أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق، نتائج الانتخابات المحلية التي أجريت في 18 ديسمبر/كانون الأول الحاليّ، وشهدت تحولًا كبيرًا في مزاجية الناخب العراقي، سواء على مستوى نسبة المشاركة في هذه الانتخابات أم القوائم التي فازت فيها، وهو مؤشر مهم لطبيعة التحول السياسي في العراق، خصوصًا مع مقاطعة التيار الصدري والقوى المدنية لها.
جاءت نتائج الانتخابات لتحاكي طبيعة الواقع السياسي الذي نتج بعد تشكيل حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، والحديث هنا عن قوى “تحالف إدارة الدولة”، وهي تحالفات “تقدم” و”دولة القانون” وقوائم الحشد الشعبي، التي احتلت المراتب الأولى في عموم المحافظات العراقية الـ15 المشاركة في الانتخابات.
ورغم إعلان مفوضية الانتخابات أن نسبة المشاركة في هذه الانتخابات 41% تقريبًا، فإن المشاركة الفعلية لم تتعد 25%، فبالعودة إلى سجلات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، نجد أن عدد المواطنين الذين يحق لهم المشاركة في الانتخابات 26 مليون مواطن عراقي، أما المواطنون الذين حدثوا سجلاتهم الانتخابية 16 مليون ناخب، في حين عدد المشاركين في الانتخابات 6 ملايين ناخب، لذلك فإن نسبة 41% التي أعلنتها مفوضية الانتخابات، تصبح محل تساؤل كبير.
وفي هذا الإطار أيضًا، وبالعودة للنسب سابقة الذكر، يتضح لنا بأن الطريقة التي احتسبت بها مفوضية الانتخابات نسب المشاركة غريبة جدًا، ولم يتم اعتمادها في أي دولة أخرى بالعالم، وتحديدًا الدول التي تعتمد نفس النظام الانتخابي – نظام “سانت ليغو” – المعمول به في العراق، وبالنظر إلى عدد المصوتين في انتخابات المجالس المحلية، البالغ 16 مليون ناخب، يتضح لنا أن نسبة المصوتين من العدد الكلي للناخبين هي 25% فقط، في حين أن نسبة المصوتين من عدد المواطنين الذين حدثوا سجلاتهم الانتخابية هي 41% فقط.
هذه النسب ارتبطت بطريقة أو أخرى بحالة المقاطعة الشعبية للانتخابات، التي تجاوزت النصف، بغض النظر عن النسبة الصحيحة للمشاركين في الانتخابات، ورغم أن المقاطعة سلوك سياسي يعبر بطريقة أو أخرى عن تصويت عقابي يُمارس ضد العملية السياسية، فإنها تحولت في الحالة العراقية، إلى سلوك اجتماعي بدأ يجد صداه في كل عملية انتخابية تشهدها البلاد.
ولعل مرد ذلك يتمثل في سؤال المواطن العراقي عن جدوى الانتخابات في ظل هذا الواقع السياسي، خصوصًا أن القوى السياسية التي يطمح المواطن إلى إبعادها عن المشهد السياسي، هي من يُهندس العملية الانتخابية، على مستوى القانون والتحالفات والتوافقات، وحتى المخرجات التي تأتي بعد صدور النتائج.
ورغم أن مشهد المقاطعة جاء بعد إعلان زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر مقاطعة الانتخابات، وتبعه في ذلك إعلان قوى مدنية تبنيها نفس الخيار، فإن هذا الخيار انخرط فيه أغلب الشارع العراقي، وتجاوز كونه خيارًا سياسيًا تبناه الصدر أو القوى المدنية، بحيث بلغت نسبة المقاطعين للانتخابات 78%، مع تفاوت نسبة المقاطعة بين المحافظات الشمالية والجنوبية، حيث شهدت المحافظات الشمالية نسبة مشاركة عالية مقارنة بالمحافظات الجنوبية.
تحدي ما بعد الانتخابات
إن التحدي الأبرز الذي يواجه العملية السياسية في العراق، يتمثل في كيفية التعاطي مع نتائج هذه الانتخابات، خصوصًا مع توجه الناخب إلى تفضيل القوائم المحلية على القوائم العابرة للحدود، والحديث هنا عن قوائم “نينوى لأهلها” في محافظة نينوى، وقائمة “تصميم” في محافظة البصرة، وقائمة “واسط أجمل” في محافظة واسط، وقائمة (كركوك قوتنا وإرادتنا) في محافظة كركوك، وتحالف (إبداع كربلاء) في محافظة كربلاء، مع ضرورة الإشارة هنا، إلى تمكن بعض القوائم كتحالف تقدم وائتلاف دولة القانون ونبني، من التصدر في محافظات أخرى.
إن نتائج الانتخابات، وفي ظل نظام “سانت ليغو” لم تعط فرصة الحصول على أغلبية مريحة، ما سيدفع بالعودة إلى صيغة التوافق في تشكيل المجالس المحلية، سواء على مستوى اختيار المحافظين أم تشكيل المجالس التشريعية لكل محافظة، فضلًا عن ذلك، فإن توزع المقاعد على أغلب الكتل المشاركة في انتخابات كل محافظة، ستجعل المجالس المحلية تُصاب بحالة من “العوق التنفيذي والعوز التشريعي”، بسبب عدم القدرة على تشريع القوانين أو حتى تنفيذيها، خلافًا للإدراة السياسية لهذه الكتلة أو تلك.
وفي ذات السياق، فإن تمكن القوائم التابعة للحشد الشعبي من الحصول على مقاعد في مجالس المحافظات، وتحديدًا في محافظات نينوى وديالي وصلاح الدين وبغداد، وأغلب المدن الجنوبية، سيدفع باتجاه تفعيل دورهم سياسيًا، إلى جانب تأثيرهم الأمني، وهو ما سيحقق حالة الارتياح السياسي للفصائل المسلحة قبل المضي باتجاه الانتخابات البرلمانية المقبلة.
ولعل أحد أبرز أسباب دعم قوى الإطار التنسيقي، وتحديدًا الأجنحة المسلحة المنضوية ضمنه، إجراء الانتخابات في موعدها المحدد، يتمثل في الحصول على هذا الامتياز السياسي، على مستوى المجالس المحلية، من أجل الاستعداد مبكرًا للانتخابات البرلمانية القادمة.
فمما لا شك فيه، أن القوائم الفائزة بالانتخابات المحلية، ستتحكم بالميزانيات الخاصة بالمحافظات خلال الأعوام الثلاث القادمة، وهو ما يجعلها متحكمة بشبكة واسعة من الاستثمارات والعلاقات التجارية والمشاريع الكبيرة، التي ستدر عليها موارد مالية كبيرة، ستعطيها دفعة قوية لتحقيق حالة سياسية مريحة، في مقابل القوى الناشئة أو المستقلة التي ستحاول تصحيح الأوضاع في المرحلة المقبلة.
الصدر في حلقة مفرغة
إن السؤال المهم يتمثل في الكيفية التي سيتعاطى بها الصدر مع نتائج الانتخابات، فرغم أنه وجه رسالة شكر للمقاطعين بعد صدور نسبة المشاركة، لا يتوقع أن يتوقف الصدر عند هذا الحد، خصوصًا مع خروج محافظات مهمة كالبصرة وميسان، من تحت تأثيره خلال الانتخابات الأخيرة، والأكثر أهمية من ذلك، هي انعكاس نتائج هذه الانتخابات على نفوذه داخل العاصمة بغداد، بعد استحواذ كل من ائتلاف دولة القانون وتحالف نبني على حصص التيار الصدري في مجلس محافظة بغداد.
يمكن القول إن نسبة المقاطعة قد تشجع الصدر على المضي قدمًا في سياسة إضعاف حكومة السوداني، فهو يدرك أن هذه النسب تتناغم معه سياسيًا، أكثر من قوى السلطة التي دفعت باتجاه إجراء الانتخابات، رغم التحفاظات التي أثيرت حولها، ومن ثم فإن هذا الواقع قد يمنح الصدر فرصة المضي للأمام للحديث ليس فقط عن ضرورة إصلاح النظام، وإنما عن شرعية هذا النظام أيضًا، ومن ثم العملية السياسية، في ضوء نسبة المقاطعة الأخيرة.
إن الانتخابات في العراق لا تختلف عن أي انتخابات في العالم، لكن الفارق الجوهري يتمثل في الجوانب الشكلية لها، وهي جوانب عادة ما تكون حاضرة وموضع تساؤل العديد من التيارات السياسية والاجتماعية في البلاد، لأهميتها في تشكيل العملية السياسية، إذ تمثلت أبرز الاعتراضات التي ساقها التيار الصدري، في كون هذه الانتخابات تمثل توجهًا لتكريس سيطرة الإطار التنسيقي على البلاد، وبالتالي لا بد من الحد من هذه السيطرة، وقد يكون هذا التوجه، هو إستراتيجية عمل التيار الصدري في المرحلة المقبلة.