قدم المستشار الألماني أولاف شولتس، يوم 14 نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، حجةً أخرى لدفاع بلاده عن تل أبيب، قائلًا إن “إسرائيل دولة ديمقراطية، يجب أن نقول ذلك بوضوح شديد، ليس هناك شك في هذا وسنؤكد في كل حديث وفرصة أن هذه هي وجهة نظرنا”، ردًّا على تعليق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي قال إن شرعية “إسرائيل” “تم التشكيك فيها بسبب فاشيتها”.
وبينما تجاوزت أعداد ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة حاجز 18 ألف شهيد و50 ألف جريح ومئات آلاف المشردين، لم تتراجع ألمانيا ولا ماكيناتها الإعلامية عن دعم الاحتلال أو حتى إدانة أكثر جرائمه وضوحًا حتى هذه الساعة، بل ما زال الصحفيون الألمان يهاجمون الفلسطينيين من مكاتبهم في تل أبيب، أو إلى جانب جيش الاحتلال في نقاط تمركزهم عند الجدار الفاصل.
التشكيك بصحّة الأخبار
في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي نشرت صحيفة “دي فيلت” الألمانية المعروفة بعدائها للمسلمين، تقريرًا تشير فيه إلى أن منظمة الصحة العالمية تلعب “دورًا مريبًا” في قطاع غزة، حاول الكاتب من خلاله تشويه صورة العاملين والمسؤولين في المنظمة بسبب حديثهم عن فظاعة ما يحصل داخل غزة من دمار واستهداف لمدارس الإيواء.
فيما ادّعى التقرير أن “منظمة الصحة العالمية ولأسباب غريبة لم تُدِن وجود حماس في أنفاق تحت مستشفيات غزة، رغم أنها تعتبر ممارسات تنتهك حقوق الإنسان الدولية”، في تكرار للبروباغندا الإسرائيلية، لكنها ليست المرة الأولى التي يهاجم في الإعلام الألماني المنظمات الإنسانية في قطاع غزة، بل سبق أن هاجمت الصحيفة ذاتها البيانات التي تنشرها منظمة الأمم المتحدة خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول، مشيرةً إلى أن دورها في غزة “مشبوه”.
وفي تقرير مشابه نشرته قناة ZDF، قالت فيه إن “المتحدث باسم منظمة الصحة العالمية يدافع عن أرقام حماس”، في إشارة إلى تقارير القتلى والجرحى الصادرة عن مدير مستشفى الشفاء، فيما عنونت تقريرها بـ”عضو في منظمة الصحة العالمية يشكو من الظروف المدمرة في غزة، ويدافع عن معلومات حماس المثيرة للجدل حول عدد القتلى واصفًا إياها بأنها موثوقة”.
الترهيب وتشويه السمعة
بدايةً بملاحقة منشورات الفلسطينيين في مواقع التواصل الاجتماعي وتكذيبهم، وصولًا إلى تشويه سمعة ناشطين ومدافعين عالميين، كان الإعلام الألماني يستهدف بأدواته المتنوعة كل من يساهم في نشر حقيقة ما يجري على أرض غزة، أو يظهر تضامنًا في دعم القضية الفلسطينية مثل الحملة التي شنّتها مجموعة “أكسل شبرينغر” المالكة لعدة وسائل إعلامية، منها المحطة التلفزيونية “فيلت (Welt)” وصحيفة “بيلد (BILD)” الأكثر انتشارًا في البلاد، على صانع المحتوى صالح الجعفراوي واتهامه بالتمثيل لاستجداء العواطف.
إذ بثت القناة عدة مقاطع مختلفة تزعم ظهور صالح مرة يمشي في شارع، ومرة يبكي في مستشفى، وأخرى كصحفي، وفي لقطات أخرى يحمل طفلًا ثم يظهر كممرض، قبل أن تتهمه ZDF أخيرًا بأنه يمثل دور مصاب يتلقى العلاج، وهو ما فعلته سابقًا حسابات لشخصيات إسرائيلية عبر مواقع التواصل، جعلته في نهاية المطاف معرّضًا لتلقي تهديدات مباشرة بقتله حسب ما نشر عبر حسابه في انستغرام.
أيضًا رأينا كيف اُستهدفت الناشطة السويدية في حقوق المناخ غريتا تورنبرغ من قبل الإعلام الألماني وشخصيات حكومية، بعد إعلان تضامنها مع القضية الفلسطينية قائلةً إنه “لا يمكن تحقيق عدالة مناخية على أرض محتلة”، إذ هاجمها مفوض الحكومة الألمانية لمكافحة معاداة السامية فليكس كلاين، قائلًا إن “تصريحاتها معادية للسامية وتحمل إنكارًا مبطنًا لحق إسرائيل في الوجود”.
كما هاجمتها صحيفة Zeit Online في تقرير عنوانه “دعم غريتا للفلسطينيين يلحق الضرر بقضية دعم المناخ”، معتبرة أن “نهاية غريتا كناشطة بيئية سيكون قريبًا بسبب كرهها لإسرائيل”، وذلك بعد مشاركتها في تظاهرة حول المناخ في أمستردام مرتدية الكوفية الفلسطينية، دعت خلالها إلى وقف إطلاق النار على غزة.
فيما نشرت صحيفة Taz صورتها في الواجهة الأمامية للموقع في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، مع تعليق “شخصية ليست غريتا” بمعنى أن غريتا والتي يعني اسمها “الرائعة” لا تعدّ كذلك.
تضليل وملاحقات
بعد التعرض والإساءة لكل من يرتدي الكوفية في شوارع العاصمة برلين، ومنع رفع العلم الفلسطيني ومحاولة حظر المظاهرات الداعمة لغزة، يأتي تشويه صورة المحتجين في الإعلام كحلّ أخير تستغله صحيفة “بيلد” لشيطنة المظاهرات.
إذ قامت بترجمة إحدى اللوحات التي رُفعت في مظاهرة حاشدة في العاصمة برلين في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي ترجمة خاطئة مقصودة، فبدل ترجمة شعار “إسرائيل تقصف، وألمانيا تموّل” الذي رفعه المتظاهرون، حوّرت الصحيفة الشعار إلى “اقصفوا إسرائيل” ووضعته في عنوان خبرها على الموقع، ولم يقم 7 صحفيين ممّن حرروا الخبر بالتأكد من حقيقة الشعار.
كما وضعت الصحيفة عنوانًا جانبيًّا للخبر: “8500 مشارك في مسيرة كارهة لليهود في برلين”، رغم أن المسيرة شارك فيها إسرائيليون ويهود رافضون للعدوان على غزة.
“العديد من الألمان غير اليهود يريدون أن يعلّمونا ما هي معاداة السامية، لكنهم في الحقيقة يستغلون اليهود لتحقيق مكاسبهم السياسية والشخصية”، هذا ما قالته إيريس هيفتس، واحدة من أشهر اليهود الألمان الداعمين بقوة لحقوق الشعب الفلسطيني، والتي تعرضت للاعتقال مرات عديدة من قبل الشركة الألمانية بسبب تنظيمها وقفات احتجاج منذ بدء الحرب في غزة.
وقد أثار وقوفها في برلين وهي تحمل لوحة كتبت عليها: “أنا يهودية إسرائيلية، أوقفوا حرب الإبادة في غزة”، ضجة كبيرة في الإعلام الألماني، حتى وصل بالبعض أن وصفوها بالخائنة لقومها.
في مقابلة لهيفتس مع قناة “الجزيرة”، قالت خلالها إنها والجمعية التي ترأسها “الصوت اليهودي من أجل السلام العادل في الشرق الأوسط” يتعرضان للكثير من الضغوط المختلفة نتيجة دعمهما لحقوق الفلسطينيين، ولا تتم دعوتهم للمشاركة في البرامج الحوارية في الإعلام الألماني، مضيفةً أنهم يواجهون حملات التشهير التي تحصل بحقهم عبر القضاء، “لكن رغم فوزنا بكل القضايا حتى الآن إلا أن هذا يتطلب منا جهدًا كبيرًا”.
تحيُّز وتستُّر
مثال آخر واضح لسلوك أبرز الصحف الألمانية وأكثرها انتشارًا Tagesschau، إذ تُظهر هذه الصحيفة صورة ثابتة لعلم “إسرائيل” خلال البث المباشر الذي توفره للتغطية المستمرة حول الحرب في غزة على منصة إكس منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، فيما تقوم إدارة الموقع بمشاركة هذا الرابط بشكل متكرر ودائم عبر منصة إكس وفيسبوك دون تحديث الصورة.
ويتماشى هذا الأمر مع الموقف الألماني الرسمي الداعم لـ”إسرائيل” بشكل كامل، لدرجة أن الحكومة قامت بتنظيم مسيرات دعم لنصرة “إسرائيل” في متاحف ودور الأوبرا المنتشرة في البلاد، حشدت فيها ناشطي حقوق الإنسان والمدافعين عن السامية، ولا تزال أعلام “إسرائيل” تزيّن أهم الشوارع والساحات الألمانية حتى اليوم.
يتجلى هذا التحيُّز مرة أخرى حين يتعلق الأمر باستضافة ممثلين من الجانب الفلسطيني والإسرائيلي في البرامج التلفزيونية، إذ في حين يُمنح المسؤولون الإسرائيليون عشرات الفرص في الأسبوع للظهور في القنوات العامة الألمانية، بما فيهم مسؤولو الجيش الإسرائيلي، فإن الجانب الفلسطيني نادرًا ما يكون ممثلًا، حتى لو كانوا مسؤولين من السلطة الفلسطينية.
استضافت قناة ZDF في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي ليث عرفة، ممثل السلطة الفلسطينية في برلين، وكان هذا أول ظهور لأحد ممثلي الطرف الفلسطيني في الإعلام الألماني، فيما دارت كل أسئلة المقابلة حول إدانة حماس، ثم نشرت القناة المقابلة لاحقًا في موقعها الرسمي معنونةً إياها بـ”السفير الفلسطيني.. لا إدانة لحماس؟”، رغم أن المقابلة جرت حين كان عدد الشهداء يتجاوز 11 ألف شهيد بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية.
إعادة تدوير العنصرية
تطفو الآراء العنصرية الرافضة لوجود العرب في أوروبا، وفي كل مرة تزداد حدّة الصراع في فلسطين أو أفغانستان أو سوريا، وتكثر الصدامات في أرض الواقع وفي صفحات التواصل الاجتماعي لتعود وتخبو مرةً أخرى.
وبالطبع يلعب الإعلام في تأجيجها دورًا رئيسيًّا، كهذا المقال على سبيل المثال للصحفي الألماني يان فليتشر المعروف بآرائه العنصرية، والذي نُشر على موقع “فوكاس” بعد عدة أيام فقط من ازدياد رقعة التظاهر من أجل فلسطين في العاصمة برلين، يدعو فيه الحكومة الألمانية إلى اتخاذ قرار بمن تريد إبقاءه في البلاد “اليهود أم العرب العدوانيون؟”.
كما يفترض أن “الألمان الحقيقيين لن يكونوا سعيدين حال رؤية ما يفعله الشباب الذين تسلقوا نافورة في برلين لرفع علمهم (الفلسطيني)”، وإلا لكان بعض الألمان ليقولوا لأنفسهم: “ليس لدينا أي علاقة بهم”.
ويستشهد في مقاله بتصريح لممثل حزب الخضر في مدينة هامبورغ، تيل ستيفن، الذي قال: “يجب على اليهود أن يبقوا وعلى من يعادي السامية أن يرحل”، محذرًا مّما وصفه بتوسع “الفكر الإسلامي الداعشي” في ألمانيا.
تعتمد الحكومة الألمانية أيضًا في مواجهتها لتزايد الدعم للقضية الفلسطينية على ترهيب الناشطين والمحتجين العرب، وتهديدهم بسحب إقاماتهم أو حتى جنسياتهم حسب قانون معاداة السامية المعمول به في البلاد، ويتم هذا بعد تصوير المتظاهرين من قبل أفراد الشرطة المتواجدين في أماكن التظاهر، حيث يوفر باقي الأفراد الحماية للمصور ويهيئون له أكبر قدر ممكن لتصوير الوجوه والأشخاص.
رغم أن الحق في التظاهر مكفول للجميع حسب القانون الألماني، ولا يتطلب الأمر سوى إبلاغ الشرطة بتوقيت ومكان التظاهر، إلا أن القائمين على تنظيم المظاهرات من أجل فلسطين يفاجَأون بإلغاء الفعالية قبل بدئها بوقت قصير أو فور البدء بـ 10 دقائق، إذ إن القانون يمنحهم حق الإلغاء، كما يواجه بعضهم تهديدات بالفصل من العمل، أو تحذيرات من الحديث عن القضية أو التضامن أو معاداة السامية أو مهاجمة الكيان.
كل هذا يحدث بينما يغيب صوت آلاف الفلسطينيين الذين يعيشون في ألمانيا، وتتم مهاجمتهم بقوة، ورغم ذلك ما زالوا مجبرين على دفع ضريبة التلفزيون الشهرية المفروضة لتمويل هذه القنوات، دون أن يروا قصتهم ووجهة نظرهم تُعرض، بل على العكس يجدون أنفسهم صباحًا ومساءً مادة خام ليفرّغ فيها الألماني عقدة ذنبه، بل يكفّر عنها من دماء أهلهم.