قراءة في الفيلم الإيراني “البائع”

ينتقل الزوجان عماد ورنا لشقة جديدة بعد تعرض العمارة التي كانا يقيمان بها لتصدع شديد، يعمل عماد ورنا كممثلين في أحد مسارح طهران الكبيرة ويقومان كل ليلة بأداء مسرحية “موت بائع” للكاتب الأمريكي آرثر ميلر.
يجد الزوجان بعض أغراض وحاجيات المستأجِرة السابقة داخل الشقة الجديدة، إلا أن صديقهما باباك الذي عرض عليهما الشقة، طمنأهما أن هذا وضع مؤقت وفي خلال وقت قصير ستأتي المستأجِرة لأخذ أغراضها.
في إحدى الليالي يعود عماد للشقة ويجد رنا غائبة عنها وآثار الدماء على الأرض، يذهب للمستشفى ويخبره الجيران أنها تعرضت للاعتداء من قبل رجل غريب، في الغالب كان يريد زيارة المستأجِرة السابقة، ذلك أنها كانت بائعة هوى.
لم يستطع الجيران التعرف على الرجل، إلا أنه عند عودة عماد للمنزل، يجد مفاتيح سيارة الرجل وأمواله وجواربه، يفكر عماد في إبلاغ الشرطة، إلا أن رنا ترفض تمامًا، فهى لا تريد أن تدخل في دوامات المحاكم، ولا تريد أن تحكي مآساتها على الملأ، تدفع معاناة رنا مع اضطراب ما بعد الصدمة عماد للبحث عن الجاني من أجل الانتقام منه، فمن الجاني وهل سيصل عماد إليه؟
“كنت أضع الشامبو على شعري عندما أدركت أن شخصًا دخل الحمام، وضع يده على شعري من الخلف، ظننته أنت”. رنا محدثة عماد عن الحادثة
السيناريو
كتب النص المخرج الإيراني أصغر فرهادي وهو نص كتب خصيصًا للسينما مثل أفلامه السابقة، فرهادي كاتب درامي من العيار الثقيل، فهو الوحيد القادر على خلق حبكة ممتعة ومشوقة بشخصيات ثلاثية الأبعاد، وجعل المشاهد يتعاطف مع تلك الشخصيات من خلال وضعها في معضلة أخلاقية كبيرة.
الصراع في أفلام فرهادي ليس بين الخير والشر، فلا توجد وجهة نظر خاطئة أو صحيحة، هو صراع إرادة ودوافع، وبما أن فرهادي يجعل المشاهد يتفهم دوافع صراعات شخصياته، يصبح تبني وجهة نظر إحدى الشخصيات معضلة بحد ذاتها للمتفرج.
هذه التركيبة الخاصة في الكتابة نجحت في أفلام فرهادي السابقة عن إيلي وانفصال والماضي، وكان النقاد يخشون من أن يأتى الوقت ويمل المشاهد من هذه التركيبة في فيلم فرهادي الجديد، حتى الآن لم يحدث هذا.
يتبنى فرهادي وجهة نظر شخصية واحدة على عكس أفلامه السابقة التي كان يتبنى فيها وجهات نظر متعددة لشخصيات مختلفة، فطول الفيلم يلمس المتفرج تأثير الحادثة على عماد، والإهانة والغليان التي يشعر بهما جراء عجزه عن مساعدة زوجته وحماية شرفه وعرضه.
المثير للسخرية أن عماد ممثل، ويفترض من الممثل ألا يحكم على الناس وأن يتفهم دوافع الشخصيات سواء في مضمار العمل الفني أو الحياة، نلمس ذلك عند عماد في مشاهد الفيلم الأولى، فأثناء ركوبه سيارة الأجرة مع أحد تلاميذه، تتهمه سيدة مستقلة نفس السيارة ضمنيًا بالتحرش بها عندما طلبت من سائق الأجرة أن تجلس بجواره بعيدًا عن عماد.
عندما يذكر التلميذ لعماد هذا الموقف، ويعبر عن غضبه من تلك السيدة، يبرر عماد لتلميذه تصرفها قائلًا بأنها من المؤكد تعرضت للتحرش في سيارة أجرة من قبل مما جعلها متخوفة منه.
هذا التعاطف والتفاهم يتبخر رويدًا رويدًا من شخصية عماد بعد الحادثة، ويظهر هذا في أحد مشاهد عماد مع تلاميذه، حيث يهين أحدهم أمام الكل بكل قسوة، مما يعطى إشارة للمشاهد بما سيفعله عماد عندما يقع الجاني في يديه.
مسرحية “موت بائع” لميلر تتناول عدة مواضيع منها خداع النفس والإهانة والطموح البشري، وهي مواضيع متطابقة لنص الفيلم، فبطل المسرحية ويلي لومان الذي يؤدى دوره عماد كل ليلة، هو نفس شخصية الجاني الذي سيعثر عليه عماد لاحقًا.
شخصية بائعة الهوى رغم أنها لم تكن في الفيلم، فقد ظهرت في المسرحية، الإهانة التي يشعر بها بيف ابن ويلي لومان حينما يكتشف خيانة أبيه لأمه مع العاهرة، هي ذات الإهانة التي يشعر بها عماد بعد الحادثة.
كل هذا جعل المسرحية متكاملة ومكملة للنص.
المشهد الأخير سيذرف الدمع من المتفرج، وهو مشهد مواجهة عماد ورنا مع الجاني، لن أفصل كثيرًا فيه كي نتجنب الحرق، إلا أنني أذكر أنه في إحدى لقطات المشهد شعرت بصفعة على وجهي من قوتها وتأثيرها عليّ كمتفرج.
الشخصيات والتمثيل
قام بدور عماد الممثل شهاب حسيني، وهذا هو التعاون الثالث مع فرهادي، وقد أثبت قدرته على تقمص شخصيات بخلفيات مختلفة بشكل متميز وباهر، أداؤه هنا يختلف تمامًا عن أدائه شخصية حوجات في انفصال وأحمد في عن إيلي.
استطاع شهاب حسيني نقل مشاعر الغليان والعجز بفعالية للمشاهد، بالأخص في مشهد اكتشافه ما حدث لرنا، ومشهد العشاء الذي جمع بينه وبين رنا والطفل سدرا، وفي مشهد النهاية.
قامت بدور رنا الممثلة ترانيه على دوستيه، وهذا أيضًا تعاونها الثالث مع فرهادي بعد ظهورها في أفلام مفرقعات الأربعاء وعن إيلي.
ترانيه نجحت في تجسيد مراحل الصدمة التي تمر بها رنا بعد الحادثة، والصعوبة التي تواجهها في أثناء أدائها دورها في المسرحية بعد الحادثة، رغم ذلك نجد أن خروج رنا كل يوم لأداء الدور ساعدها على التعافي وتخطي الحادثة على عكس عماد الذي يصبح مهووسًا بالعثور على الجاني.
الإخراج والتصوير
دائمًا ما يسعى فرهادي لمحاكاة الواقع وجماليات الأفلام الوثائقية في أعماله سواء على مستوى الصورة أو الأداء، فهو يتجنب استخدام الموسيقى في الأفلام، ويتجنب أن يُشعر المشاهد بالتصوير أو الصوت أو تقنيات العمل أو حتى التمثيل، استعان فرهادي بحسين جعفريان كمدير تصوير.
جعفريان عمل مع مخرجين إيرانيين كبار مثل عباس كيارستمي والمخرجة ركشان بني إعتماد، وهما مخرجين اشتهرا بشكل الإضاءة المحاكي للطبيعة.
استخدم فرهادي الكاميرا المحمولة، وساعده جعفريان في خلق أسلوب إضاءة يحاكي الواقع ويعطي حرية الحركة للممثلين، النتيجة هي أداء أقرب للتجسيد الحقيقي رغم غياب أي نوع من الارتجال، مما وضع المشاهد في قلب الأحداث وقلب المعضلة التي تقع فيها شخصيات أفلامه.
عرض الفيلم في مهرجان كان العام الماضي ولاقى إشادة واسعة، حيث توج بجائزتي أفضل سيناريو وأفضل ممثل رئيسي، رشحته إيران لجائزة الأوسكار في فئة أفضل فيلم أجنبي، وفاز بها عن استحقاق وجدارة.
بعد قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بحظر مواطني الدول الستة (إيران، ليبيا، العراق، اليمن، الصومال، سوريا) من دخول الولايات المتحدة، قرر فرهادي ألا يحضر حفل الأوسكار احتجاجًا على هذا القرار.