تسلّحت المقاومة الفلسطينية منذ بداية عملية “طوفان الأقصى” يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بالإعلام، كوسيلة مؤثرة في حربها مع الاحتلال الإسرائيلي الذي يسخّر دعاية داخلية وأخرى خارجية، معتمدًا فيها على نفوذه الدولي في وسائل إعلام كبرى عالميًا.
وظهر هذا الأمر في اليوم الأول للمعركة، من خلال مقاطع الفيديو التي وثّقت اللحظات الأولى للعملية التي نفّذها مقاتلون فلسطينيون داخل المواقع العسكرية والمستوطنات القريبة، التي تضمّ مجنّدين ومحسوبين على المؤسسات العسكرية الإسرائيلية المختلفة.
وبدا لافتًا هذا الأمر مع أسابيع الحرب المختلفة التي تقترب من دخول شهرها الرابع على التوالي، حيث ركّزت المقاومة الفلسطينية على عنصر الخطاب المضاد للاحتلال الذي كان يخفي تفاصيل ميدانية عن جمهور مستوطنيه، في محاولة منه لعدم كسر الروح الداخلية، وبثّ الإحباط في صفوف المواطنين الفلسطينيين ومؤيدي المقاومة على المستوى العربي أو حتى الإسلامي.
ورغم أن المقاومة كثّفت من استخدام الإعلام في السنوات الأخيرة في جولات التصعيد وحروبها التي خاضتها مع الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن الحرب الحالية عام 2023 تشهد نموذجًا فريدًا من قبل المقاومة، مقارنة مع الحروب السابقة خلال السنوات الماضية.
إلا أن ما يحصل يعدّ امتدادًا للتطور الإعلامي الذي ظهر خلال عام 2014 في أداء الإعلام العسكري والحربي للأذرع العسكرية لقوى المقاومة، من خلال توثيق بعض العمليات والرسائل الموجّهة للاحتلال، قبل أن يتعاظم ذلك خلال معركة “سيف القدس” عام 2021.
التوثيق العسكري: عمل متصاعد منذ البدايات
قد يظن بعض المتابعين أن استخدام المقاومة الفلسطينية للإعلام والعمل الدعائي هو وليد التطور في العقد الأخير، إلا أن هذا الأمر غير دقيق، إذ كان الأمر واضحًا منذ ولادتها المبكرة، حينما كانت مجرد مجموعات قليلة تعمل في ظروف معقدة للغاية.
وتعتبر عملية مسجد مصعب بن عمير، أو عملية قتل قائد الشرطة، عملية عسكرية قامت بها كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، في 4 مايو/ أيار 1992، أول عملية مصورة في تاريخ المقاومة الفلسطينية، حيث كشفت كتائب القسام في عام 2012 عن تفاصيل العملية ومنفذيها.
وكان منفذوها اثنين من المقاتلين القساميين، أحدهم القائد الميداني عماد عقل، والآخر ماهر زقوت، ومقاتل قسامي ثالث قدّم دعمًا لوجستيًّا لهما، وشهدت العملية استخدام الكاميرا بشكل أساسي، وهو ما اعتبر أنه ضربة قاسية للاحتلال الإسرائيلي ومنظومته.
وبعد قرابة عامَين، وتحديدًا في 11 أكتوبر/ تشرين الأول 1994، عادت القسام لتكرار الأمر ذاته، حينما أسرت الجندي الإسرائيلي نحشون فاكسمان التي أرادت من خلاله إبرام صفقة تبادل أسرى، حيث ظهر القائد العام الحالي للكتائب محمد الضيف في الفيديو وهو يطرح مطالب القسام.
ومع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، وتصاعد وتيرة العمل العسكري، قرّرت قيادة القسام تأسيس المكتب الإعلامي للقسام، إذ انطلقت في عام 2001 النواة الأولى لعمل المكتب الإعلامي، بهدف إبراز الوجه الحقيقي للمقاومة الفلسطينية ودورها في حسم الصراع مع الاحتلال، وتصوير المهمات والعمليات الجهادية الخاصة بكتائب القسام، وأولت المقاومة الفلسطينية الإعلام اهتمامًا كبيرًا في الصراع والمواجهة المفتوحة مع الاحتلال.
مرحلة جديدة: نقلات نوعية
وتجلّى ذلك في أبهى صوره في معركة “العصف المأكول” في 7 يوليو/ تموز 2014، حيث نجحت المقاومة خلال المعركة في تقديم خطاب إعلامي متناغم سياسيًّا وعسكريًّا، وتفوقت في أدائها الإعلامي أمام الرواية والدعاية الإسرائيلية المضلّلة، وعملت وفق رؤية إعلامية واضحة.
وشهدت هذه المواجهة حضورًا بارزًا لشخصية أبو عبيدة، الناطق العسكري باسم كتائب القسام، حيث ظل خلال المعركة صوتًا للمقاومة عبر الإطلالات الإعلامية التي يعلن فيها عن نجاحات المقاومة ومفاجآتها، والتي كان من أبرزها عمليات زيكيم وأبو مطيبق وناحل العوز وإعلان أسر الجندي شاؤول آرون.
أما خلال عام 2021، فشهد أداء القسام تنوعًا في الأداء، لا سيما من خلال الظهور الخاص لشخصية الناطق العسكري والرسائل الموجهة للجبهة الداخلية العسكرية الإسرائيلية، تارة عبر الإعلان عن عمليات قصف مثل عملية قصف مطار إيلات أقصى جنوب فلسطين المحتلة، وتارة أخرى عبر الإعلان عن تهديد المستوطنين في تل أبيب، أو الكشف عن رشقات صاروخية نوعية شكّلت رسائل موجهة للجبهة الداخلية الإسرائيلية.
وإلى جانب ذلك كله، اعتمدت فصائل المقاومة الفلسطينية، لا سيما حماس، على منظومتها الإعلامية في العمل الدعائي المضاد، من خلال إنتاج الأفلام القصيرة وبثّ الكلمات التحريضية الموجّهة للجمهور الفلسطيني لجعله داعمًا ومساندًا لها، والموجهة للإسرائيليين باللغة العبرية بغرض التخويف والردع.
في الوقت ذاته، تخصص حماس موازنات مالية وكوادر بشرية لإعلامها العسكري، حتى أن هناك دائرة خاصة بهذا الاسم، لا تقل أهمية وخطورة عن باقي وحدات جناحها المسلح الأمنية والعملياتية، وأظهرت المقاومة الفلسطينية تفوقًا كبيرًا في قدرات الخطاب الإعلامي لقياداتها وبياناتها، وإدارة الحرب النفسية وحركة الإعلام الجديد خلال الأعوام الثلاثة الماضية.
وشهدت الأعوام الأخيرة تدشين القسام موقعها الإلكتروني الناطق باللغة العبرية لأول مرة، واتخذت الخطوة لمخاطبة الجمهور الإسرائيلي بالتزامن مع تواصل العدوانات على غزة، واحتوى الموقع على أقسام تتناول عرض صور ومقاطع فيديو وأخبار الكتائب.
ومع تتابع الزمن، بدا لافتًا اهتمام المقاومة الفلسطينية بالإعلام والكاميرا، كما ظهر خلال الحرب الحالية من خلال وضوح المصورين المحسوبين عليها في الميدان، أو استخدام أساليب متعددة في الرسائل للجبهة الداخلية الإسرائيلية ومخاطبتهم باللغة العبرية.
الدلالات والأهداف.. قراءة فيما يجري
تشكّل المشاهد التي تعرضها المقاومة الفلسطينية منذ بداية عملية “طوفان الأقصى”، ضربة للدعاية الإسرائيلية القائمة على تكذيب المقاومة ونسف أي إنجاز لها، من خلال مقاطع فيديو يتم نشرها عبر منصات التواصل الاجتماعي أو المنصات التابعة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
وشهدت هذه المعركة حضورًا بارزًا للكاميرا في مختلف مناطق العمليات والمحاور القتالية بين المقاومة والاحتلال الإسرائيلي، وهو ما ظهر بشكل متكرر في العمليات التي نفّذتها المقاومة، حتى أن الطريقة الإخراجية للعمليات الخاصة بالمقاومة تعكس سيطرة وقدرة على التنقل وإدارة المشهد والصراع.
ووفقًا لما يحدث، فإن المقاومة باتت تدرك أهمية الصورة والكلمة في حربها مع الاحتلال، لا سيما أن جميع عملياتها وخطابها، حتى ذاك الذي كان موجّهًا للجبهة الإسرائيلية الداخلية فيما يتعلق بملف الأسرى الإسرائيليين، أسهم في تحريك الملف في أكثر من مناسبة.
وبالتالي باتت المقاومة الفلسطينية في غزة تعمل اليوم وفقًا لاستراتيجية قائمة على “جهّز الكاميرا ثم أطلق” أو “الكاميرا.. قبل السلاح”، إدراكًا منها بأهمية الصورة على البُعد الداخلي في تعزيز الجبهة الداخلية والحاضنة الشعبية للمقاومة، من خلال القدرة على الدفاع أو حتى توجيه ضربات نوعية للروح المعنوية الإسرائيلية على الصعيدَين العسكري الخاص بالجنود أو الجبهة الإسرائيلية الداخلية.
لذا فإن المقاومة اليوم عبر خطابها باتت تعمل وفقًا لاستراتيجية واضحة ترتكز بالأساس على تفكيك الرواية الإسرائيلية، وخلق رواية فلسطينية مضادة مقاومة قادرة على خلق مناخ يمكن من خلاله إدارة المعركة استراتيجيًّا وميدانيًّا، بما يسهم في تحقيق أهدافها وخططها.