أُسدل الستار على الانتخابات المثيرة للجدل بعد إعلان الهيئة الوطنية للانتخابات المصرية، ظهر الاثنين 18 ديسمبر/ كانون الأول 2023، فوز عبد الفتاح السيسي بولاية رئاسية ثالثة تبدأ بعد عدة أشهر، إثر حصوله على 89.6% من إجمالي الأصوات الصحيحة البالغ عددها 44 مليونًا من إجمالي 67 مليونًا لهم حق التصويت، بنسبة مشاركة بلغت 66.8% هي الأعلى في تاريخ البلاد، بحسب رئيس الهيئة نائب رئيس محكمة النقض حازم بدوي.
وتقاسم المرشحون الثلاثة الآخرون المفترض منافستهم للسيسي نسبة الـ 10% المتبقية، حيث حصل مرشح الحزب الشعبي الجمهوري، حازم عمر، على 4.5% محتلًّا المركز الثاني، يأتي خلفه رئيس الحزب المصري الديمقراطي، فريد زهران، بـ 4%، ثم في المركز الرابع والأخير يأتي رئيس حزب الوفد، عبد السند يمامة، الذي حصل على 1.9% من إجمالي الأصوات.
بعيدًا عن النسب والأرقام المعلنة، لم تكن النتيجة مستغربة أو مفاجئة للأنصار والخصوم في آنٍ واحد، بصرف النظر عن تصريحات الاستهلاك المحلي الصادرة من بعض المرشحين بشأن توقعهم الفوز في تلك الانتخابات، فحصول السيسي على ولاية ثالثة أمر لا يساوره الشك في ظلّ الأجواء التي أقيمت فيها الانتخابات وطبيعة المرشحين المنافسين، البعيدين تمامًا عن المنافسة حتى على المجالس المحلية في القرى والمناطق النائية، ناهيك عن رئاسة دولة بحجم مصر.
قراءة متأنّية في الأرقام والإحصائيات
بداية ليس هناك أي دليل يؤكد أو ينفي الأرقام التي أعلنت عنها الهيئة العامة للانتخابات، لكن المؤشرات العامة وتقارير وسائل الإعلام -الأجنبية تحديدًا- تعكس واقعًا مغايرًا لما تمّ الترويج له، إذ إن نزول 44 مليون مصري للمشاركة في تلك الانتخابات أمر صعب التمرير، على الأقل في تلك الظروف الصعبة التي يعيشها المصريون، جرّاء الوضع الاقتصادي المتردي وحالة الاحتقان ضد سياسات النظام الحالي الذي يترشح رئيسه لولاية جديدة.
مراسلة صحيفة “واشنطن بوست” في القاهرة، كلير باركر، تشير إلى أنها ومن خلال جولة عامة في أكثر من منطقة انتخابية في قلب العاصمة المصرية، توصلت إلى عزوف الكثير من المصريين عن المشاركة، حيث ارتأوا البقاء في منازلهم بسبب ما أسمته “فزعهم من تراجع مستويات المعيشة وشعورهم بالعجز عن إحداث التغيير”.
باركر في تقرير تغطيتها للانتخابات، أوضحت أن تلك العملية عبارة عن عرض واستعراض للرئيس وليست عملية انتخابية بالمعنى المعروف، إذ إن النتيجة محددة سلفًا، هذا بخلاف أن المنافسين للسيسي في الانتخابات غير معروفين لمعظم المصريين، وفق مقابلات أجرتها في جميع أنحاء القاهرة خلال فترة التصويت التي استمرت 3 أيام، وهو ما يزيد من معدلات العزوف في ظل فقدان التنافسية، ناهيك عن فقدان الثقة في العملية برمّتها.
وترى الصحيفة أن الحرب في غزة منحت السيسي دفعة كان في أمسّ الحاجة إليها، حيث تحولت الانتخابات من التصويت لاختيار رئيس لولاية جديدة، إلى التصويت على ضمان واستقرار مصر، وهو الخطاب الذي روّج له الإعلام المناصر للرئيس منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي وحتى ليلة الانتخابات.
تساؤلات أخرى أفرزتها نتائج الانتخابات لا علاقة لها بفوز السيسي، تشي بترتيب الأمور بشكل مسبق، ومحاولة إخراجها بصورة ما، أبرزها: كيف حصل مرشح حزب الوفد عبد السند يمامة على 822 ألف صوت، رغم أن حزبه نفسه منقسم عليه بسبب إصراره على الترشح، ورغم اعتراض شريحة كبيرة من قيادات الحزب؟
التساؤل ذاته مع حازم عمر (المعيَّن في مجلس الشيوخ بقرار من السيسي) الحاصل على المركز الثاني بـ 1.9 مليون صوت، وهو الذي لم يعقد أي مؤتمر انتخابي بالمعنى الدعائي المعروف سوى مؤتمر واحد فقط في الدقهلية (شرق)، فيما اكتفت حملته التي لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة ببيانات عامة خالية تمامًا من أي رؤية أو برنامج.
تساؤلات لا تشكّك في نتيجة الانتخابات المعروفة مسبقًا، لكن التفاصيل تعكس مشهدًا حاول الجميع الوصول إليه لإخراج العملية بطريقة ما، تعكس نسب مشاركة عالية على اعتبار أن ذلك رسالة للعالم كما جاء على لسان السيسي وأنصاره، وأن الأمر أقرب إلى التصويت على شعبية الرئيس، رغم الانتقادات التي تعرض لها خلال الآونة الأخيرة بسبب فشله في الكثير من الملفات.
انتهت المرحلة السهلة.. ماذا بعد؟
بإسدال الستار على العملية الانتخابية، تنتهي أسهل تحديات السنوات الستة القادمة، ليبقى السؤال: ماذا بعد؟ حيث طرح الشارع المصري، نخبته وعامّته، هذا التساؤل بشكل أو بآخر، ضمنيًّا أو بصورة مباشرة، كيف سيكون الوضع خلال المرحلة المقبلة؟ هل يختلف كثيرًا عن الولايتَين السابقتَين أم تكرار لهما بالسياسات نفسها وبالتالي النتائج المخيبة ذاتها؟
وهل من الممكن أن تشهد الدولة المصرية انفراجة في الأفق السياسي والتزحزح ولو نسبيًّا عن حافة الانسداد المخيمة على المشهد طيلة السنوات التسع الماضية، أم أن التغيير سيكون عصيًا كالعادة؟ ثم التساؤل الأكثر حرجًا وإلحاحًا في الوقت نفسه: هل تكون السنوات الست القادمة هي نهاية حكم السيسي فعلًا، أم أن سيناريو عام 2019 وإجراء تعديلات دستورية تسمح له بالبقاء مدد أخرى سيُعاد مرة أخرى؟
يقول علماء المنطق إن المقدمات ذاتها حتمًا ستقود إلى النتائج نفسها، وتلك قاعدة لا يمكن التشكيك فيها، وفي ظل إصرار النظام في مصر على المضيّ قدمًا في مساره القديم -لم يعلن السيسي عن أي تغيير يذكر في سياساته حتى كتابة تلك السطور وخلال حملته الانتخابية، بل إنه لم يقدم برنامجًا للفترة المقبلة من الأساس-، فإنه لا ينتظر نتائج مغايرة لما كانت عليه في السابق.
وفي ضوء تلك القاعدة، فإن تطور المشهد السياسي والاقتصادي ومن ثم الاجتماعي في مصر منذ عام 2014 ثم عام 2018 وصولًا إلى عام 2023، يكشف عن الكثير من ملامح الفترة القادمة، فالأمور تسير وفق متوالية عكسية بشكل كبير، كثير من الشعارات البراقة وقليل من الإنجازات الفعلية.
أولًا: الملف الاقتصادي
الحالة المعيشية للمواطن والوضع الاقتصادي بصفة عامة هما التحدي الأكبر لأي نظام والشغل الشاغل لأي شعب، وفي الحالة المصرية الأمور غاية في الصعوبة، إذ “كانت فترة رئاسة السيسي بأكملها عبارة عن سلسلة متوطنة من الأزمات الاقتصادية، وهي ليست مجرد صعوبات اقتصادية، بل إنها إذلال”، بحسب وصف نائب مدير معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط، تيموثي قلداس، الذي أضاف: “وبينما يحدث كل هذا، يراقب المصريون النظام وهو يثري نفسه”.
وتعرّض الاقتصاد المصري خلال ولايتَي حكم السيسي الأوليَين لصدمات مروعة، أودت به إلى مسارات من الانزلاق لم يعرفها من قبل، تفاقُم في معدلات البطالة والتضخم، وانهيار متطرّف لقيمة العملة الوطنية (الجنيه)، رضوخًا لإملاءات وشروط الدائنين على رأسهم صندوق النقد الدولي، بصورة دفعت بقطاع كبير من المصريين إلى مستنقع الفقر والعوز، هذا بخلاف حجم الديون التاريخية التي تلتهم أكثر من ثلثَي موازنة الدولة المخصصة للإنفاق على خدمات الشعب.
معدل الدين الخارجي كأحد المؤشرات الاقتصادية على الوضع العام، والذي يكشف من خلال قراءته الدقيقة ملامح المرحلة المقبلة اقتصاديًّا، يلاحظ أنه ارتفع من 41.7 مليار دولار عند بداية الولاية الأولى للسيسي عام 2014، إلى 96.6 مليار دولار مع بداية ولايته الثانية عام 2018، إلى أن وصل إلى رقمه التاريخي غير المسبوق 165 مليار دولار مع بداية ولايته الثالثة.
وبطبيعة الحال، انعكس هذا الرقم الكبير للدين على المستوى المعيشي للمواطن خلال السنوات التسع الماضية، ويتوقع أن يواصل هذا الانعكاس بشكل أكثر قسوة خلال السنوات المقبلة، إذ إن معظم ميزانية الدولة ستوجَّه بشكل أساسي لسداد أقساط وفوائد الديون.
وتُطالب مصر بداية من العام القادم، 2024، بسداد 29 مليار دولار، 14.5 مليار دولار في النصف الأول ومثلها في النصف الثاني من العام نفسه، قيمة أقساط وفوائد الدين الخارجي الذي يستوجب السداد تجنُّبًا لأي تبعات كارثية أخرى في حال التخلف.
وفي عام 2025 مطالبة بسداد 19.4 مليار دولار، 11.1 مليار دولار في النصف الأول و8.2 مليار دولار في النصف الثاني، وفي عام 2026 المبلغ المستحق يبلغ نحو 22.8 مليار دولار، 11.4 مليار دولار في النصف الأول ومثلها في النصف الثاني.
الرئيس السيسي يستقبل حازم عمر وفريد زهران وعبد السند يمامة بقصر الاتحادية pic.twitter.com/kpwmQ1aN6i
— بوابة الوطن (@ElwatanNews) December 19, 2023
أي أن ميزانية الدولة ستظل رهينة الديون والأقساط حتى عام 2027، هذا بخلاف الأقساط والفوائد نتيجة القروض المتوقع الحصول عليها خلال المرحلة المقبلة من دول مجلس التعاون والمؤسسات النقدية العالمية، ما يعني عدم تلمُّس أي نتائج إيجابية على المواطن المصري خلال الفترة القادمة، ما لم تكن هناك خطط وبرامج تنموية بالتوازي مع مسار سداد الديون، وهو ما لم تظهر أي إرهاصات له حتى الآن.
هذا بخلاف الانهيار الكبير في قيمة العملة المحلية المصرية التي فقدت أكثر من 70% من قيمتها خلال السنوات الماضية، من 8 جنيهات مقابل الدولار عام 2015 إلى 30 جنيهًا مقابل الدولار حسب السعر الرسمي، فيما يتجاوز السعر الموازي 50 جنيهًا للدولار الواحد، وهو ما يعني مزيدًا من التضخم وارتفاع الأسعار.
ثانيًا: الأفق السياسي
وبطبيعة الحال، لا يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة، وعليه الأمور يتوقع ألا تختلف كثيرًا في انسداد أفق المشهد السياسي، وتغليب الصوت الواحد ومقاومة أي حراك من شأنه تحريك المياه الراكدة في المشهد المجمَّد، وهو ما يمكن قراءته في تفاصيل العملية الانتخابية وما شهدته من تجاوزات تزيد معدلات الإحباط، هذا بخلاف التعامل السلطوي مع المرشح الرئاسي والبرلماني السابق أحمد الطنطاوي، بداية من عرقلة جمع التوكيلات لإبعاده عن المنافسة، ثم ملاحقة أعضاء حملته وهو شخصيًّا قضائيًّا فيما بعد.
لكن ربما يدفع الوضع الاقتصادي الهشّ إلى اضطرار السلطات لإبداء شيء من المرونة في المناخ السياسي، كنوع من التنفيس كما كان الحال إبّان فترة حكم مبارك، لكن المؤشرات وفق ما عكسته السنوات التسع الماضية تضعف هذا الاحتمال، إذ إن الخبرات السياسية التي كان يتمتع بها مبارك وتساعده في امتصاص احتقان المصريين وإشغالهم عبر سياسة الإلهاء، لا يتمتع بها السيسي الذي ما زال يحيا داخل بزّته العسكرية والأوامر واجبة النفاذ وعدم المرونة السياسية.
وأمام هذا الانسداد في الأفق السياسي، وتزايد الوضعية الاقتصادية الحرجة، سيكون البديل هو الهروب نحو التحديات الخارجية الأمنية، حيث اشتعال الأجواء عبر الحدود المصرية سواء في غزة أو ليبيا أو السودان، وهي التحديات التي ربما تسحب البساط من تحت المشهد الداخلي، كما هو الحال الآن إزاء الوضع في غزة، وهي الاستراتيجية التي يجيدها النظام الحالي وتسلّط أذرعه الإعلامية الضوء عليها بما يغضّ الطرف عن الفشل الداخلي.
الإعلامي خالد أبو بكر: ماذا لو قرر الشعب ونوابه تعديل الدستور لمدة رئاسية أخرى؟ pic.twitter.com/oGLq0NlhS6
— مزيد – Mazid (@MazidNews) December 19, 2023
ثالثًا: سيناريو عام 2019
ما أن تم الإعلان رسميًّا عن نتيجة الانتخابات وفوز السيسي، غرّد المئات على منصات التواصل الاجتماعي يعبّرون عن مخاوفهم بشأن تكرار سيناريو عام 2019، حيث التعديل الدستوري للسماح للسيسي بتمديد فترة حكمه، وهي المخاوف التي ليست بالمستبعدة في ضوء المشهد الحالي الذي يفرض السيسي عليه طوقًا أمنيًّا محكمًا.
وعليه يتوقع قبيل انتهاء ولاية السيسي الثالثة بعض التحركات المدروسة من قبل حزب مستقبل وطن والبرلمان وبعض من يسمّون أنفسهم بالنخبة، فيما يتعلق بالتحديات التي تواجه الدولة والتي على أساسها سيُطرح مقترح تعديل الدستور على الساحة مرة أخرى، بحيث يسمح للسيسي بالترشح لولاية جديدة استجابة للتحديات التي تتطلب الاستقرار، وعدم تعريض البلد لأي هزات أو تغيرات تضعها في مرمى الاستهداف.
وهذه النغمة هي التي رُددت عام 2018 وعلى إثرها تم التعديل عام 2019، غير أن هذا يتوقف على وعي المصريين وقدرتهم على التصدي لمثل تلك المخططات، والحيلولة دون تمريرها مرة أخرى، في ظل الأوضاع المتدنّية التي تحياها الدولة المصرية تحت حكم السيسي.
وفي الأخير، فإن كون السيسي رئيسًا لمصر خلال الفترة القادمة بات أمرًا واقعًا بحكم النتائج المعلنة، تبقى الكرة الآن في ملعب المصريين، فأمامهم 6 سنوات كاملة لإعادة ترتيب المشهد بأبجديات مختلفة، تُجهض أي مخططات للتمديد أو جرجرة البلاد إلى مزيد من العسكرة، فهل ينجحون هذه المرة؟