ما فتئ المصريون يستفيقون من صدمة سد النهضة وما يحمله من تهديدات لمستقبل الأمن المائي المصري إلا ويستيقظون على كارثة جديدة تضع هبة النيل في موقف متأزم وتزيد من القلق حيال ما يحمله الغد لشعب يعاني في الأساس من فقر مائي.
في التاسع عشر من يونيو الماضي فوجئ المصريون بإعلان تدشين مشروع لنقل مياه النيل من إثيوبيا إلى جيبوتي برعاية صينية، المشروع يتحدث عن نقل 100 ألف م3 يوميًا، مما يعني تهديد حصة مصر من مياه النهر من جانب، والقلق من التعرض لجفاف النيل خلال السنوات القادمة من جانب آخر.
العديد من علامات الاستفهام تطل برأسها بحثًا عن إجابة لعل أبرزها السؤال عن موقف القاهرة مما يمارس بمحيطها الجنوبي، وأين الدبلوماسية المصرية من العبث بأمنها المائي؟ وهل شجع الفشل في تحقيق أي انتصار يذكر في معركة سد النهضة أديس أبابا وجيرانها على تدشين العديد من المشروعات الأخرى دون اعتبار لأي ردود فعل مصرية؟
ماذا عن المشروع؟
في كلمته خلال حفل تدشين المشروع، أكد الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيله، على أهمية هذه الخطوة الاستراتيجية التي تعكس حجم التعاون المثمر بين بلاده وإثيوبيا والصين، كذلك ما يحمله المشروع من فائدة عظمى لتحقيق الأمن المائي لبلاده، حسبما نقلت صحيفة “القرن” الصادرة عن وزارة الإعلام في جيبوتي.
جيله برر اللجوء إلى مثل هذه المشروعات بقوله “جمهورية جيبوتي تعاني من الجفاف المتكرر والمتواصل بالإضافة إلى قلة الأمطار الموسمية، مما أدى إلى ندرة المياه الجوفية التي نستخدمها في احتياجاتنا اليومية، والتي تعتبر غير كافية نظرًا لتزايد عدد السكان في العاصمة والأقاليم الداخلية وكان لزامًا علينا أن نبحث عن حلول ناجعة لهذه المشكلة بتبني هذا المشروع في نهاية المطاف”.
المشروع يعتمد على ضخ 400 مليون م3 لجيبوتي من مياه نهر النيل، مما يهدد دول المصب كافة بشكل عام ومصر بصورة خاصة، ليس من نقص المياه فقط، بل من جفاف المياه على مدى السنوات القادمة
المشروع يهدف إلى توصيل المياه العذبة من مدينة “هدجالا” الإثيوبية إلى إقليم “علي صبيح” الجيبوتي، من خلال ضخ ما يقدر بنحو 100 ألف م3 من المياه يوميًا، حسبما أشار مدير المشروع ديميلاش مولو، الذي أكد أنه سيكون جاهزًا للعمل في غضون ثلاثة أشهر.
مولو قال في تصريحات له أيضًا: “المشروع من المتوقع أن يوفر مياه شرب لما يزيد على 700 ألف مواطن جيبوتي وأنه قد تم اختباره قبل ثلاثة أسابيع، وأثبت نجاحه”، مؤكدًا على استمرار العمل في المشروع الممول صينيًا عبر بنك التصدير والاستيراد الصيني والشركة الصينية سغكوك.
السفير الصيني في جيبوتي فو هوا تشيانغ لفت في حفل تدشين المشروع إلى متانة العلاقات الصينية الجيبوتية، مضيفًا إلى أن هذا المشروع الذي يقدر تكلفته بمبلغ 300 مليون دولار سيساهم في جهود جيبوتي الرامية للحد من نقص المياه الصالحة للشرب في البلاد.
وفي المقابل أثنى السفير الإثيوبي في جيبوتي، شاميبو فيلامو أبيبو، على هذا المشروع الذي يجسد العلاقات القوية بين البلدين، مضيفًا “تنفيذ هذا المشروع لنقل المياه بين البلدين كان من ضمن المشاريع الثنائية التي خطط لها في عهد رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ميليس زيناوي”.
ويشمل المشروع أنابيب ضخمة تدفن في الأرض يبلغ قطر كل منها مترًا وطولها 7 أمتار وتبلغ المسافة التي يجري فيها هذا الرابط المائي 358 كيلومترًا من الآبار الجوفية بمنطقة مدينة “هدجالا” الإثيوبية إلى ضواحي مدينة “علي صبيح” الجيبوتية، ويتم عبر هذه الأنابيب ضخ 100 ألف م3 من المياه العذبة يوميًا من 28 بئرًا بعمق 500 متر وتستغرق رحلة هذه المياه المنقولة من حقول الآبار في إثيوبيا إلى وحدات التخزين والاستيعاب في جيبوتي مدة يومين بسرعة (0.50 متر/ثانية).
المشروع يهدف إلى ضخ ما يقدر بنحو 100 ألف م3 من المياه يوميًا من إثيوبيا لجيبوتي وبتمويل قدره 300 مليون دولار ويكون جاهزًا للعمل في غضون 3 أشهر
الرئيس الجيبوتي خلال حفل تدشين المشروع
الأمن المائي المصري في خطر
لا شك أن مثل هذه المشروعات وغيرها تمثل تهديدًا صريحًا لمستقبل مصر المائي نظرًا لما تستنزفه من مياه النيل، مما ينعكس بصورة أو بأخرى على حصة القاهرة من المياه وهي القضية الأكثر خطورة وجدلاً خلال السنوات الماضية.
المشروع يعتمد على ضخ 400 مليون م3 لجيبوتي من مياه نهر النيل، ومن ثم فإن آثار هذه الخطوة ستكون كارثية على دول المصب كافة بشكل عام وعلى مصر بصورة خاصة، ليس من نقص المياه فقط، بل من جفاف المياه على مدى السنوات القادمة، حسبما أشار موقع “البديل” المصري نقلاً عن موقع “theconversation.com“.
الموقع المصري حذر من كارثية الوضع في هذه الحالة لا سيما مع تأكيد الرئيس الإثيوبي أن هذا المشروع لن يكون الأخير، بل بداية لعدة مشاريع قومية، خاصة في مجال المياه بين البلدين في المستقبل، متسائلاً عن الدبلوماسية المصرية وغيابها عما يحاك بأمنها المائي في الجنوب.
يعد فشل الخارجية المصرية في إحداث أي حراك إيجابي في ملف سد النهضة إعطاءً للضوء الأخضر لإثيوبيا في التصرف في مياه النيل كما يحلو لها
ومما يزيد من خطورة ما تحمله الأيام القادمة بشأن مستقبل مصر المائي، اقتراب موعد الانتهاء من بناء سد النهضة الإثيوبي رغم استمرارية المفاوضات واللقاءات بين مسؤولي القاهرة وأديس أبابا حتى الآن والتي بلغت قرابة 12 جولة باءت جميعها بالفشل.
الدكتور علاء النهرى نائب رئيس المركز الإقليمي لعلوم الفضاء بالأمم المتحدة، أشار في تصريحات صحفية له أن آخر صور التقطتها الأقمار الصناعية لسد النهضة الإثيوبي، رصدت انتهاء إثيوبيا من تنفيذ 60% من الأعمال الإنشائية للسد، حيث سيصل ارتفاع السد بعد الانتهاء منه إلى 175 مترًا بطول 1800 متر، فضلاً عن بدء عملية التخزين الجزئي للمياه، خاصة مع انتهاء إثيوبيا من إنشاء توربينين كاملين وتشغيلهما وإطلاق المياه فيهما لتوليد الكهرباء، مما يرفع منسوب المياه فوق 40 مترًا وراء السد وهو ما يعني بدء عملية التخزين فعليًا.
النهري أشار إلى أن الصور الملتقطة تؤكد تحويل أديس أبابا لمجرى نهر النيل، بالإضافة إلى قرب الانتهاء من بناء السد، حيث انتهت من بناء 16 بوابة كاملة، مشيرًا إلى أن البوابات من ماركة “francis” الأمريكية الصنع تعمل عندما يكون عمود الماء فوقها بحد أدنى 40 مترًا.
جدير بالذكر أن مصر باتت على مشارف فقر مائي، وهو ما أشار إليه الدكتور مصطفي مدبولي وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية الجديدة، في تصريحات له خلال مؤتمر تحلية المياه في الدول العربية الذي عقد مؤخرًا بالقاهرة.
مدبولي أوضح أنه رغم امتلاك مصر للمياه العذبة لكنها بالفعل دخلت في مرحلة الفقر المائي لأن نصيب الفرد 700م3 فقط والأمم المتحدة قررت أن يكون نصيب الفرد سنويًا 1000م3 وألا تكون الدولة في مرحلة فقر مائي، ومع تزايد معدلات السكان يصبح الوضع كارثيًا.
الرئيس الإثيوبي يقول إن هذا المشروع لن يكون الأخير، بل بداية لعدة مشاريع قومية، خاصة في مجال المياه بين بلاده وجيبوتي في المستقبل
مصر تدخل مرحلة الفقر المائي وفق معايير الأمم المتحدة
الدبلوماسية المصرية.. أين؟
كشفت معركة سد النهضة فشل الدبلوماسية المصرية في التعامل مع هذا الملف الحساس، وهو ما استثمرته إثيوبيا بشكل جيد، ففي الوقت الذي انشغلت فيه القاهرة بالحديث عن الجوانب الفنية لبناء السد، وتقييم عملية المخاطر، واصلت أديس أبابا مسيرتها نحو البناء حتى إنها اقتربت وبصورة كبيرة من الانتهاء منه بكل مشتملاته.
الاتفاق الثلاثي المبرم بين مصر وإثيوبيا والسودان مارس 2015 أعطى قبلة الحياة لإثيوبيا فيما يتعلق بمصير ومستقبل السد، إذ إنه منح الشرعية الكاملة لأديس أبابا للحصول على التمويل الدولي اللازم لبنائه وهو ما كانت تعول عليه القاهرة في فشل أديس أبابا في إتمام البناء والتشييد.
ويعد فشل الخارجية المصرية في إحداث أي حراك إيجابي في ملف سد النهضة إعطاءً الضوء الأخضر لإثيوبيا في التصرف في مياه النيل كما يحلو لها، حيث تعهدت بمد جيبوتي بالمياه كمرحلة أولية نحو مشروعات مستقبلية قادمة، فضلا عما يثار بشأن تزويد المياه لبعض الدول الخليجية أو “إسرائيل” إضافة إلى ما تعهدت به في السابق بشأن تزويد السودان بالكهرباء الناتجة عن مياه سد النهضة وغيرها.
البعض ذهب في تحليلاته إلى أن الموقف الإثيوبي الآن يقف على أرض صلبة في ظل ما يتمتع به من قوة جرًاء الدعم المقدم له من بعض القوى الإقليمية والدولية فضلا عن حضوره الإفريقي الذي فرض نفسه في السنوات الأخيرة في أعقاب تراجع الدور المصري، مما يثير القلق لدى الكثير من المصريين بشأن مستقبلهم المائي في ظل انكفاء النظام الحاكم على أزماته الداخلية بعيدًا عما يحاك له في خاصرته الجنوبية.
ولا زال الموقف السلبي حيال ملف سد النهضة يضاجع طموحات المصريين في مستقبل آمن مائيًا، إذ إن رد الفعل لن يختلف كثيرًا حيال مشروع إثيوبيا – جيبوتي، كذا حال تدشين مشروعات مستقبلية جديدة، وهو ما قد ينقل مصر إلى مرحلة من الفقر المائي تزيد الوضع تأزمًا.