خلال استمرار الأوضاع العسكرية في سوريا واشتداد المعارك على عدة جبهات، تبتعد روسيا قليلاً عن جو الحرب والقتال للدخول في معترك اقتصادي مهم في سوريا، وهو الاستثمار في آبار النفط والغاز والفوسفات.
وأمام عمل هذه الشركات في تلك الحقول والبدء بعملية الإنتاج وضمان تسويق الإنتاج عبر مواني تسيطر عليها روسيا في الواجهة البحرية السورية، تظهر مخاطر عديدة على مستقبل الاقتصاد السوري والمواطن والبلاد برمتها، علمًا أن هذا فقط من ناحية الثروات الطبيعية، فكيف من ناحية سداد الديون المترتبة على النظام السوري والتي تقدر بعشرات مليارات الدولارات والتي من شأنها أن تكون عبئًا ثقيلاً على أي حكومة سورية في المستقبل.
استثمارات روسية في النفط والفوسفات
على مستوى النفط والفوسفات بدأت شركات روسية العمل في الحقول السورية الموزعة في مناطق سيطرة النظام وروسيا، إذ باشرت شركة الملياردير الروسي تيموشينكو، بتنفيذ أعمال صيانة منذ مطلع يونيو/حزيران الماضي، في مناجم فوسفات تقع في منطقة خنيفيس قرب مدينة تدمر في محافظة حمص وتعد من أكبر مناجم الفوسفات في سوريا.
كانت منطقة مناجم الفوسفات تقع تحت سيطرة “داعش” الواقعة بالقرب من تدمر حيث يوجد أكبر منجمي فوسفات في سوريا وبعد خروج “داعش” في مايو/أيار الماضي وضعت الشركات الروسية تلك المناجم نصب عينيها لاستثمارها وبدأ الإنتاج فيها.
ومن المتوقع أن يبدأ الإنتاج من هذه المناجم في الأسابيع المقبلة، بحسب ما نشرته مصادر روسية وبيان نشر على الموقع الرسمي للمؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية في سوريا.
منجم خنيفيس لإنتاج الفوسفات في محافظة حمص بسوريا
يُذكر أن النظام السوري صدق على اتفاقية في 23 من أبريل/نيسان الماضي، بين المؤسسة العامة للجيولوجيا السورية وشركة “ستنغ لوجيستك” الروسية التابعة لمجموعة “ستروي ترانس غاز”، والتي يملك فيها الملياردير الروسي تيموشينكو 31% من أسهمها، وتهدف الاتفاقية الموقعة لتنفيذ أعمال الصيانة اللازمة للمناجم وتقديم خدمات الحماية والإنتاج والنقل إلى مرفأ التصدير في لبنان “سلعاتا”.
لو تم تشكيل دستور وحكومة وطنيين بعد انتهاء الصراع في سوريا بإمكانهما إصدار قوانين وتشريعات تشير أن تلك العقود تمت في فترة حرب ولا تعبر عن إرادة الشعب السوري ويتم إبطالها
وتعدّ مجموعة “ستروي ترانس غاز” الروسية المستثمر الوحيد المعروف في سوريا، حيث بنت محطة لمعالجة الغاز، وتشيد حاليًا محطة ثانية لمعالجة الغاز، بقدرة 1.3 مليار متر مكعب سنويًا.
كان النظام السوري أوعز إلى وزارء حكومته مؤخرًا البدء بدراسة مشاريع في مختلف المجالات بغرض تقديمها للشركات الروسية والإيرانية للبدء في عملية الإنتاج والخروج من نفق الأزمة الاقتصادية التي تقع فيها البلاد، وبين موقع المؤسسة الجيولوجية السورية إنه تم وضع خطة لإعادة تأهيل البنية التحتية إضافة لرصد المبالغ المالية اللازمة، وذلك بعد أن تم تقييم واقع المناجم والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية لها وللمعامل من قبل العصابات الإرهابية المسلحة.
اهتمام الشركات الروسية بالفوسفات ليس غريبًا، فسوريا مصنفة على أنها خامس أكبر مصدر للفوسفات في العالم، ويعد منجم “الشرقية” الذي يبعد 45 كيلومترًا جنوب غرب مدينة تدمر، ومنجم “خنيفيس” 60 كيلومترًا جنوب غرب تدمر، من أهم وأكبر المناجم في سوريا، إذ بلغ إجمالي إنتاج المنجمين من الفوسفات قبل عام 2011 قرابة 3.5 مليون طن سنويًا، خصص معظمها للخارج بحيث يتم تصدير 3 ملايين طن، وفيما يتم استخدام نصف مليون طن في إنتاج الأسمدة في مصنع الأسمدة بمدينة حمص، بحسب أرقام المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية.
من شأن عقود الشركات الروسية في النفط والغاز والفوسفات أن تكبل الاقتصاد وأي حكومة سورية في المستقبل من تصميم نموذج تنموي من شأنه أن يخلص البلاد من ويلات الحرب التي استنزفت الاقتصاد السوري وأنهكته
أما بالنسبة للإنتاج النفطي فقد تولت شركة “يوروبوليس” الروسية هذه المسألة بعد توقيعها مذكرة تعاون مع وزارة النفط والثروة المعدنية السورية مطلع العام الجار، إذ تلتزم الشركة وفقًا لبنود الاتفاق بـ”تحرير مناطق تضم آبار نفط ومنشآت وحمايتها”، مقابل حصولها على ربع الإنتاج النفطي.
وحسب ما أوردت صحيفة الحياة اللندنية في 29 من يونيو/حزيران الماضي، فإن الاتفاق يدخل حيّز التنفيذ بعد إدخال تعديل قانوني في سوريا، ينص بوضوح على أن تكاليف العمليات العسكرية اللازمة لا تندرج ضمن بنوده، ما يعني أنها ستُدفع بشكل منفصل.
ويملك شركة “يوروبوليس” رجل الأعمال يفغيني بريغوجين، الذي كان يعمل متعهدًا لتقديم الوجبات إلى حفلات الكرملين، وعرف في الأوساط الأعمال الروسية بأنه “طبّاخ بوتين”، كونه أصبح مليارديرًا بسرعة فائقة، إلا أن شركته تلك لم تسجل لها غرفة التجارة الروسية أي نشاط تجاري في روسيا، وهو ما يثير حولها شبهات بأنها أسست لأغراض خاصة، وتأسست قبل ستة أشهر من توقيع المذكرة مع الحكومة السورية في أثناء زيارة وزير النفط والثروة المعدنية علي غانك إلى موسكو مطلع العام الحالي.
وبحكم أن الرجل مقرب من بوتين فهو يحظى بعقود دسمة في مناطق الصراع، وبالتأكيد سيكون لبوتين حصة فيها ولكن لن تظهر باسمه بالتأكيد، حيث صارت تحصد شركات بريغوجين أغلب عقود وزارة الدفاع الروسية، في قطاعات التغذية ومجالات الخدمات، بحسب وكالة “إنترفاكس” ومن ثم انتقل الرجل إلى العقود الأدسم في كل من أوكرانيا وسوريا ليحظى بعقود إنتاج النفط والغاز.
يمكن أن يكون بريغوجين أحد تجار الحروب الذي توكل له صفقات تحتاج إلى جيش خاص لتأمينها، إذ يتميز العمل في مناطق الصراع كما في سوريا باحتمال مواجهات عسكرية في أي وقت ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في ريف حمص ووصولًا إلى دير الزور حيث توجد حقول النفط والغاز.
أثر تلك العقود على الاقتصاد السوري مستقبلاً
يتعلق أي أثر لتلك العقود بشكل مستقبل الصراع في سوريا وآلية حله، إضافة إلى من سيخلف النظام السوري وشكل الحكومة والبرلمان والدستور، فإذا تم تجهيز تلك الأمور وطبخها في موسكو فإن الشركات الروسية لن تخشى على عقودها على المدى الطويل، وهذا سيكون له آثار مدمرة على الاقتصاد السوري على المدى البعيد، كما حصل في حقبة الانتداب الفرنسي لسوريا إذ جعلت فرنسا البلاد سوقًا لمنتجاتها المصنعة في فرنسا إضافة إلى استغلال الثروات الطبيعية السورية دون الالتفات إلى المصالح الوطنية السورية.
إجمالي إنتاج الفوسفات في سوريا من منجمي تدمر قرابة 3.5 مليون طن سنويًا
من شأن تلك العقود برأي محللين أن تكبل الاقتصاد وأي حكومة سورية في المستقبل من تصميم نموذج تنموي يخلص البلاد من ويلات الحرب التي استنزفت الاقتصاد السوري وأنهكته، إذ ستعمل الشركات الروسية على امتصاص الثروات الطبيعية السورية كنوع من استرداد ديونها وثمن تدخلها العسكري في سوريا، إذ أشارت تقارير أن ديون إيران المستحقة على سوريا قدرت بـ35 مليار دولار بينما تقدر ديون روسيا بأكثر من ذلك.
ويرى مراقبون أنه على النقيض إذا تم تشكيل دستور وحكومة وبرلمان وطني، بإمكانهم إصدار قوانين وتشريعات تشير أن تلك العقود تمت في فترة حرب ولا تعبر عن إرادة الشعب السوري وتقف ضد مصالحه ونهضته الوطنية بعد انتهاء الصراع وأن الأسد قايض ثروات سوريا مقابل بقائه في الحكم وكثمن لمساعدة تلك الدول لنظامه ضد الثورة السورية، وبالتالي يتم إبطالها باعتبار أنها “ديون كريهة” كما تعرف من قبل الاقتصاديين.
بقي الإشارة أن الوجود العسكري الروسي متجذر منذ ما قبل الثورة والتعاون بين البلدين ممتد منذ أيام الاتحاد السوفيتي، ويشار أن الاتحاد السوفيتي كان من أوائل من اعترف باستقلال سوريا في العام 1946 كما اعتمد النظام السوري في عهد حافظ الأسد على التزود عسكريًا من عتاد وأسلحة روسية بشكل كبير إضافة إلى التعاون في مجالات كثيرة أخرى، وهو ما رتب ديون كبيرة على النظام السوري بلغت نحو 13 مليار دولار، وكان العام 2005 محطة مهمة في تلك الديون، إذ تم شطب 73% من تلك الديون مقابل منح الروس قاعدة عسكرية في محافظة طرطوس الساحلية، غربي سوريا، وهي أشهر ملامح الوجود الروسي في سوريا، إضافة إلى توقيع 6 اتفاقيات شملت مجالات عدة على رأسها النفط والغاز.
يتعلق أي أثر لتلك العقود بشكل مستقبل الصراع في سوريا وآلية حله، إضافة إلى من سيخلف النظام السوري وشكل الحكومة والبرلمان والدستور
وبعد اندلاع الثورة في مارس/آذار 2011 تعزز التدخل الروسي في سوريا من خلال المساعدات المالية والعسكرية للنظام، ومن ثم تم استدعاء روسيا للتدخل في سوريا بشكل رسمي ودعوة الأسد لروسيا لتوسيع نفوذها في سوريا والمنطقة، وإضافة إلى قاعدة طرطوس تم إنشاء قاعدة حميميم في اللاذقية، وقاعدة عسكرية أخرى في مدينة جبلة في اللاذقية هذا غير آلاف العساكر الروس الذين تم إرسالهم إلى سوريا لمساندة قوات الأسد، فضلاً عن الطائرات والسفن البحرية وغيرها.