ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، أشارت وسائل الإعلام والسياسيون الغربيون إلى حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة باسم “الحرب بين إسرائيل وحماس”.
لقد تبنوا نقاط الحديث الإسرائيلية بأن الحرب كانت ضد حماس بشكل صارم.
ومع ذلك، وعلى مدى أكثر من شهرين؛ فإن القصف الإسرائيلي العشوائي لجميع جوانب الحياة الفلسطينية في غزة، بما في ذلك المدارس والجامعات والمخابز والمستشفيات ومرافق الأمم المتحدة والأحياء السكنية، قد أبطل مزاعمها بأنها تستهدف حماس فقط.
وارتكبت إسرائيل كذبة مفادها أن حماس هي المسؤولة عن جرائم الحرب التي ترتكبها ضد المدنيين الفلسطينيين، في حين تحدث القادة الإسرائيليون علنًا عن العقاب الجماعي.
وحاولت الحكومة الإسرائيلية إقناع الفلسطينيين بالنأي بأنفسهم عن الانضمام إلى المقاومة من خلال استخدام مختلف تكتيكات سياسة فرق تسد ضدهم.
إن إحدى السياسات القديمة للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة هي تصنيف الفلسطينيين لتقسيمهم وخلق المنافسة بينهم.
لعقود من الزمن؛ قسمت الحكومة الإسرائيلية الفلسطينيين إلى فئات مختلفة، وأخضعتهم لنظام الأمن الإسرائيلي للسيطرة، ومزقت النسيج الاجتماعي الذي يمكن أن يوحدهم كشعب واحد له هدف سياسي مشترك.
ومؤخرًا، أعرب القادة الإسرائيليون عن مخاوفهم بشأن تحقيق الفلسطينيين الوحدة بعد “القضاء على حماس”. وقد رفض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي أدام الانقسام منذ فترة طويلة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، مرارًا وتكرارًا أي سلطة فلسطينية موحدة بين المنطقتين.
إلا أن هذه التصنيفات تم تفكيكها خلال حرب إسرائيل الحالية.
وحتى صفقة تبادل الأسرى الأخيرة؛ التي بادلت فيها الحكومة الإسرائيلية أسرى فلسطينيين من الضفة الغربية والقدس ومنطقة 1948 بأسرى إسرائيليين، أثبتت أنه لا يوجد أي تمييز بين الفلسطينيين من خلفيات وفصائل مختلفة.
وفي الواقع، لا يوجد أي تمييز بين الفلسطينيين الذين يواجهون العدوان الإسرائيلي.
آليات السيطرة
لقد استثمرت إسرائيل موارد كبيرة في تقسيم الفلسطينيين إلى “أنواع” مختلفة: أولئك الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، ويشار إليهم بفلسطينيي 1948 أو “عرب إسرائيل” – كما تحب إسرائيل أن تسميهم – والفلسطينيون في القدس الشرقية، وفلسطينيو الضفة الغربية، و”الغزّيون”.
ويحمل أكثر من مليوني فلسطيني الجنسية الإسرائيلية وهم من نسل السكان الفلسطينيين الأصليين الذين بقوا في أراضيهم خلال نكبة سنة 1948.
ومنذ سنة 2003، أصدرت الحكومة الإسرائيلية “أمرًا مؤقتًا” يحظر لم شمل الأسرة إذا كان أحد الزوجين مواطنًا إسرائيليًا والآخر مقيمًا في الأراضي المحتلة (باستثناء المستوطنين اليهود). وقد تم ذلك لمنع أي علاقة اجتماعية وسياسية بين المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وأولئك الذين يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وحتى قبل سنة 2003، وفقًا لمنظمة هيومن رايتس ووتش، “كان الحصول على الإقامة الإسرائيلية الدائمة والجنسية للفلسطينيين من الأراضي الفلسطينية المحتلة المتزوجين من إسرائيليين عملية شاقة وطويلة”. وكان متوسط وقت معالجة الطلب خمس سنوات حتى يحصل المتقدمون على نتيجة إما بالموافقة أو الرفض. وأولئك الذين تقدموا سيقضون عدة سنوات أخرى في أوضاع قانونية مختلفة حتى تتم الموافقة على حصولهم على وضع قانوني دائم.
فالمقدسيون هم فلسطينيو القدس الذين عاشوا هناك قبل أن تحتلها إسرائيل سنة 1967. وبحسب القانون الإسرائيلي، فإنهم “مقيمون” في القدس ولكنهم ليسوا مواطنين، وهم يحملون بطاقة هوية مقدسية زرقاء تسمح لهم بالإقامة في القدس والسفر داخل إسرائيل والضفة الغربية. وهم يحملون جواز سفر أردني ووثيقة سفر إسرائيلية تسمى “جواز مرور”، والتي تسمح لهم بالسفر إلى الخارج، ويُمنعون من حمل أي وثائق فلسطينية.
وبما أنهم “مقيمون” في المدينة، فإنهم يفقدون هذا الحق إذا سافروا إلى الخارج لفترة أطول من فترة محددة أو إذا كانوا يعيشون في أي مكان خارج مدينة القدس. ولا يُسمح للمقدسيين الذين يتزوجون من فلسطينيين من مناطق أخرى بالاستقرار مع أزواجهم في القدس، وأعرف حالات كثيرة لأشخاص حرموا من إقاماتهم لمثل هذه الأسباب.
ويحمل الفلسطينيون في الضفة الغربية المحتلة بطاقة هوية خضراء صادرة عن السلطة الفلسطينية، ويُمنعون من الإقامة أو الدخول إلى أراضي سنة 1948 خارج الخط الأخضر، بما فيها القدس، إلا بموجب تصاريح خاصة ومؤقتة صادرة عن الإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية.
ولا يُسمح لهم بالدخول إلى قطاع غزة إلا بتصاريح محدودة للغاية وبشروط مشددة وصارمة، وأدى ذلك بشكل مباشر إلى انقسامات سياسية واقتصادية واجتماعية واسعة بين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. ولا يستطيع فلسطينيو الضفة الغربية السفر إلى الخارج عبر المطارات الإسرائيلية، بل يتعين عليهم السفر عبر جسر اللنبي، وهو المعبر الحدودي مع الأردن، الواقع تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة.
وأخيرًا، ومن بين المجموعات الفلسطينية المختلفة؛ فإن 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة يخضعون لأشد القيود. ومنذ سنة 2007؛ واجهوا حصارًا خانقًا وحروبًا متعددة أودت بحياة عشرات الآلاف.
ويحمل سكان غزة بطاقة هوية فلسطينية وجواز سفر فلسطيني صادر عن السلطة الفلسطينية. ويُمنعون من السفر إلى ما وراء الخط الأخضر أو إلى الضفة الغربية، مع استثناءات قليلة جدًا وتصاريح محدودة. وهم مرتبطون بالعالم الخارجي من خلال معبر رفح الحدودي مع مصر، والذي ظلت السلطات المصرية تغلقه بانتظام منذ بداية الحصار في سنة 2007.
ووفقًا لبيانات الأمم المتحدة؛ فإن أسوأ فترة للإغلاق كانت بين سنتي 2015 و2017، عندما كان المعبر مفتوحًا بمعدل ثلاثة أيام فقط شهريًا. وكان مفتوحًا في الغالب في السنوات الخمس التي سبقت ذلك، في حين بلغ متوسط الإغلاق كل يومين تقريبًا منذ سنة 2018.
بالإضافة إلى ذلك؛ يواجه الفلسطينيون في غزة قيودًا عديدة على الدخول والخروج من هذا الجيب الصغير. وتؤدي عمليات إغلاق المعبر العديدة أو تقليل ساعات العمل إلى حدوث اكتظاظ، مما يؤدي إلى تأخير السفر لفترة طويلة. ولذلك يجب على المسافرين التسجيل للمغادرة قبل أيام، إن لم يكن أسابيع، فقط لتأمين الفرصة.
وعلى الرغم من عدم وجود قيود قانونية رسمية؛ لا يستطيع سكان غزة عمليًا الزواج من فلسطينيين من الضفة الغربية لأنهم ببساطة لا يستطيعون الذهاب إلى هناك. وفي الوقت نفسه، لا يُسمح لسكان الضفة الغربية بالدخول إلى غزة، باستثناء بعض الحالات القليلة.
وإحدى هذه الحالات هي حالة ابن أخي من الضفة الغربية والذي وقع في حب فتاة من، ولقد أمضوا سنوات عديدة وهم يحاولون الحصول على تصريح لم الشمل إما في الضفة الغربية أو في غزة لكنهم فشلوا. ومع عدم وجود خيار سوى المغادرة، انتقلوا لاحقًا إلى القاهرة للالتقاء والزواج هناك.
وتهدف هذه التصنيفات الجغرافية إلى منع أي تواصل اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي بين الفلسطينيين بحسب إقامتهم ووضعهم القانوني. وتصنف الإدارة المدنية الإسرائيلية السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة حسب سلوكهم السياسي والأمني ووضعهم الاقتصادي، من خلال ما يسمى “نظام التصاريح”.
ولا يُسمح للفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية أو غزة بدخول إسرائيل أو القدس، ويُحرمون من حرية التنقل بين الضفة الغربية وقطاع غزة إلا في حالة إصدار تصريح من قبل السلطات الإسرائيلية.
ولإصدار مثل هذا التصريح، يجب على الفلسطينيين أولًا الحصول على بطاقة ممغنطة صادرة عن الإدارة المدنية والتي تستلزم تقديم المعلومات البيومترية الخاصة بهم إلى الجيش الإسرائيلي. ومن المؤكد أن مثل هذه المعلومات الحساسة ستستخدم لاحقًا لأغراض أمنية تديم الاحتلال والسيطرة على حياة ملايين الفلسطينيين.
وبمجرد حصولهم على البطاقة الممغنطة، والتي يجب تجديدها بشكل دوري، يحق للفلسطينيين التقدم بطلب للحصول على تصريح. ولا يمكن إصدار التصاريح إلا بموافقة عملاء المخابرات الإسرائيلية. ويُمنع أي شخص يشتبه في قيامه بأي عمل تعتبره السلطات الإسرائيلية “عدائيًا أو إرهابيًا أو قد يهدد الأمن”. ولا يكفي أن يكون لدى المتقدمين أنفسهم سجلات نظيفة؛ حيث تمتد الشروط الصارمة إلى أفراد أسرهم.
ووفقًا لمنظمة “غيشا”، وهي منظمة إسرائيلية لحقوق الإنسان مكرسة لحماية حق الفلسطينيين في حرية التنقل، يتم وضع الآلاف من المتقدمين للحصول على تصاريح تحت “حواجز أمنية”. وتكثر القصص حول كيفية تعامل سلطات المخابرات الإسرائيلية مع الفلسطينيين الذين يحتاجون إلى تصريح. وكثيرًا ما يطلبون منهم تقديم معلومات أو التعاون مع إسرائيل مقابل الحصول على التصريح.
“التصنيفات داخل التصنيفات”
التصنيفات الإسرائيلية مفرطة إلى درجة أن هناك “تصنيفات ضمن تصنيفات”. ومن الأمثلة على ذلك استهداف الحكومة لمدن محددة في الضفة الغربية، مثل جنين ونابلس؛ حيث تشكلت جيوب المقاومة. وقامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بمداهمات وتوغلات عسكرية عنيفة في تلك المدن، وأخضعت جميع سكانها للعقاب الجماعي.
ومن ناحية أخرى، تقدم إسرائيل بعض الامتيازات لعدد محدود من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، حسب وضعهم السياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي؛ حيث يتم إصدار بطاقات “كبار الشخصيات” للمسؤولين الفلسطينيين، تمكنهم من دخول إسرائيل والسفر عبر مطار بن غوريون. وهم يتمتعون بمعاملة خاصة ويتنقلون عبر خط منفصل عن بقية السكان الفلسطينيين عند نقاط التفتيش والمعابر عند سفرهم.
وبالمثل؛ أنشأت إسرائيل شركة “بي إم سي” أو “بيزني” التي أنشأت شركة نقل “خدمة كبار الشخصيات الحدودية” في معبر اللنبي، وهي توفر خدمة نقل سريعة ليتمكن المسافرون الفلسطينيون من الاستمتاع بالمعاملة المخصصة للأجانب وكبار الشخصيات مقابل رسوم عالية. وهي تمكنهم من تجنب الازدحام وتأخير السفر والاتصال بالجمهور أثناء عبور الحدود، خاصة خلال موسم الذروة.
ولقد استثمرت إسرائيل، في سياسة التصنيف الواسعة التي تنتهجها، موارد هائلة لتمزيق النسيج الاجتماعي في فلسطين وإبقاء شعبها منقسمًا، ولكن من خلال قتلها الوحشي للأطفال والنساء الفلسطينيين، وتدميرها لأسس المجتمع في غزة، تظهر إسرائيل لونها الحقيقي. فعندما تواصل شن حرب إبادة جماعية، لا تفرق فيها بين فلسطيني وآخر، سواء في الضفة الغربية أو غزة، أو من حركة فتح أو حماس. وكان نتنياهو واضحًا جدًا عندما قال إنه لا يرى فرقًا بين حماس والسلطة الفلسطينية وأشار إلى أن إسرائيل تستعد لاحتمال الحرب مع السلطة الفلسطينية، مشيرًا إلى أن غزة “لن تكون دولة حماس ولا دولة فتح”.
بالنسبة للفلسطينيين؛ حتى قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر، لم يتزعزع الشعور بأنهم شعب واحد ذو مصير مشترك؛ بل أصبح أكثر رسوخًا خلال الحروب والأزمات، كما هو الحال الآن.
ويتجلى ذلك من خلال التظاهرات وروح التضامن والمقاومة الشديدة ضد الاحتلال، سواء في القدس أو في جنين – التي أصبحت تسمى “غزة الصغيرة” – أو في نابلس أو في جباليا وخانيونس.
إن الدم الفلسطيني واحد ورصاص الاحتلال لا يفرق.
المصدر: ميدل إيست آي