يقول الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت: “أهمية الكتب في حرب الأفكار تماثل أهمية السفن في الحروب البحرية”، ومن المرجح أن الكتب في ذلك الوقت كانت من أهم مصادر المعرفة وبالتالي فقد كانت إحدى الوسائل الرئيسية في حرب الأفكار.
لكن ومع ازدياد أهمية البروباغندا والنشاطات الدعائية بشكل كبير منذ ذلك الوقت، فقد تطورت الأساليب المستخدمة في حروب الأفكار لتصبح أكثر تعقيدًا من ذي قبل، كما أصبحت الحروب “متعددة الوسائل” توازي في أهميتها الحروب التقليدية، خاصةً بعد انتشار مفهوم “القوة الناعمة” (Soft Power) وازدياد تأثيرها بشكل كبير في تشكيل طبقات النفوذ الدولية، حيث يمكن اختصار مفهوم القوة الناعمة كما صاغه جوزيف ناي بوصفها القدرة على الجذب والضم دونما اللجوء للإكراه أو استخدام القوة الخشنة بمفهوميها التقليديين “القوة العسكرية والقوة الاقتصادية”.
تمثل حرب الأفكار في الأزمة الخليجية الأخيرة جبهة أساسيةً للمواجهة بين أطراف النزاع، ومن الملفت للنظر أن وسائلها قد تخطت الكتب والمنشورات التي تحدث عنها روزفلت ليظهر بين الأشقاء نمط آخر من وسائل المواجهة والذي يعد نوعًا من الخروج عن قواعد اللعب أو (الضرب تحت الحزام إن صح التعبير).
حيث تشمل هذه الوسائل كلاً من الهجمات الإلكترونية وما يرتبط بها من صحافة التسريبات والفضائح، ونشاطات البروباغندا الإعلامية المدعومة بمراكز الأبحاث وقنوات التواصل وشبكات الباحثين، كما يضاف لها تنافس المؤسسات الدينية ورجال الدين، وحرب العلاقات العامة ومجموعات الضغط (Lobbying Groups) التي تؤثر مباشرةً في المحافل الدولية ومراكز صنع القرار في العواصم الغربية.
فإذا ما أردنا التنبؤ بمدى أهمية حرب الأفكار في هذا النزاع يكفي النظر إلى طبيعة المطالب الخليجية التي نقلتها الكويت لقطر وتم تسريبها للإعلام لاحقًا، والتي تُمكِننا من الجزم بأن السبب المباشر للأزمة الخليجية تخوف الدول المقاطعة (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على وجه الخصوص) من ازدياد النفوذ القطري، حيث يمكن أن يُنظر إلى القوة الناعمة التي تتمتع بها قطر كتهديد لأمن واستقرار هاتين الدولتين خاصةً بالنظر إلى طبيعة الأنظمة الشمولية التي تحكمهما.
من المؤكد أن اختيار دولة قطر للقوة الناعمة لم يأت بمحض الصدفة، حيث إن رغبتها في زيادة تأثيرها قد قُوبلت بواقع استحالة تحقيق هذا عسكريًا نظرًا لصغر حجمها وموقعها الجغرافي المتموضع في قلب الصراع بين اثنين من أكبر اللاعبين الإقليميين (المملكة العربية السعودية وإيران)
فلقد تراوحت المطالب بين إغلاق عدد من المنافذ الإعلامية القطرية أهمها قناة الجزيرة والتخلي عن دعم جماعات معينة وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، كما طالت المطالب تدخلًا بالسياسة الخارجية القطرية مثل طلب تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي في إيران والتخلي عن الوجود العسكري التركي على الأراضي القطرية.
إن امتثال قطر للمطالب الخليجية يعد أمرًا شبه مستحيل، لأنه وبحسب رأي الخبير في شؤون الشرق الأوسط السيد حسن حسن يعني بالضرورة التخلي عن عشرين عامًا من الجهود القطرية التي بنت من خلالها نموذج قوتها الناعمة الفريد من نوعه.
ومن المؤكد أن اختيار دولة قطر للقوة الناعمة لم يأت بمحض الصدفة، حيث إن رغبتها في زيادة تأثيرها قد قُوبلت بواقع استحالة تحقيق هذا عسكريًا نظرًا لصغر حجمها وموقعها الجغرافي المتموضع في قلب الصراع بين اثنين من أكبر اللاعبين الإقليميين (المملكة العربية السعودية وإيران)، لذلك فقد كان استخدام القوة الناعمة الحل الأمثل لهذه المعضلة الجيواستراتيجية.
إذًا فإن قائمة المطالب جاءت كمحاولة لنزع الميزة الاستراتيجية التي تتمتع بها قطر أولًا ومن ثم لعزلها عن محيطها غير العربي ليسهل التفاهم معها فيما بعد، أما بالنسبة لطرق الضغط عليها فقد تراوحت بين استخدام القوة الناعمة تارةً والقوة الاقتصادية تارةً أخرى، في حين يبقى احتمال قيام أي عمل عسكري ضدها ضعيفًا نسبيًا لأسباب عدة.
الخروج عن قواعد اللعبة
إن مستوى الهجوم غير الاعتيادي الذي قامت به الدول المقاطعة ضد قطر قد جاء بمثابة الحل الأخير، بعد عدم نجاح العديد من المحاولات لمعادلة نموذج القوة الناعمة التي استحوذت عليه قطر، فلقد تميزت قطر بقدرتها على كسب تأييد الرأي العام العربي بشكل مبكر في تسعينيات القرن المنصرم معتمدةً على قناة الجزيرة التي كانت وسيلة لكسب قلوب وعقول العرب وفقًا لكتاب نشره الضابط وخبير التواصل الاستراتيجي في الجيش البريطاني ستيف تاتهام.
ولم تقف قطر عند هذا الحد بل عملت جاهدةً على دعم نفوذها الإعلامي وتطوير منصاتها من خلال التوجه إلى المدونات ومنابر الإعلام الجديد (New Age Media) لتبقى متربعةً على عرش النفوذ الإعلامي في الوطن العربي، كما أن قطر لم تكتف ببناء تأثير إعلامي قوي بل ذهبت أبعد من ذلك لتدعمه بواسطة الاستثمار في مفكرين وباحثين ومحللين ذوي توجهات محددة لتبني من خلالهم نموذجها الأيديولوجي المتباين، والمتمثل في دعم الحركات الشعبية عمومًا (ابتداءً بالانتفاضة الفلسطينية وانتهاءً باحتجاجات ما سُمي بالربيع العربي).
ومن المثير للدهشة أن محاولات المملكة العربية السعودية الرامية للتفوق على قطر لم تلق نصيبها من النجاح، كما لم تستطع الإمارات العربية المتحدة أن تستثمر تفوقها بالتسويق والعلاقات العامة في المجالات التجارية، حيث كان حريًا بها أن تحدث نقلة نوعية من التسويق التجاري إلى الدعاية الإعلامية المنظمة، وتعد الولايات المتحدة من الرواد الأوائل الذين استطاعوا القيام بنقلة مماثلة يتم استخدام التسويق التجاري فيها لأغراض عسكرية وسياسية.
الطريقة التي بدأ بها النزاع تؤكد أن نية المقاطعة مبيتة بالفعل بشكل مسبق، حيث إن الفتيل الذي أشعل الأزمة كان عبارةً عن هجمة إلكترونية (Cyber Attack)
وفي ظل عدم قدرة كلٍ من الدولتين على معادلة التفوق القطري كان لا بد لهما من استخدام أسلوب أكثر قساوة، فجاءت عملية المقاطعة الأولى في 2014 ولكن أسلوب الحصار لم يكن ليلقى استحسانًا من قبل إدارة أوباما لذلك فقد تم تأجيل الأمر لحين سنحت الفرصة مع أول زيارة لترامب، وبكل الأحوال فقد كانت سياسة الخروج عن قواعد اللعب الخيار الأمثل لضمان إحداث الضرر بشكل سريع وفعال.
كما أن الطريقة التي بدأ بها النزاع تؤكد أن نية المقاطعة مبيتة بالفعل بشكل مسبق، حيث إن الفتيل الذي أشعل الأزمة كان عبارةً عن هجمة إلكترونية (Cyber Attack) اخترقت من خلالها جهة مجهولة موقع وكالة الأنباء القطرية وزورت تصريحات لأمير قطر بشأن الموقف من إيران وهو الأمر الذي استثمرته وسائل الإعلام في الدول المقاطعة بسرعة غير مسبوقة، على الرغم من نفي الجهات المسؤولة في قطر لكل تلك التصريحات.
ومما زاد الأمر غرابةً أن الرد جاء سريعًا، حيث تمت بعدها بأيام قليلة عملية قرصنة استهدفت البريد الإلكتروني ليوسف العتيبة سفير الإمارات العربية المتحدة في واشنطن، لتفضح مجموعة من التسريبات والتي أظهرت مستوى آخر من الهجمات المبيتة ضد قطر والتي كانت قد ابتدأت بشهور قبل الأزمة الخليجية من خلال مراكز الأبحاث التي يمكن من خلالها نشر البروباغندا والتأثير على الرأي العام.
هنا لا بد من الوقوف على أهمية مراكز الأبحاث، حيث يعمل بعضها على نشر الأفكار والقيم والروايات الحكومية بشكل مشابه لوسائل الإعلام ولكنها تتميز بالعمق الذي تستهدف من خلاله شرائح محددة تشتمل على الباحثين والاستشاريين المحيطين بصناع القرار.
وعلى الرغم من أن طرائق عمل مراكز الأبحاث محكومة بالعديد من المعايير المهنية والمنهجيات البحثية، لكنها قد تتمكن من تحوير الحقائق أو إعادة تشكيلها وعرضها بطريقة بالغة الحرفية لتخدم أهداف الجهة الممولة أو الحليفة.
ومن الجدير بالذكر أن مشروعية الاستثمار في مراكز الأبحاث تبقى موضع تساؤل وشك، بيد أنها ضرورة حتمية لأنها تمنح الجهة الممولة قدرات دفاعية – هجومية في حرب الأفكار.
لا بد من الإشارة إلى أن حرب الأفكار التي ظهرت في هذه الأزمة، عميقة للغاية ولا يمكن لها أن تنتهي بسهولة
وضمن نفس السياق فإن الإستثمار بوسائل الإعلام لا يقل أهميةً عن الاستثمار في مراكز الأبحاث نظرًا لأن قدرة مراكز الأبحاث تبقى محدودة مقارنة بوسائل الإعلام التقليدية ووسائل الإعلام الجديد والتي تمكن داعميها من الوصول لجمهور عريض، فضلًا عن قدرتها على تحويل المادة المقروءة لمادة مسموعة أو مرئية لتصبح أكثر تأثيرًا.
في النهاية وبغض النظر عن كل ما ذُكر، لا بد من الإشارة إلى أن حرب الأفكار التي ظهرت في هذه الأزمة، عميقة للغاية ولا يمكن لها أن تنتهي بسهولة، فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار استحالة قبول قطر بالتخلي عن مميزاتها الاستراتيجية يبقى احتمال التوصل لحل وسط يساهم في تخفيف التوتر والحد من الأضرار الدبلوماسية قائمًا، لكن حتى وإن تم التوصل لحل مماثل فإن الشقاق الفكري لن ينتهي بمجرد انتهاء الأزمة.