أقل من شهرين، إنه الفاصل الزمني الذي مر على آخر استهداف قامت به “إسرائيل” ضد مواقع تابعة لنظام بشار الأسد في سوريا، وها هي تعود من جديد وتقصف لثلاث مرات متتالية خلال أسبوع مواقع تابعة لقوات النظام في ريف القنيطرة بجنوب سوريا الغربي.
وتمثلت الرسالة الناعمة التي تتغنى بها “إسرائيل” دائمًا في ادعائها بأنها تريد الحفاظ على الأمن والاستقرار في منطقة الجولان، وقالت كالعادة إن هذا القصف جاء ردًا على قذائف سقطت من الجانب السوري على الجزء الذي تحتله من مرتفعات الجولان.
وهذه المرة حملت التصريحات الصادرة عن المسؤولين الإسرائيليين تهديدًا واضحًا بقصف أراضي الجولان التي يحتلونها ويعتبرونها ضمن السيادة “الإسرائيلية”، كما حملت كلمات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التي قال فيها: “إسرائيل لن تقبل بانزلاق النيران إليها، وسترد على أي إطلاق نار”، رسائل نارية مبطنة لأطراف ذكرها علانية.
ليست المرة الأولى.. فهل ستكون الأخيرة؟
في واقع الأمر، ليست غارات “إسرائيل” الجوية ولا قصف دباباتها المتمركزة في “تل الندى” باتجاه سوريا عمومًا والقنيطرة خصوصًا بأمر جديد، ففي أبريل/ نيسان الماضي، تكرر المشهد، وسبقته بقصف في أواخر مايو/أيار الماضي أدى إلى سقوط قتلى بالجانب السوري، كما استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي في وقت سابق هذا العام مطارات عسكرية سورية حول دمشق، وقاعدة عسكرية قرب مدينة تدمر في ريف حمص الشرقي.
وعادة ما يحدث ذلك كلما أُطلقت نيران باتجاه الأراضي المحتلة، وكلما علم جيش الاحتلال بقدوم شحنات أسلحة لحزب الله اللبناني أو وجود نشاط لمليشيات إيرانية تؤازر النظام السوري قرب الحدود الجنوبية مع “إسرائيل”.
والآن يقدم جيش النظام تفسيره الخاص للواقعة الأحدث، فهو يصور القصف الإسرائيلي لمواقعها العسكرية بأنه محاولة لدعم ما تسميها بالمجموعات الإرهابية، وهي تقصد بالطبع “المعارضة السورية المسلحة” التي تتشكل بالأساس من فصائل لم يجرؤ أي طرف إقليمي أو دولي على وصمها بالإرهاب.
وإذا كان مطلقو القذائف أيًا كانوا قد اختبروا ردة الفعل الإسرائيلية فقد نالوها، لكن ماذا بعد؟ فتلك حرب، ولأنها كذلك فلا عاصم للنيران من الانزلاق في المرات القادمة، لكن بالنسبة لجيش الاحتلال الإسرائيلي فذاك أمر غير مقبول، وربما يتكرر المشهد مرات عديدة.
رسائل لأطراف عدة
ليس من المعتاد بل وربما تكون المرة الأولى التي تعلن فيها “إسرائيل” قيامها بقصف مواقع تابعة للنظام السوري، فقد أعلنت حكومة الاحتلال أنها سترد بقوة على أي قذائف ستسقط على ما تسميها “أرض إسرائيل”، وهنا توجه “إسرائيل” من خلال هذا القصف رسائل إلى أطراف عدة منها إيران وحزب الله.
رسالة إلى حزب الله
لقد أعلنها نتنياهو واضحة، بقوله: “ننظر ببالغ الخطورة لمحاولات إيران التمركز عسكريًا في سوريا وتزويد حزب الله بأسلحة متطورة عن طريق سوريا وفي لبنان”، وهكذا أغلق الباب في وجه المشروع الإيراني المترامي في الشرق الأوسط.
وتبدو رسالة رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي واضحة ومباشرة وتعرف طريقها بين الأطراف المتداخلة في حلبة الصراع السوري، فهو لا يريد وجودًا عسكريًا إيرانيًا قريبًا من حدوده، فبالنسبة لـ”إسرائيل” وجود حزب الله اللبناني داخل سوريا بالقرب من هذه الحدود مع الجولان المحتل يعني وجودًا إيرانيًا.
“إسرائيل” تتحين الظروف المناسبة لفتح معركة حقيقية مع حزب الله لمنعه من الاقتراب من الحدود الإسرائيلية
وأمام الخسائر الكبيرة التي مُنيت بها المليشيات الإيرانية في سوريا، هناك من يرى أن من فعل ذلك هو حزب الله، لكن ذلك لن يخرج عن نطاق عملية لخلط الأوراق وتشويش على المشهد، لكنه ليس جادًا ولا يستطيع أن يفتح جبهة قتال مع “إسرائيل”، بحسب مراقبين.
وفي حال ثبتت هذه الفرضية فإنه سوف يُواجه بردة فعل من “إسرائيل” ربما ليس فقط في الجولان وفي الجبهة السورية، وإنما أيضًا في لبنان، لأن “إسرائيل” تتحين الظروف المناسبة لفتح معركة حقيقية مع حزب الله لمنعه من الاقتراب من الحدود الإسرائيلية.
رسالة إلى إيران
لم يكن القصف الذي حدث ردًا على القذائف الشاردة بقدر ما يحمله من رسائل نارية للجانب الإيراني قبل الجانب السوري، تحمل في طياتها ما يعني أن “إسرائيل” لن تسمح بفتح جبهة جديدة سورية أو إيرانية في هضبة الجولان.
وتريد “إسرائيل” أيضًا أن ترسل رسالة مفادها أنها في موقع قوة لا موقع ضعف، فهي تبرر هجماتها وغاراتها بأنها مقتصرة على رد الفعل، وبهذه الطريقة تكون قد اكتسبت الشرعية لأي عملية قصف تقوم بها، وحصلت على المباركة الأمريكية لمواجهة حزب الله ذراع إيران في سوريا وهي عدوتها الأولي في المنطقة.
“إسرائيل” حين ترسل هذه الرسائل، فهي ترسلها إلى مشروع إيراني كبير
وفي زحمة الصراع على سوريا، تريد “إسرائيل” أن تذكر الجميع أن لها حصة من الكعكة السورية، والأمر لا يتعلق فقط بالجولان الذي تؤكد “إسرائيل” – أكثر من أي وقت مضى – أنه سيبقى تحت السيادة الإسرائيلية، وإنما يتعلق بمخططاتها المزعومة في الشرق الأوسط.
إذًا “إسرائيل” حين ترسل هذه الرسائل، فهي ترسلها إلى مشروع إيراني كبير، وربما هناك احتمالية بأن “إسرائيل” تخطط لإيجاد ذريعة لمهاجمة حزب الله في لبنان، وبالتالي ضرب مشروع الهيمنة الإيرانية في هضبة الجولان.
وأخرى إلى سوريا
تصر تل أبيب في الظاهر على إلقاء اللوم على حكام دمشق، غير أن رسائلها التي ردت بها على القذائف الشاردة بدت متجهة إلى عنوان آخر، فالضجيج الإعلامي الإسرائيلي ربما له هدف آخر يكمن في التلميح بتهيئة الأجواء لهجوم أكبر قد يستهدف لبنان بالدرجة الأولي وليس هضبة الجولان كما يبدو في ظاهره.
وإذا كانت رسالة نتنياهو موجهة علنًا إلى إيران، فقد جاءت رسالة أفيغدور ليبرمان وزير الدفاع الإسرائيلي إلى النظام السوري، وقد كان واضحًا أن المسؤولين الإسرائيليين يحملون النظام السوري مسؤولية سقوط أي قذائف داخل الجولان المحتل انطلاقًا من الأراضي السورية أيًا كان مصدرها.
ليبرمان قال حرفيًا: “سنواصل نهج سياستنا الواضحة سواء كان مقصودًا أو لا، نظام الأسد هو المسؤول، هكذا تصرفنا وهكذا سنتصرف في المستقبل وأتوقع أنهم تلقوا الدرس في دمشق”.
رسالة دولة الاحتلال إلى الداخل الإسرائيلي بأن القيادة الإسرائيلية ليست القيادة السورية التي تقتل شعبها، لهذا “بمجرد سقوط قذيفة هاون داخل خط وقف إطلاق النيران في الجولان المحتل سيتم تدمير مصدر هذه النيران”
وما لم يفصح عنه ليبرمان، هو توقعه بأن يتلقى الإيرانيون الدرس لأن قصف مواقع داخل سوريا لأيام متتالية ليس موجهًا فقط للنظام السوري الذي يعرف الجميع أنه لا حول له ولا قوة أمام قوى كثيرة تتحرك فوق الأراضي السورية.
والأهم من ذلك رسالة دولة الاحتلال إلى الداخل الإسرائيلي بأن القيادة الإسرائيلية ليست القيادة السورية التي تقتل شعبها، لهذا السبب بمجرد سقوط قذيفة هاون داخل خط وقف إطلاق النيران في الجولان المحتل سيتم تدمير مصدر هذه النيران، وفقًا للتصريحات الصادرة عن مسؤوليها.
رسالة فارغة من النظام
تاريخيًا، لم يرد النظام السوري على أي عمليات إسرائيلية، خاصة عمليات القصف الجوي والتي كان آخرها بالأمس القريب، فقد قامت “إسرائيل” منذ بدء الثورة السورية بعدة غارات وقصفت عدة مواقع ومستودعات ذخيرة ومستودعات صواريخ وقوافل عسكرية لكنه لم يتصد لها.
حتى حين خرج النظام السوري عن صمته، فقد أعلن أن ما أسماها “القوات الرديفة”، صدت هجومًا كبيرًا لجبهة النصرة (التي شكلت مع فصائل أخرى هيئة تحرير الشام) في محيط مدينة البعث بريف القنيطرة، بحسب ما ذكرته الوكالة السورية.
ومع ارتفاع وتيرة المعارك والاشتباكات في القنيطرة وهجوم الجيش السوري الحر على مدينة البعث وارتفاع وتيرة الاشتباكات فيها، ربما أراد النظام السوري بهذه القذائف أن يجعل هناك رابطًا لدى المشاهد بأن “إسرائيل” تتدخل في شؤونها، وأن عمليات الاشتباك بين النظام و”إسرائيل” هي جزء من المعركة مع الفصائل المعارضة للنظام السوري.
“إسرائيل” وروسيا.. هل يفرقهما حزب الله؟
وفي خضم المعركة الدائرة، بدا من رد الفعل الروسي وتبادلها الرسائل الإيجابية، أن هناك توافقًا بين موسكو وتل أبيب على استهداف كل ما يشكل خطرًا على الأخيرة، فقد تمكنت “إسرائيل” مبكرًا من الحصول على تعهد روسي باحترام خريطة مصالحها الأمنية في سوريا، وضمن ذلك إحباط إرساليات السلاح الإيراني إلى حزب الله.
وكانت روسيا قد أقرت بأهمية المصالح الإسرائيلية، لذلك لا تعترض على كل الضربات الإسرائيلية، وإذا صادف واعترضت فهو اعتراض خجول يختلف عن الاعتراضات التي تتعلق بالجانب التركي أو الجانب الأمريكي.
ومما وسّع دائرة الاستفادة الإسرائيلية من التدخل الروسي حقيقةُ ارتباط موسكو وتل أبيب بشبكة مصالح مشتركة تتجاوز سوريا، إذ ترتبطان بعلاقة تعاون أمني واستخباري وثيق، إلى جانب أنها معنية بالاستفادة من الإمكانيات الإسرائيلية في مجال التقنيات المتقدمة وتوظيفاتها المشتركة، علاوة على رهانها على دور إسرائيلي محتمل في التوسط بينها وبين الإدارة الأمريكية.
رغم اتفاق كل من روسيا وإيران وحزب الله على التعاون لإنقاذ نظام الأسد، فإن تل أبيب تدرك في المقابل أن خريطة مصالح روسيا وإيران وحزب الله في سوريا متباينة، مما يعني أن موسكو غير معنية بالانجراف نحو مواجهة مع “إسرائيل” لوقف هجماتها ضد حزب الله
وفي هذه الصدد، قال مسلم شعيتو الخبير في الشأن الروسي، في مداخلة تليفزيونية لقناة دويتش فيله الألمانية، إن روسيا لا تعطي إحداثيات لـ”إسرائيل” من أجل قصف الأراضي السورية، فالأولى تحاول غض الطرف عن المشاغبات الإسرائيلية، كما تحاول أن تفعل تجاه المحاولات التركية في شمال شرق سوريا، مضيفًا أن روسيا ترى أن ما تقوم به “إسرائيل” لا يؤثر في المعركة الاستراتيجية التي يشارك فيها كل الأطراف برعاية الطيران وبتنسيق مع القيادة الروسية.
ورغم اتفاق كل من روسيا وإيران وحزب الله على التعاون لإنقاذ نظام الأسد، فإن تل أبيب تدرك في المقابل أن خريطة مصالح روسيا وإيران وحزب الله في سوريا متباينة، مما يعني أن موسكو غير معنية بالانجراف نحو مواجهة مع “إسرائيل” لوقف هجماتها ضد حزب الله.
سوريا.. ساحة تصفية الحسابات
عندما قرر النظام السوري أن يُدخل إيران و”حزب الله” في قلب المعركة الدائرة بينه وبين شعبه، وأن يضعهما في الموقع المعادي له، حوًّل بلده إلى ساحة تخاض فوقها المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية بالنيابة، ووجدها فرصة أيضًا لتعزيز قواته بالدعم الإيراني المباشر في المواجهات التي كانت تخسر فيها مواقع مهمة على أكثر جبهات القتال.
وتعي “إسرائيل” أن هناك ساحة نشاط لمليشيات غير سورية تدعم الأسد يتقدمها حزب الله اللبناني، ويدرك الإسرائيليون أن هؤلاء تدعمهم طهران وتمدهم بأسلحة متطورة، وذاك ما تخشى تل أبيب من أنه سينشئ وضعًا جديدًا على مرمى حجر من الجولان المحتل.
ووسط احتمالات التصعيد، تشير التوقعات إلى أنه في حال أبدت إيران مزيدًا من الاندفاع خلف مشروعها سيؤدي ذلك إلى توجيه ضربة قاسمة لحزب الله في العمود الفقري لوجوده في بلاد الشام، وربما تكون هذه الضربات كنوع من التحركات الاستفزازية لاستدراج حزب الله والمليشيات الإيرانية إلى ساحة المعركة التي ستكون على أرض سوريا.
صراع النفوذ بين روسيا والدول الغربية على الاستحواذ على منطقة الشرق الأوسط سيؤجج السباق بين أنقرة وموسكو
وكانت “إسرائيل” قد شرعت بُعيد انتهاء حرب لبنان الثانية عام 2006 في شن سلسلة عمليات هادفة للمس من الحزب، وكانت سوريا ساحتها الرئيسة، وبدأتها باغتيال قائد ذراعه العسكرية عماد مغنية عام في محيط دمشق يوم 12 فبراير/شباط 2008.
من جهة أخرى، فإن صراع النفوذ بين روسيا والدول الغربية على الاستحواذ على منطقة الشرق الأوسط سيؤجج السباق بين أنقرة وموسكو، خاصة أن الطرفين مختلفان في التوجهات، والسبب يرجع إلى اختلاف مصالحهما في سوريا، لكن الشعب السوري من سيدفع ضريبة الصراع في النهاية.
ماذا بعد؟
يخشى الاحتلال الإسرائيلي من أن أي تقدم لجيش النظام السوري وحلفائه في منطقة القنيطرة التي تعتبرها “إسرائيل” أحد سياجاتها الأمنية، سيجعلها تحت سيطرة النظام أو حلفائه، وهو ما سيترتب عليه تحولات لا ترضي الاحتلال الإسرائيلي.
الحديث عن هذه التحولات يرسم علامات استفهام كثيرة عن احتمالات المواجهة القوية في حال تقدم النظام السوري في الجنوب، لكن مراقبين يرون أن “إسرائيل” ستعمل على إطالة أمد الحرب، وبالتالي منع النظام السوري وحلفائه من تحقيق إنجازات أمنية كبرى على الجبهة الجنوبية.
أما إذا لم تنجح “إسرائيل” في إطالة أمد الحرب من ناحيتها، وإذا أصر جيش النظام السوري وحلفاؤه ومن ورائهم إيران على اختراق خطوط المعارضة والتقدم باتجاه جبهة جنوب الجولان، فإن الخطة البديلة الإسرائيلية ستكون إنشاء حزام أمني في المناطق السورية المحاذية للأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي الخطة التي بحثها نتنياهو أكثر من مرة خلال زيارته لموسكو، كما أن الأمريكيين ليسوا بعيدين عن هذه المسألة.
يبقى الأمر بالنسبة لـ”إسرائيل” لا يتعلق بدخول روسيا وإيران وبقية المليشيات إلى سوريا، فهي لم تعترض على دخول أي منها وتركت الجميع يدمرون الشعب السوري، لكنها في النهاية تبحث عن مصالحها تحت أقدام الأطراف المتقاتلة في سوريا
من ناحية أخرى، يعتقد قادة “إسرائيل” أنّ استمرار الصراع السوري قوّض مطالب سورية بالجولان وعزز قبضة “إسرائيل”، ومن هنا يسرّعون الخطى لتوسيع نطاق الوجود الإسرائيلي في الجولان، من خلال بناء مساكن إضافية وتشجيع السياحة والاستثمار في البنية التحتية والصناعة.
ويأتي إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي، الثلاثاء الماضي، منطقة القنيطرة الحدودية في مرتفعات الجولان السورية المحتلة “منطقة عسكرية مغلقة”، ليفسر خطوة في طريق الحلم الإسرائيلي بفرض السيادة على هضبة الجولان، بعد خمسين عامًا من احتلالها، وهي هضبة سورية، قبل أن تكون من أملاك آل الأسد، وستبقى بعدهم ملكًا للشعب السوري.
ويبقى الأمر بالنسبة لـ”إسرائيل” لا يتعلق بدخول روسيا وإيران وبقية المليشيات إلى سوريا، فهي لم تعترض على دخول أي منها وتركت الجميع يدمرون الشعب السوري، لكنها في النهاية تبحث عن مصالحها تحت أقدام الأطراف المتقاتلة في سوريا.