عاشت سوريا نهار وليل السبت – الأحد يومًا عصيبًا بعد استهداف النظام السوري شرقي العاصمة دمشق بغازات سامة، وذكر أحد فصائل الجيش الحر المتواجد في الغوطة الشرقية “فيلق الرحمن” أن العديد من مقاتليه أصيبوا بحالات اختناق، جراء استهداف قوات النظام بلدة زملكا شرق العاصمة دمشق بغازات سامة للمرة الثالثة على التوالي، وكانت قوات النظام استهدفت بلدة عين ترما المجاورة أمس السبت بغاز الكلور السام، مما أدى إلى إصابة أكثر من ثلاثين مقاتلًا من الجيش الحر، البعض منهم بحالة حرجة جدًا.
يأتي هذا بعد محاولات كثيرة لقوات النظام، منذ أكثر من عشرة أيام لاقتحام بلدة عين ترما قرب دمشق، بهدف السيطرة على محيط العاصمة، والانطلاق منها باتجاه حي جوبر، آخر الأحياء الخاضعة لسيطرة المعارضة بدمشق.
وفي موازاة ذلك هز العاصمة دمشق اليوم ثلاثة انفجارات بسيارات يقودها انتحاريون حسب الرواية التي قدمها النظام السوري عبر التلفزيون الرسمي، ونقلت وكالة “سانا” السورية، عن مصدر في قيادة شرطة النظام، أنه كانت هناك ثلاث سيارات مفخخة انفجرت اثنتان على طريق المطار مقابل كلية الهندسة الكهربائية والميكانيكية وجامع بلال الحبشي، والثالثة في ساحة الغدير في حي العمارة.
ترفض واشنطن حتى الآن التغول بتدخلها في سوريا وتوجيه ضربة قاضية للنظام السوري لكي لا تغرق في مستنقع كما هو حاصل في العراق
فيما يرى مراقبون أن تلك الانفجارات تتشابه مع باقي التفجيرات التي حصلت في سوريا بعد كل حادثة كبرى، وما هذه التفجيرات الآن إلا لإلهاء الرأي الداخلي والعالمي بفعلته التي قام بها في شرق دمشق بعد ضربه قوات الجيش الحر بالسلاح الكيميائي في عين ترما وزملكا
وعود فارغة
يبدو أن وعود العالم وعلى رأسهم واشنطن وبعض العواصم الأوروبية أقرب ما تكون خلبية من أن تكون حقيقية وصادقة، إذ يضرب الأسد الكيماوي على رؤوس الأشهاد وعلى مرأى من العالم كله، فقبل نحو خمسة أيام فقط هددت كل من بريطانيا وفرنسا النظام السوري، على خلفية معلومات صرحت بها الولايات المتحدة الأمريكية أن نظام الأسد يستعد لاستخدام أسلحة كيماوية ستؤدي إلى قتل جماعي في صفوف المدنيين، وذكر البيت الأبيض في يوم الإثنين الماضي أن الجيش السوري يحضر لهجوم كيماوي جديد، وواشنطن سترد بالقوة على أي استخدام لهذه الأسلحة.
توعدت كلا من فرنسا وبريطانيا فـي تصريحات شديدة اللهجة باستخدام القوة ضد النظام السوري في حال إقدامه مجددًا على استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، فذكر مندوب فرنسا الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير فرانسزا ديلاتر أن الموقف الفرنسي بشأن هذه المسألة المحددة واضح تمامًا، وعلى الجانب الآخر أكد الرئيس الفرنسي ماكرون الأسبوع الماضي حين ألمح إلى أن الأسلحة الكيميائية خط أحمر بالنسبة لنا.
مراكز حساسة للجيش السوري مثل ثكنات عسكرية أو مطارات أو قواعد عسكرية أو مستودعات قد تكون عرضة لضربة محتملة من واشنطن في الأيام القليلة القادمة
وتابع ديلاتر، فـي تصريحات إعلامية بمقر المنظمة الدولية بنيويورك “نرى أن منع الانتشار النووي بات على المحك الآن، وأي متورط فـــي شن هجمات كيميائية ستتم مساءلته ومعاقبته على أعماله الشنيعة”. كما ذكر نائب الممثل الدائم للمملكة المتحدة لدى الأمم المتحدة، السفير بيتر ويلسون: “فـــي حال وجدنا دليلًا يتعلق باستخدام الأسلحة الكيميائية (من نظام الأسد)، فإننا سنتحرك عندما نسمع تلك المعلومات”.
من جانبها غردت سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي على تويتـر “أي هجمات مستقبلية على شعب سوريا لن يوجه اللوم فيها على الأسد فحسب بل أيضًا على روسيا وإيران اللتين تدعمانه لقتل شعبه”.
يُذكر أنه نشطت في الأيام القليلة الماضية حركة حثيثة لطائرات التجسس الأمريكية قرب السواحل السورية واللبنانية، وحسب سجلات الرصد الجوي الأمريكية فإن ثلاث من أهم أدوات التجسس لوكالة الاستخبارات الأمريكية حلقت بشكل متزامن في المياه الدولية، كما استخدمت في عمليات الرصد طائرة من طراز فونكس كونستانت 135 التي تُعنى بالأساس في رصد الانفجارات النووية وجمع معلومات عن الإشعاعات الصادرة عنها، إلا أن أهميتها تكمن أيضًا في قدرتها على حمل مجسات ترصد موادًا كيميائية في الجو بعد أسابيع من حصول أي انفجار.
موسكو تعتمد على استراتيجية تعزيز محاولة التهدئة والمصالحات، ولكن مقابل تلك التهدئة تدعم أي محاولات للنظام وحلفائه لاستعادة السيطرة على مناطق المعارضة في سوريا
وبعد ذلك الرصد أشارت تقارير استخباراتية أمريكية إلى وجود تعزيز لإجراءات عسكرية في المراكز التي ما زال النظام السوري يحتفظ فيها بأسلحة كيميائية، بالإضافة لرصد نشاط في الاتصالات بين مركز البحوث العلمية والفرع 450 الذي يُعتقد أنه المسؤول عن الأسلحة الكيميائية عند النظام، وحسب تلك التقارير الاستخباراتية، أصبحت القواعد الجوية والبحرية في الشرق الأوسط على أهبة الاستعداد بعد تلقيها إيعاز من القيادة لاحتمال قصف محتمل على سوريا، ولا تزال تلك القواعد تنتظر الضوء الأخضر من الرئيس الأمريكي ترامب لشن الهجوم.
ومع وقوع الضربة الكيميائية في وقتين منفصلين وفي مكانين هما عين ترما وزملكا ووقوع إصابات حرجة، أغمضت واشنطن عينيها عن الضربة وأصمت أذنيها لكي لا تسمع أي نداء، علمًا أن التهديد والوعيد الأمريكي لم يقتصر فقط على مسؤوليين عاديين، بل حذر البيت الأبيض من أنه سيرد على استعدادات رصدها لقوات النظام السوري لشن هجوم كيماوي جديد، وتوعد رئيس النظام بشار الأسد بدفع ثمن باهظ في حال إقدامه على ذلك.
الصحف الأمريكية كتبت بعد التهديد الأمريكي للأسد أنها خطوة تمهيدية لضربة أمريكية وشيكة محتملة في سوريا
وكان نائب مساعد الرئيس الأمريكي ترامب، سيباستيان غوركا، قال خلال مقابلة مع CNN إنه واثق من أن التهديد الأمريكي سيجعل الأسد يفكر مرتين قبل شن هجوم كيماوي آخر، بعد الضربة العسكرية الأميركية على قاعدة “الشعيرات” الجوية العسكرية السورية في إبريل/ نيسان، وهي ضربة قال غوركا تُشير إلى أنه تحت إدارة دونالد ترامب، الخطوط الحمراء هي فعلاً خطوط حمراء“
وكتبت الصحف الأمريكية بعد التهديد الأمريكي للأسد أنه خطوة تمهيدية لضربة أمريكية وشيكة محتملة في سوريا، وأن السيناريو الأرجح في هذه الضربة ضرب سوريا عبر السفن الحربية الأمريكية في المنطقة كي لا يثار صدى دبلوماسيًا مدويًا للضربة قياسًا باستخدام قواعدها على أراضي حلفائها في المنطقة.
يرى مراقبون أن الهجوم ربما لم يستوف شروط التحرك الأمريكي، فحسبما ذكر المتحدث باسم الرئاسة الأمريكية شون سبايسر في بيان، فإن الولايات المتحدة رصدت استعدادات محتملة من قبل النظام السوري لشن هجوم كيماوي آخر، قد يؤدي إلى عملية قتل جماعية لمدنيين، بمن فيهم أطفال أبرياء، هذا يعني أنه في حال لم تؤد الضربة الكيميائية إلى قتل جماعي لمدنيين بمن فيهم أطفال أبرياء، فلن تتحرك واشنطن لتنفيذ وعودها.
ونددت روسيا بالتهديدات الأمريكية، وصرح المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أمام صحافيين: “نعتبر مثل هذه التهديدات ضد الحكومة السورية غير مقبولة”، وذكر أنه لا يعرف الأسباب أو الأدلة التي تستند إليها واشنطن في اتهاماتها. وعن هجوم خان شيخون واصلت روسيا إنكارها مسؤولية الأسد عن الضربة، وقال بيسكوف إنه لا يمكن تحميل مسؤولية الهجوم في خان شيخون، الذي أوقع 88 قتيلًا من بينهم 31 طفلًا، إلى القوات السورية، طالما لم يُفتح تحقيق غير منحاز.
أصبحت القواعد الجوية والبحرية الأمريكية في الشرق الأوسط على أهبة الاستعداد بعد تلقيها إيعاز من القيادات الأمريكية لاحتمال قصف محتمل على سوريا
كما أكد وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، أن روسيا سترد بشكل مناسب إذا قررت الولايات المتحدة اتخاذ إجراءات استباقية ضد قوات الحكومة السورية بزعم أن دمشق تحضر لهجوم كيماوي، وفي مؤتمر صحفي مع نظيره الألماني، قال لافروف إنه يأمل ألا تستخدم أمريكا معلومات سرية عن تخطيط سوريا لهجوم كيماوي ذريعة لأعمال استفزازية في سوريا.
ثوابت أمريكية
الثابت حتى الآن أن العلاقات الروسية الأمريكية تنحدر كل يوم بشكل أسوأ من سابقه، وهذا يعدم أي وسيلة لفتح قنوات تواصل تؤدي لاتفاقات وتفاهمات بشأن سوريا، مما يعني أن الصراع السوري مستمر ما دام طرفا الصراع الدوليين في سوريا لم يتفقا بعد على صيغة معينة لإنهاء الصراع، وهذا يعني أيضًا إبقاء المفاوضات السورية في أستانة وجنيف عبارة عن ديكور واجتماعات بروتوكولية لا أكثر.
ومع انحدار هذه العلاقة لأدنى مستوياتها إلا أن الأمريكيين يتجنبون الاصطدام بالروس، ويحاولون الاتفاق معهم على توزيع مناطق النفوذ داخل سوريا، ورغم الانطباع أن هناك تفاهمًا أّوليًا، فإن موسكو تتصرف بحذر كبير مع واشنطن في سوريا، انطلاقًا من عدم ثقتها بها من جهة، ولكونها لا تتضمن تحالفًا كاملاً مع حلفائها في سوريا كإيران من جهة أخرى.
وهذا ما يجعل موسكو تعتمد على استراتيجية تعزيز محاولة التهدئة والمصالحات كما في اتفاق أستانة وتنفيذ بنوده القاضية بتهدئة الأوضاع في مناطق محددة، ولكن مقابل تلك التهدئة فهي تدعم أي محاولات للنظام وحلفائه لاستعادة السيطرة على مناطق المعارضة في سوريا وتقدم لها الدعم الجوي وكل ما يلزم لذلك، وبعد كل انتصار يتحقق على الأرض ترفع موسكو من سقف مطالبها وتبدي ممانعة أكبر لأي تفاهم مع الأمريكيين.
ذكر البيت الأبيض الأسبوع الماضي أن الجيش السوري يحضر لهجوم كيماوي جديد، وواشنطن سترد بالقوة على أي استخدام لهذه الأسلحة
بالنسبة لواشنطن فهي ترفض حتى الآن التغول في تدخلها في سوريا وتوجيه ضربة قاضية للنظام السوري لكي لا تغرق في مستنقع كما هو حاصل في العراق، ثم إنها تخشى من غضب عربي قد يدفع سوريا إلى استخدام كل أوراقها التي سيكون من بينها إشعال الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية والجبهة الفلسطينية وفتح الحدود السورية العراقية للسماح بتدفق المقاتلين.
ومن ثم هناك “إسرائيل” المتخوفة من انهيار النظام في الوقت الحاضر لتكون غير قادرة على مواجهة أي سيناريوهات مفتوحة، بالأخص أن الجميع متخوف أن انتقال السلطة في حال الإطاحة بالنظام السوري قد يسمح بصعود إسلاميين إلى السلطة يشكل خطرًا على “إسرائيل” ودول أخرى.
ومع ذلك لا تمانع واشنطن من ضربات عسكرية جزئية أو كما يسميها البعض عملةي جراحية بسيطة، كما حصل في ضربة الشعيرات، ويرى محللون أنه من الوارد أن الأيام القليلة المقبلة ستحمل بين طياتها ضربة أمريكية خفيفة تهدف إلى إضعاف النظام وليس إسقاطه، وبنفس الوقت توجيه ضربة لكل من موسكو وطهران لتغيير التوازنات الميدانية الحالية، بحيث تكون تلك الضربات موجهة ضد مراكز حساسة للجيش السوري مثل ثكنات عسكرية أو مطارات أو قواعد عسكرية أو مستودعات أو يمكن أن توجه لإحدى المؤسسات الأمنية أو إحدى القصور الرئاسية.