ترجمة تحرير: نون بوست
تقف إكرام قرعان على سطح منزلها على أطراف مدينة البيرة في الضفة الغربية، وتشير إلى تلة تبعد 100 ياردة حيث كانت تتجول بين أشجار التين والزيتون. وتتذكر قائلة “لقد كان مكانًا حيث يمكن أن نتنفس الصعداء”. أما في اللحظة الراهنة، يتمثل كل ما تراه في سياج من الأسلاك الشائكة، ومن خلفه، تنتشر على طول قمة التل مباني مستوطنة بساغوت إسرائيلية.
وصل أربعة جنود إسرائيليين بعد حوالي خمس دقائق من نزولنا من السطح يطالبون بالاطلاع على أوراق قرعان وأوراقي، من أجل إجراءات”أمنية”. بعد التحقق من أسمائنا، أعادوا المستندات وتراجعوا إلى مركزهم على بوابة المستوطنة. كنا محظوظين. تقول قرعان إنه في أواخر الشهر الماضي، قُتل شاب فلسطيني يبلغ من العمر 20 سنة بالرصاص في الشارع المجاور لمنزلها خلال مظاهرة.
أكدت قرعان بعد رحيل الجنود: “إنه ظلم”. بنت عائلتها هذا المنزل في سنة 1961. وبدأ الإسرائيليون في بناء مستوطنتهم بعد 20 سنة، بعد استيلائهم على الضفة الغربية في حرب سنة 1967. واليوم، أصبحت عاجزة عن إدارة ممتلكاتها الخاصة، التي تقع في جزء مما يعرف بالمنطقة ج، وهي 60 بالمائة من الضفة الغربية التي تقع تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة.
كانت الحرب المدمرة في غزة تبعد 50 ميلاً فقط بينما كنا نتحدث. لكن قرعان، على غرار معظم الفلسطينيين في الضفة الغربية الذين التقيت بهم خلال الأسبوع الماضي، لا تتحدث كثيرًا عن أعمال العنف هناك. وقد أعربوا عن استيائهم وخوفهم من الحرب التي تدور رحاها هناك. تُدير قرعان مشروعًا للتصميم الجرافيكي في رام الله. فهي تريد الاستمرار في العمل والبقاء على قيد الحياة. ولم تكن لهجتها تكشف غضبها من الحرب، بل حزنًا يقترب من اليأس.
لمدة ثلاثة أيام في الأسبوع الماضي، سافرت عبر الضفة الغربية، من التلال القاحلة أسفل الخليل في الجنوب إلى مرتفعات نابلس في الشمال. ما رأيته كان نمطًا من الهيمنة الإسرائيلية والإساءات العرضية التي تجعل الحياة اليومية إذلالًا للعديد من الفلسطينيين – ويمكن أن تعيق المستقبل السلمي الذي يقول الإسرائيليون والفلسطينيون إنهم يطمحون لتحقيقه.
تعتبر القيادة على طرقات الضفة الغربية – عذرا على استخدام هذا المصطلح – حلا “تمييزيا”. يتجول المستوطنون الإسرائيليون الذين يحملون لوحات ترخيص صفراء على طريق سريع يخضع لحراسة مشددة يسمى الطريق 60. ويتنقل الفلسطينيون الذين يحملون لوحات بيضاء في طرق صغيرة وعرة. منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أغلِقت العديد من مداخل قراهم في كثير من الأحيان. وأثناء سفري في سيارة أجرة إسرائيلية مع سائق فلسطيني، رأيت بعض من التفاصيل من هذين العالمين المختلفين.
شاهدت إجراءات تحوطيّة عند نقاط التفتيش الإسرائيلية بالقرب من بيت لحم ونابلس والتي كان طولها أكثر من نصف ميل ويمكن أن تتطلب الانتظار لأكثر من ساعتين. أصبحت ممارسات مثل التأخير والإهانات والاعتداءات الصريحة على الفلسطينيين روتينا قاتمًا. في هذا السياق، تساءل سامر شلبي، الفلسطيني الذي كان مرشدي في منطقة نابلس “حتى إذا كنت في سيارة ذات لوحة صفراء، فهل هذا سيغير دمي؟”.
كانت جولتي في الضفة الغربية بمثابة اختبار للواقع حول ما يمكن أن يحدث “في اليوم التالي” لانتهاء حرب غزة. يتحدث الرئيس بايدن وغيره من زعماء العالم بأمل عن إنشاء دولة فلسطينية بمجرد هزيمة حماس. لكن أود أن أرى ذلك حقيقة ملموسة على أرض الواقع وعلى الناس أن يكونوا واقعيين بشأن العقبات التي أمام أعيننا.
على أرض الواقع، وفي خضم الضغوط اليومية الطاحنة التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي، قد يبدو الأمل المشترك في إقامة دولة فلسطينية أشبه برواية خيالية ـ مريحة عند سماعها. تقع في الطريق المستوطنات والبؤر الاستيطانية الإسرائيلية المنتشرة على قمم التلال في الضفة الغربية، والتي ترمز أسوارها العالية وجدرانها الخرسانية إلى ثباتها.
أوضح دانييل سايدمان، المحامي الإسرائيلي الذي ربما يكون المنتقد الرئيسي لحركة الاستيطان في البلاد: “لقد تم وضع المستوطنات هناك لمنع إنشاء دولة فلسطينية”. وقد قدم لي ولمسؤولين اثنين من وزارة الخارجية جولة إرشادية حول قضايا الاستيطان يوم الإثنين موضحًا خليط الضفة الغربية بدءا من مرتفعات جبل المشارف وصولا إلى جبل الزيتون.
إليكم كيف يمكن “إنهاء الاحتلال” حسابيًا الذي يقول سايدمان إنه سيكون ضروريًا لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. يقدر أن أكثر من 700 ألف إسرائيلي يعيشون في مستوطنات الضفة الغربية، وأن 200 ألف على الأقل سيضطرون إلى المغادرة، حسب تقديراته، على الرغم من مقاومة بعض المستوطنين. وحذر مستخدما المصطلحات التوراتية التي يستخدمها المستوطنون لمناطق الضفة الغربية: “هناك احتمال كبيرا لنشوب حرب أهلية بين إسرائيل ومستوطنة يهودا والسامرة”. واختتم سايدمان حديثه قائلاً: “إذا لم يكن الأمر مؤلماً، فلن يكون ذا أهمية”.
بالنسبة للمستوطنين، فإن عرقلة قيام الدولة الفلسطينية جزء من المهمة، وذلك حسب ما أخبرني به يهودا شاؤول، الخبير الإسرائيلي البارز في شؤون المستوطنات. وأشار إلى أنه في سنة 1980، أعلن ماتيتياهو دروبلز، الذي كان آنذاك رئيسًا لقسم المستوطنات في المنظمة الصهيونية العالمية، هدفه بصراحة في خطة واسعة النطاق. وكتب في ذلك الوقت: “مع عزل المستوطنات اليهودية، ستجد الأقلية العرب صعوبة في تشكيل استمرارية إقليمية وسياسية”. والطريقة الأفضل والأكثر فعالية لإزالة كل شك حول نيتنا في التمسك بمنطقة يهودا والسامرة إلى الأبد هي تسريع الزخم الاستيطاني في هذه الأراضي”.
كان بايدن أحدث رئيس يواجه حقيقة أن معالجة القضية الفلسطينية تعني مواجهة إسرائيل – خاصة فيما يتعلق بالمستوطنات. ويستمر عدد المستوطنات الرسمية و”البؤر الاستيطانية” غير المعترف بها في التزايد. وحسب مجموعة تدعى “السلام الآن”، شهدت هذه السنة أكبر زيادة في المستوطنات منذ أن بدأت المجموعة بتتبع المستوطنات في سنة 2012.
في السنوات الأخيرة، كانت هناك زيادة مخيفة في أعمال العنف التي يرتكبها المستوطنون ضد الفلسطينيين، فيما يقول المدافعون عن حقوق الإنسان إنها جهود متعمدة لإخافتهم من الأراضي التي يعتقد المستوطنون أن الله أعطاها لإسرائيل.
تصاعد عنف المستوطنين منذ الهجوم الذي شنته حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، الذي أسفر عن مقتل حوالي 1200 إسرائيلي. وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، وقع 343 هجومًا للمستوطنين ضد الفلسطينيين، منذ ذلك الحين. وقد هُجّر ما لا يقل عن 143 أسرة فلسطينية تضم 1.026 فردًا (من بينهم 396 طفلًا) بسبب أعمال العنف. وأكدت المنظمة التابعة للأمم المتحدة أن المستوطنين قتلوا ثمانية فلسطينيين وأصابوا 85 آخرين.
دائمًا ما يفلت المستوطنون العنيفون من العقاب. من سنة 2005 إلى سنة 2022، أغلقت 93 بالمائة من أصل 1.597 تحقيقًا فتحته الشرطة الإسرائيلية في قضايا قيل فيها إن إسرائيليين ألحقوا الأذى بالفلسطينيين، دون توجيه لائحة اتهام، وذلك وفقًا لمنظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية “يش دين”، حيث أدت حوالي 3 بالمائة فقط إلى إدانات.
إن التهديد الذي يواجهه الفلسطينيون شديد بشكل خاص في المنطقة (ج)، حيث يفوق عدد الإسرائيليين عدد الفلسطينيين بحوالي أكثر من 400 ألف إلى 300 ألف. ويفرض الجيش الإسرائيلي قيودًا مشددة على سفر الفلسطينيين إلى هناك، ويهاجم المستوطنون بانتظام قرى البدو ومخيماتهم.
لدي كلمة أخيرة عن المستوطنات قبل أن أصف تفاصيل رحلتي. لدي بعض الأصدقاء الإسرائيليين المقربين الذين يعيشون في المستوطنات، وهم أناس محترمون وملتزمون بالمبادئ. من المحتمل أن يتحرك العديد منهم إذا قررت الحكومة الإسرائيلية أن حل الدولتين يتطلب ذلك. ويأتي العنف من المستوطنين المتطرفين – والخطر هو أنهم يحظون على ما يبدو بدعم من أعضاء حكومة نتنياهو.
من بين الدلائل على أن إدارة بايدن ربما تأخذ قضية المستوطنات على محمل الجد هو إعلان هذا الشهر عن أن المستوطنين الذين يُعتقد أنهم شاركوا في هجمات عنيفة ضد الفلسطينيين قد يُحرمون من الحصول على تأشيرات لدخول الولايات المتحدة، مع أفراد أسرهم. وهذا ليس حلاً لهذه المشكلة الكبيرة، ولكنه البداية.
لنبدأ جولتنا من الطرف الجنوبي للضفة الغربية، في التلال الجافة جنوب مدينة الخليل حيث توسعت المستوطنات الإسرائيلية. هناك مشكلة جديدة هنا تتمثل في الصراع حول “معسكرات البؤر الاستيطانية”، حيث حاول المزارعون الإسرائيليون طرد الرعاة البدو الذين ظلوا يرعون هذه الأرض منذ قرن من الزمان.
التقيت صالح أبو عوض، أحد هؤلاء الرعاة البدو، يوم الإثنين على جانب حقل صخري ينبت بالبراعم الخضراء في طقس شهر كانون الأول/ ديسمبر المعتدل. كان نحيفًا، ذو وجه متهالك ولحية مشذبة، وكان يرتدي قميصًا من النوع الثقيل مزينًا بشعار إمبوريو أرماني الباهت.
بالقرب منها تقع مستوطنة ميتاريم الإسرائيلية، على طول الطريق 317، وبؤرة استيطانية تعرف باسم عسائيل. يمكنك مشاهدة مقطع فيديو تحتفل فيه عائلة إسرائيلية في عسائيل بفرحة زراعة هذه الأرض، حيث يقوم الأطفال بتحريك العربات على حزم القش.
قال أبو عوض، وهو منهك، في 13 تموز/ يوليو، إن المستوطنين هاجموه بينما كان يرعى أغنامه. أخبره أحد المستوطنين “هذه أرضنا، ينبغي ألا تكون هنا”. أخبرني أبو عوض أن عائلته ترعى أغنامها في مكان قريب منذ عهد جده الأكبر. لكن المستوطنين كانوا عازمين على سلبها منه. وأضاف أبو عوض أن مجموعة عادت في وقت لاحق وأحرقت ستة من خيامه وسرقت 130 رأسا من أغنامه، التي يقدر قيمتها بنحو 50 ألف دولار.
لم يكلف أبو عوض نفسه عناء تقديم شكوى إلى السلطة الفلسطينية لأنه “ليس لديهم أي قوة”. وواصل المستوطنون مداهماتهم في المنطقة. لقد شاهدت ما يصل إلى اثنتين عشر حالة من المضايقات التي تم تصويرها في مقاطع فيديو من قبل نشطاء فلسطينيين.
في هذه المنطقة، المعروفة باسم مسافر يطا، هُجّر سكان عدد من التجمعات السكنية بأكملها قسرا منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وذلك وفقاً لمنظمة حقوق الإنسان “بتسيلم”. لقد عاد المستوطنون يوم الأحد الماضي، في اليوم السابق لمحادثتي مع أبو عوض. وقد فرّ الكثير من البدو من أراضي الرعي خوفا، لكن أبو عوض قال إنه باق: “ليس لدي أي مكان آخر أذهب إليه. نحن لسنا أعداء الإسرائيليين. نريدهم فقط أن يتركونا وشأننا”.
بالنسبة للمستوطنين الإسرائيليين الذين يأملون طرد الفلسطينيين من المنطقة (ج)، يبدو أن استراتيجية البؤر الاستيطانية للمزارعين ناجحة. شرح زعيم مستوطن يدعى زئيف “زامبيش” حيفر استراتيجية مؤسسته “أمانا”، شركة البناء الرئيسية لحركة المستوطنين، في شباط/ فبراير 2021 قائلا” إن مزارع الرعي التي تزايدت… تغطي اليوم ما يقارب ضعف الأراضي التي تغطيها المستوطنات المبنية”. إذا اندلعت معركة على المنطقة (ج)، فعلى قادة المستوطنين المحليين التصرف كما لو كانت حربًا”.
توجهنا شمالًا، على طول الطريق السريع الاستيطاني رقم 60. دخلنا الخليل، وهي مدينة صناعية شهدت منذ 40 عامًا اشتباكات مع مستوطنة تسمى كريات أربع، بالقرب من قلب المدينة. يعيش وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير، أحد الأعضاء اليمينيين المتطرفين في ائتلاف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، في كريات أربع. وفي آب/ أغسطس، صرح في حوار مع أحد الصحفيين: “حقي وحق زوجتي وأولادي في التجول على الطرق في يهودا والسامرة أهم من حق العرب في التنقل فيها”.
وتجدر الإشارة إلى أن إغلاق الطرق يجعل السفر بمثابة كابوس للعرب. مررنا بمداخل سلسلة من البلدات والقرى الفلسطينية المتجهة نحو الشمال وقد أغلق الجيش الإسرائيلي معظمها بأكوام كبيرة من التراب أو البوابات المعدنية. ويتعين على الفلسطينيين الذين يريدون السفر خارج قراهم في المنطقة (ج) المرور عبر نقاط التفتيش التي يحرسها جنود إسرائيليون يتسمون بتقلب المزاج في كثير من الأحيان.
يمكن رؤية حصيلة هذه المضايقات في مصاطب أشجار الزيتون المهجورة على طول الطريق الشمالي بالقرب من الخليل. ويخشى المزارعون الفلسطينيون قطف زيتونهم – أو منعهم جسديًا من القيام بذلك. وقد أخبرني دبلوماسي غربي أن إنتاج زيت الزيتون في الضفة الغربية قد يكون أقل بنسبة 35 بالمئة من المتوسط هذا العام نتيجة لذلك.
تعتبر القدس جوهرة هذه الأرض، وهي أيضًا ساحة المعركة الأكثر اضطرابًا بين المستوطنين والإسرائيليين – والمكان الذي ستواجه فيه الولايات المتحدة التحدي الأكبر في صياغة تسوية. وقد أظهر لي سايدمان أنا ومسؤولين في وزارة الخارجية كيف تبدو ساحة المعركة المقدسة هذه. وتتلخص مخاوفه في عنوان دراسة أعدها هذه السنة للقادة السياسيين والدينيين في جميع أنحاء العالم بعنوان “التطويق الاستراتيجي لمدينة القدس القديمة”.
من جبل المشارف، في القدس الشرقية، أشار سايدمان عبر التلال نحو مستوطنة كبيرة تسمى معاليه أدوميم، التي تضم حوالي 40 ألف شخص. لعدة عقود، كان القادة الإسرائيليون يأملون في توسيعها بشكل كبير من خلال مشروع يعرف باسم “إي1”. ويطلق سايدمان على ذلك اسم “الجسر البري ليوم القيامة” الذي من شأنه أن يقسم أي دولة فلسطينية مستقبلية إلى نصفين، ويفصل الجنوب عن الشمال.
أخذنا سايدمان إلى الجنوب الشرقي إلى جبل الزيتون وإطلالة على مدينة القدس القديمة، وهي مدينة مقدسة لدى الديانات الثلاث. ورأينا قبة الصخرة الذهبية والمسجد الأقصى الذي يقدسه المسلمون، وحديقة جثسيماني وغيرها من الأماكن المقدسة المسيحية، وخارج جبل الهيكل حيث تقع المساجد، يوجد الحائط الغربي – “حائط المبكى” – وهو مقدس لليهود.
يتمثّل أحد الأهداف الكبيرة للإسرائيليين المحافظين المتدينين في تعزيز وجودهم في جميع أنحاء منطقة القدس. وإلى الجنوب، أشار سايدمان إلى المكان الذي يخطط فيه المستوطنون لبناء عربة تلفريك فوق منطقة سلوان ذات الأغلبية الفلسطينية والتي ستصل إلى أسوار المدينة القديمة. وإلى الشمال، حيث تقع المواقع المسيحية، يدور الحديث عن إنشاء مدينة ترفيهية توراتية تشرف عليها سلطة الحدائق الإسرائيلية. وأخبرني سايدمان أن الصراع السياسي حول القدس “كان مدفوعا بجنون الفتنة الدينية”.
داخل البلدة القديمة، قمت بزيارة مع المتظاهرين الشباب الذين يحاولون منع بناء فندق فخم جديد داخل أسوار المدينة في الحي الأرمني، في موقف للسيارات وأرض مجاورة أجرها البطريرك الأرمني لمطوّر إسرائيلي أسترالي. ومنذ ذلك الحين، قدم البطريرك أوراقًا إلى السلطات الإسرائيلية لسحب موافقته على عقد الإيجار، لكن الجرافات حاولت تنفيذه رغم ذلك. وأوضح زعيمهم، هاكوب جيرنازيان، أن اعتصام الأرمن يعرقلهم حتى الآن.
تقع مدينة رام الله، مقر السلطة الفلسطينية، شمال القدس. وهي مركز ضيق وخانق تقريبًا بالنسبة لسكان المنطقة (أ)، التي تشكل 18 بالمئة من الضفة الغربية وتخضع اسميًا لسيطرة الفلسطينيين. ولكن حتى هنا، فإن سلطتهم محدود. وفي صباح زيارتي، اقتحم الجنود الإسرائيليون واعتقلوا شابين فلسطينيين أمام متجر صغير يسمى سوق الزيتون.
من المفترض أن تقوم قوات الأمن الفلسطينية بحفظ النظام هناك. لكن السكان المحليين يشكون من أن المهمة الرئيسية للقوات الفلسطينية هي الاتصال بإسرائيل، وأنهم لا يستطيعون حماية الفلسطينيين من العدوان الإسرائيلي. وقد مررت بالقرب من ثلاثة مكاتب منفصلة لقوات الأمن، كل منها عبارة عن مبنى حديث لامع. ومن الواضح أن لديهم المال، ولكن يتمتعون بقليل من السلطة.
قمت بزيارة صبري صيدم، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح التي كانت لفترة طويلة المجموعة السياسية المهيمنة في الضفة الغربية ولكن تواجه تحديا متزايدا من قبل حماس. كان يرتدي ملابس سوداء بالكامل، في مكتب مزين بصور ياسر عرفات، الزعيم الشهير لمنظمة التحرير الفلسطينية وأول رئيس للسلطة الفلسطينية.
يقال إن حركة فتح والسلطة الفلسطينية أعدتا “بيان رؤية” حول ما سيأتي بعد الحرب، ويزعمان أن لديهما ما يصل إلى 40 ألف عضو من فتح في غزة يمكن إعادة تنشيطهم للقيام بمهام أمنية. وربما يمكن تنشيط السلطة الفلسطينية للقيام بهذا الدور، كما تأمل إدارة بايدن. لكنهم في الوقت الحالي لا يقومون بعمل جيد حتى في السيطرة على أجزاء الضفة الغربية التي تقع تحت مسؤوليتهم.
إن السفر شمالاً من رام الله يشبه تقطيع كعكة ذات طبقات. تمر بقرية فلسطينية، ثم بمستوطنة على قمة تل، ثم قرية أخرى، ثم موقع استيطاني غير رسمي، ميلًا بعد ميل.
في شباط/ فبراير، احتضنت حكومة نتنياهو تسعة من تلك البؤر الاستيطانية وجعلتها مستوطنات رسمية. ومن المحتم أن يؤدي مشهد الشطرنج هذا إلى التوتر، وقد رأيت عواقب مثالين شريرين على الطريق شمالًا باتجاه نابلس – حيث هاجم المستوطنون والجنود الإسرائيليون القرى الفلسطينية فيما قالوا إنه انتقام من الهجمات الإرهابية. ونددت وزارة الخارجية بأحد هذه الاعتداءات، حيث دمر الجنود منزل عائلة لمعاقبة طفل يبلغ من العمر 13 سنة، ونشرت تغريدة قالت فيها: “لا ينبغي لعائلة بأكملها أن تفقد منزلها بسبب تصرفات فرد واحد”.
هاجم حوالي 200 “مستوطن هائج”، كما أسمتهم صحيفة “واينت” الإسرائيلية، قرية ترمسعيا في 21 حزيران/ يونيو. جاء العديد منهم من مستوطنة مجاورة تسمى “شيلوه”، وكان بعضهم ملثمين. وحسب موقع “واينت”، فقد أحرقوا نحو 30 منزلا و60 سيارة مما أسفر عن مقتل فلسطيني وإصابة 12 آخرين.
وأوضح متحدث باسم منظمة “ييش دين”، وهي منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية التي جمعت شهادات حول الهجوم، عبر البريد الإلكتروني، أن “الضحايا قرروا عدم تقديم شكوى بسبب عدم ثقتهم في السلطات. وذكروا أن الجنود “الإسرائيليين” كانوا متواجدين ولم يوقفوا الهجوم”.
أخبرني أحد سكان ترمسعيا أن كل ما كان بوسع عائلته فعله هو محاولة إخماد الحريق قبل أن يدمر مسكنهم. وفي الطرف الغربي من المدينة، مقابل مشارف مستوطنة شيلوه، تم تكديس أربع سيارات فلسطينية محترقة في نصب تذكاري معدني متفحم للهجوم. وصدمت إراقة الدماء في ترمسعيا المسؤولين الأميركيين جزئيا لأن غالبية سكان البلدة يحملون جوازات سفر أميركية. وقام أندرو بي ميلر، نائب مساعد وزير الخارجية الذي يراقب المنطقة، بزيارة البلدة في آب/ أغسطس للتعبير عن تعازيه.
وعلى مسافة أبعد من الطريق، تصل إلى بلدة حوارة، التي هاجمها المستوطنون المجاورون في 26 شباط/ فبراير. وبحسب الأدلة التي قدمتها لي منظمة “ييش دين”، أحرق المستوطنون عشرات السيارات في إحدى الوكالات، وأضرموا النار في منزل بسكانه. وبالداخل وتجولوا في البلدة وقاموا بإحراق سيارات ومنازل أخرى ومهاجمة سيارة واحدة بفأس. تم في وقت لاحق اعتقال إسرائيليين، أحدهما من مستوطنة يتسهار والآخر من بؤرة استيطانية تسمى جفعات رونين، وفقا لوكالة “أسوشيتد برس”.
استمرت أعمال العنف في مدينة حوارة، التي كانت ذات يوم مركزًا تجاريًا مزدهرًا، ولكن عندما زرتها، لم يكن بها سوى عدد قليل من حركة المرور في الشارع الرئيسي. حتى الجنازات ليست آمنة. ففي جنازة في حوارة بعد هجوم وقع في السادس من شهر تشرين الأول/ أكتوبر أدى إلى مقتل شاب فلسطيني يبلغ من العمر 19 سنة، بزعم أنه ألقى حجرا على سيارة إسرائيلية، هاجم المستوطنون والقوات مرة أخرى مما أدى إلى إصابة 51 فلسطينيًا، وذلك وفقًا لوكالة “رويترز”. وزار بتسلئيل سموتريش، وزير المالية الإسرائيلي وزعيم الجماعات المؤيدة للاستيطان، البلدة في وقت لاحق وقال إن على إسرائيل أن تتخذ إجراءات أكثر صرامة ضد المسلحين الفلسطينيين “لإنقاذ الأرواح وإعادة الأمن”.
في اليوم الذي زرت فيه حوارة، كان الوضع في المدينة لا يزال مضطربا. وكان جاسم عودة قد أعاد للتو فتح كشك القهوة الصغير الخاص به على بعد بضع عشرات من الياردات من نقطة حراسة تابعة للجيش الإسرائيلي. وأخبرني أنه “طالما أن الجيش يحمي المستوطنين، فلن أعيش حياة طبيعية”.
إن حماية الجيش للمستوطنين من أخطر جوانب الفوضى الاستيطانية – والأكثر إثارة للحيرة. أوضح شاؤول، الذي يدير مجموعة تسمى “أوفيك: المركز الإسرائيلي للشؤون العامة”، أنه في ظل الحرب في غزة، تُركت مهام الضفة الغربية في الغالب لجنود الاحتياط، الذين ينحدر بعضهم من المستوطنات ويخدمون في “وحدات الدفاع الإقليمية”. وقال شاؤول إن بعض المستوطنين الذين خدموا في الجيش ارتدوا ببساطة زيهم القديم عندما نفذوا مداهمة.
كان علي حسين، الذي يعيش في قرية مجاورة، يشرب قهوته الصباحية في شارع حوارة الرئيسي الهادئ. هزّ رأسه بسخرية ونحن نناقش كيفية إنهاء العنف قائلا “عندما نتحدث عن دولة فلسطينية، فهذا غير واقعي. لقد استولى المستوطنون على معظم الأراضي”. وقال إن وعد إدارة بايدن بـ “اليوم التالي” الأكثر سعادة كان بمثابة علاج للمخدرات. في آخر يوم لي في الضفة الغربية، قمت بزيارة عائلة كشكيش الذين سبق أن التقيت بهم قبل 41 سنة عندما أمضيت معهم أسبوعًا في مدينة حلحول بالقرب من الخليل. وعندما أحاول استحضار واقع الحياة الفلسطينية، أفكر بهم.
توفي حمادة، وهو قاطع حجارة وكان رب الأسرة، في 10 حزيران/ يونيو عن عمر يناهز 74 سنة. لم يعش ليرى حرب غزة، التي كانت ستدمر ما بقي له من بقايا أمل في المستقبل. استقبلتني زوجته انتصار، التي لا تزال شابة في الستين من عمرها، مع ابنها مؤيَّد وعدد من بناتها.
مثل العديد من العائلات الفلسطينية، تمكنت هذه العائلة من الصمود من خلال العمل والدراسة الجادّة والبقاء بعيدًا عن المشاكل. حصلتُ على معلومات عن الابنين، أحدهما ميكانيكي في مدينة مينابوليس حاليا والآخر يدير متجرًا للإلكترونيات في مدينة حلحول، والبنات الخمس بينهن ممرضة وطالبة قانون وطالبة رياضيات. أخبرني مؤيَّد بأن “العيش في الضفة الغربية أصبح كابوسا. أنت تحت الحصار في مدينتك. لا يمكنك اصطحاب عائلتك إلى أي مكان. أنتم تعيشون في مقاطعات، منفصلين عن الجميع. وكل ما تريده في هذه اللحظة هو البقاء على قيد الحياة، وعدم خسارة أي شخص في عائلتك”.
هل هناك نهاية سعيدة لهذه القصة؟ ربما لا، ما لم يتمكن بايدن من تقديم دفعة دبلوماسية لم نشهدها منذ أيام الرئيسين جيمي كارتر وبيل كلينتون. ولكن خلال رحلتي، التقيت بالعديد من الإسرائيليين والفلسطينيين الشجعان الذين يعملون معًا لتوثيق العقبات التي تعترض السلام، لدرجة أنني أستطيع أن أرى طريقًا للمضي قدمًا – إذا كانت لدى الولايات المتحدة الشجاعة لمساعدتهم.
الصحيفة: واشنطن بوست