من وحي الأزمة الخليجية الأخيرة بين قطر من جهة والمملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين ثم النظام المصري من جهة أخرى، تتشكل مسارات ملحوظة لحجم تأثير الدولة القطرية المتنامي دوليًا، حيث شكلت المساحة الصغيرة وعدد السكان المحدود تحديًا بالغًا للدولة المتموقعة في جنوب غرب آسيا المطلة على الخليج العربي في منطقة مستعرة بالحروب والصراعات والتحديات الإقليمية الكبرى.
الأمر الذي دفعها لسلوك دبلوماسية خارجية أكثر نفوذًا وأوسع تأثيرًا، تستطيع من خلالها أن تشكل شبكة معقدة من المصالح والتحالفات تستطيع من خلاله حماية نفسها ومجابهة أعدائها، فهي وإن تضاءلت مساحتها جغرافيًا، فقد تمدد نفوذها بقوة على خارطة العلاقات الدولية.
ومن ثم كان الدور الذي لعبته قطر على مدار عقود في إفريقيا ملحوظًا وواسع التأثير، حيث استطاعت من خلال دورها السياسي وجهازها الاستثماري وكيانات إعلامية وإغاثية أن تصول وتجول في القارة السمراء في اتجاهاتها الأربع.
الدور القطري في إنهاء النزاعات الإفريقية
منذ بداية العام 2008م بدأت قطر في التوسط لإنهاء النزاع المسلح بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة في دارفور، ذلك الصراع الذي امتد لسنوات وسط عجز دول إقليمية كبرى في ذلك الوقت كمصر وليبيا على حله، حتى استطاعت الدولة القطرية في فبراير/شباط 2013م على عقد اتفاق الدوحة الذي أنهى الخصومة بين طرفي النزاع، وبعدها قامت الدوحة بعمل استثمارات تنموية وإغاثية في إقليم دارفور.
شهدت منطقة أوباري في ليبيا اقتتالاً بين قبيلتي التبو والطوارق، ونزح عن المنطقة نحو 80% من السكان بما يعادل 3500 أسرة، بعدما قتل وجرح العشرات من المواطنين، وقد أعلن مجلس النواب الليبي في مايو/أيار 2015م أن المنطقة منكوبة، إلى أن جاءت قطر على المسار المحتدم وتوسطت لحسم النزاع
وتبدى مسار الدوحة أكثر في لعب دور الوساطة بين جيبوتي وإريتريا بسبب الأزمة الحدودية التي اندلعت بين الطرفين، واستطاعت قطر أن تنشر قوة لحفظ السلام، بعدما تم توقيع اتفاق تهدئة بين البلدين.
في أكتوبر/تشرين 2014م شهدت منطقة أوباري في ليبيا اقتتالاً بين قبيلتي التبو والطوارق، ونزح عن المنطقة نحو 80% من السكان بما يعادل 3500 أسرة، بعدما قتل وجرح العشرات من المواطنين، وقد أعلن مجلس النواب الليبي في مايو/أيار 2015م أن المنطقة منكوبة، إلى أن جاءت قطر على المسار المحتدم وتوسطت لحسم النزاع، وهو ما كان في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2015م عندما تم عقد اتفاق سلام نهائي بين القبيلتين في الدوحة.
المصالحة مع أديس أبابا
6 سنوات من المقاطعة هم حصاد العلاقات القطرية الإثيوبية بين عامي 2008م و2012م، نتيجة اتهامات الحكومة الإثيوبية لقطر بدعم حكومة إريتريا وحركة شباب الصومال، لكن الدوحة في مبادرة تاريخية قررت إنهاء الخصومة وتوقيع 5 مذكرات تفاهم مع الإثيوبيين، وتبدأ في استثمارات متعددة في أديس أبابا القوة الإفريقية الناشئة القادمة بقوة.
الأذرع الاستثمارية للدوحة تمتد في الأدغال
في العام 2012م أنفق جهاز قطر للاستثمار قرابة الـ30 مليار دولار (بحسب تقارير رسمية) في مشروعات متعددة داخل القارة الإفريقية، مما دعا مختلف حكومات البلدان الإفريقية إلى عقد اتفاقات استثمارية مع الدوحة.
وهو ما كان من الحكومة القطرية في جنوب السودان (الدولة الإفريقية الوليدة)، حيث أسست فرعًا لبنك قطر الوطني في العاصمة جوبا، ويعمل البنك على تنمية القطاعات الاقتصادية القطرية في جنوب السودان بالإضافة إلى تعزيز العلاقات المصرفية للدولة نفسها.
ومن جوبا إلى الخرطوم ساهمت الدوحة في إعادة إعمار السودان بشكل كبير، فهي من أكبر 6 دول مستثمرة في البلد الإفريقي، حيث بلغ حجم الاستثمار القطري في السودان نحو 4 مليارات دولار شملت المجالات الزراعية والصناعية والعقارية، وشكلت الزيارات المتتابعة من العائلة الحاكمة في قطر إلى السودان محور تعاون بين البلدين دفع أنظمة بعض دول الجوار كمصر إلى شن هجوم كاسح على النظامين القطري والسوداني بسبب هذا التعاون الوثيق الذي يعزز من القدم القطرية في المنطقة، وهو الأمر الذي يرفضه النظام المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي بسبب الخصومة التاريخية مع قطر وتوتر العلاقات مع السودان.
ولم تبتعد منطقة القرن الإفريقي بالغة الأهمية الاستراتيجية عن التوسع الاستثماري القطري، حيث تمكنت من دعم الكثير من المشروعات خاصة الزراعية والتعدينية في الصومال وكينيا.
تحالفات أشمل
في أبريل 2017م قام أمير دولة قطر تميم بن حمد آل ثاني بجولة إفريقية واسعة شملت جنوب إفريقيا وكينيا وإثيوبيا، وذلك لتوسيع خارطة الاستثمارات القطرية التي باتت تضرب معظم أرجاء القارة، فكانت البداية من إثيوبيا البلد الغني بثرواته الطبيعية وأراضيه الشاسعة والخصبة بالإضافة إلى قوة حضوره على الساحة السمراء.
ثم نزل الأمير إلى نيروبي (العاصمة الكينية الاستراتيجية في منطقة الشرق والوسط الإفريقي)، وقد عبر الرئيس الكيني أوهورو كينياتا، في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، بأن زيارة الأمير تميم دفعة للعلاقات الاقتصادية بين البلدين نحو أفق أوسع، على جانب ترسيخ العلاقات السياسية لخدمة الطرفين.
واختتم الأمير القطري زياراته بدولة جنوب إفريقيا ذات الوزن الثقيل سياسيًا واقتصاديًا وهي واحدة من النمور الإفريقية القادمة على الساحة الدولية، وقد صرح الرئيس الجنوب إفريقي جاكوب زوما حينها بأن الزيارة تاريخية، مشيدًا بجهود أمير دولة قطر في حل صراعات الشرق الأوسط والقرن الإفريقي.
استثمرت جنوب إفريقيا في قطر عبر شركة “ساسول أوركس جي تي إل” لتحويل الغاز القطري إلى الديزل، كما يسير التعاون في مجالات الطاقة والغاز المسال بشكل منتظم ومستمر
وكانت إتاحة الفرصة لجهاز قطر للاستثمار، وصندوق قطر للتنمية لدراسة الفرص المتاحة للاستثمار بين البلدين من أهم مكاسب تلك الزيارة، حيث السعي لزيادة حجم التبادل التجاري والاقتصادي بعدما وصل في العام 2016م إلى نحو 517 مليون دولار أمريكي، وهو الرقم الذي اعتبر ضئيل مقارنة بقوة نفوذ الدولتين.
لتبدأ بعدها قطر في افتتاح فرع بنك الدوحة هناك، وتوافد عدد كبير من رجال الأعمال القطريين إلى جوهانسبرج، ووصلت عدد الرحلات بين قطر والمدن الجنوب إفريقية الثلاثة الكبرى جوهانسبرج وكيب تاون وديربان إلى ثلاث رحلات يومية.
وفي المقابل استثمرت جنوب إفريقيا في قطر عبر شركة “ساسول أوركس جي تي إل” لتحويل الغاز القطري إلى الديزل، كما يسير التعاون في مجالات الطاقة والغاز المسال بشكل منتظم ومستمر.
أدوات العبور القطرية إلى الداخل الإفريقي
بعد النفوذ الاستثماري والاقتصادي الضخم الذي لعبت عليه الدوحة للعبور إلى إفريقيا، جاء المد الإعلامي كرافد آخر من روافد إحكام النفوذ، حيث أولت قناة الجزيرة القطرية اهتمامًا بالغًا بأهم الأحداث داخل القارة، وأطلقت محطة باللغة السواحيلية تستهدف قرابة 100 مليون نسمة في مناطق جنوب وشرق إفريقيا، وتخطط لإطلاق قناة تابعة باللغة الفرنسية من داخل العاصمة السنغالية دكار لتغطية مناطق الناطقين بالفرنسية في منطقة غرب إفريقيا.
وجاء الدور الإغاثي كمسار بالغ الأهمية استخدمته الحكومة القطرية، فعمل الهلال الأحمر القطري بجانب الجمعيات والمنظات الأهلية الخيرية القطرية على دعم المراكز الصحية وبناء المساجد والمدارس، كما تصل الإغاثات إلى مناطق الحروب والنزاعات المسلحة كالصومال ومالي، وقد بلغت المساعدات القطرية إلى المتضررين في جمهورية إفريقيا الوسطى جراء العنف الطائفي إلى 2.9 مليون ريال قطري عبر صندوق الاستجابة للكوارث التابع للدولة.
يتوقع المحللون وخبراء العلوم السياسية والعلاقات الدولية أن يستمر هذا الدور الكبير لقطر في التمدد إقليميًا وزيادة الاستثمارات والتحالفات في القارة السمراء، لا سيما بعد الأزمات الأخيرة بين قطر ودول جوارها
وفي العام 2015م أعلنت مؤسسة عيد الخيرية (واحدة من المؤسسات التي وضعتها دول مقاطعة قطر على قوائم الإرهاب) أنها استطاعت خلال 20 عامًا تنفيذ 886 مشروعًا إنشائيًا في مجال التعليم داخل إفريقيا، نال السودان منها النصيب الأكبر بـ55 مشروعًا بتكلفة تزيد على 26 مليون ريال قطري، وتوزعت المدارس التعليمية الممنوحة من قطر على 23 دولة إفريقية منها الجزائر والمغرب ورواندا وبوروندي والصومال وجزر القمر وتشاد وتوغو وجنوب إفريقيا وملاوي ومصر وموريتانيا وكينيا وغانا.
ويتوقع المحللون وخبراء العلوم السياسية والعلاقات الدولية أن يستمر هذا الدور الكبير لقطر في التمدد إقليميًا وزيادة الاستثمارات والتحالفات في القارة السمراء، لا سيما بعد الأزمات الأخيرة بين قطر ودول جوارها، وبسبب امتلاكها لمقومات وأدوات ضخمة تمكنها من توسيع نفوذها الإقليمي والدولي.