري”، هكذا تلخّص الحملة كل أنشطتها ورؤيتها وتوجُّهها، ببساطة لا تدفع ثمن الحرب.
وتستند هذه الحملة إلى أُسُس قانونية، مثل مبادئ نورمبرغ، وميثاق الأمم المتحدة، والدستور الأمريكي، لكن حتى الآن لم تقبل المحاكم الفيدرالية الأمريكية هذه الأُسُس، كمبرر لمقاومة ضريبة الحرب وتشريع عدم الرغبة في دفعها.
هذه الحملة وجدت طريقها أيضًا في ألمانيا وبعض دول أوروبا، وبدأت المجموعات المساندة للقضية الفلسطينية، والبارز أن معظمها مجموعات يسارية، في ترويج فكرة المقاومة من خلال الامتناع عن دفع ضريبة الحرب.
إذًا، متى نحصد ثمار هذه الحملات؟
بعد الحرب العالمية الأولى، كان الوضع الاقتصادي في أمريكا مأساويًا، وقد كانت عمالة الأطفال مستشرية في المجتمع الأمريكي، وتم تشغيلهم في ظروف مأساوية، حتى أن العديد منهم توفي في بيئة العمل السيئة.
في تلك الفترة، حاولت النسويات بشكل جدّي الوقوف بوجه عمالة الأطفال، وتحسين ظروف العمل ككُلّ، وطالبت بذلك مرارًا وتكرارًا دون نتائج تذكر، لكن مع عودة الجنود الأمريكيين من المعارك، وارتفاع نسبة البطالة في أواسط الرجال بشكل كبير، وجدت النسويات الفرصة والظروف ملائمة للمطالبة بتقنين عمالة الأطفال مجددًا، وذلك باستبدال الرجال العائدين من الحرب بالأطفال المنهكين من العمالة، وبتضافر جهود كافة الحراكات المطالبة بتقنين عمالة الأطفال، تم إقرار قانون معايير العمل العادل أو ما يعرف بـ Fair Labor Standards Act عام 1938.
لقد كان استغلال اللحظة التاريخية المناسبة، وسط أكبر قدر ممكن من تضافر عوامل نجاح الحراك الذي تسعى إليه مجموعة معينة، من أجل إحداث تغير في السياسات العامة تجاه قضية ما، هو الحد الفاصل بين نجاح تلك الجهود أو فشلها، وهذا ما تعتمد عليه حركات المقاطعة والمجموعات الداعمة لفلسطين بشكل كبير في هذه الموجة، وتسعى بشكل حثيث للتأثير من خلال تلك اللحظات التاريخية الحاسمة، في ظل تواجد أكبر قدر من العوامل المهيِّئة لحدوث التغيير المنشود.
في هذه الأيام، وضمن الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها المواطن الأمريكي والأوروبي، من ضعف القدرة الشرائية وزيادة الدين العام وارتفاع سعر الفائدة وتكاليف التعليم والعلاج الباهظة، في أمريكا تحديدًا، وازدياد أعداد المشرّدين، وتسريح مئات الآلاف من وظائفهم، كل هذه الظروف وضعت المواطن الأمريكي أمام سؤال جادّ: لماذا ترسل أموال ضرائبي بالمليارات لتمويل حرب الإبادة عوضًا عن تحسين جودة حياتي أنا كمواطن؟
لعبت الظروف هذه المرة دورًا جيدًا في مصلحة حركات المقاطعة الاقتصادية لبعض الشركات الكبرى، مثل ستارباكس وغيرها، وقد بلغت خسائر ستارباكس منذ الإعلان عن مقاطعتها قرابة الـ 12 مليار دولار، في أطول سلسلة هبوط منذ 30 عامًا.