ربما يراها البعض سخرية أن يكون السبب في تحول القوة الاقتصادية من الولايات المتحدة إلى الشرق الأقصى وتحديدًا إلى اليابان، رجل أمريكي في الأساس، ولكن لم يكن هذا غريبًا في عالم الأعمال التجارية، فليست المنتجات والخدمات وحدها محلًا للمنافسة، بل المصادر البشرية أيضًا، وبالأخص إن كانت ماهرة وعالمة في مجالها، تمامًا كما هو الوضع في حالة “إدوارد ديمنغ”.
هو أمريكي ومهندس للإلكترونيات، أنهى دراساته العليا في الرياضيات والفيزياء الرياضية، تقلد مناصب حكومية مختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية، كما كانت له أبحاثه الخاصة في علم الإدارة والتصنيع في الشركات العملاقة، استخدم فيها الإحصاء لدراسة أداء الشركات وما إن كانت فعالة في عملية التصنيع أم لا وما الذي يؤثر تحديدًا على تلك الفعالية.
بعد الحرب العالمية الثانية بقيت دولة واحدة غير متأثرة وغير متضررة، فلم تكن ذات بنية تحتية مُهدمة كما كان الحال في أغلب الدول الأوروبية التي تصدعت، ولم تختف معالم الدولة الأساسية من على وجه الأرض كما حدث مع اليابان، بل كانت الملاذ الوحيد لمطالب العالم من منتجات وخدمات، والتي لم يتوقفوا عن الاحتياج إليها حتى بعد الحرب، لتبدأ الولايات المتحدة الأمريكية رحلتها في أن تكون دومًا صاحبة المكانة الأولى والمرتبة الرفيعة في الإنتاج والتوزيع.
أثبتت حينها الولايات المتحدة الأمريكية القاعدة الاقتصادية الشهيرة التي تفيد بأن العرض يخلق الطلب الخاص به، والتي تُعرف أيضًا بقانون “ساي” للعرض والطلب من وجهة نظر العرض، فكل ما كان يكفي الولايات المتحدة حينها لكي تكون في المركز الأول في المنافسة أن تقوم بالإنتاج فحسب، فالعالم في حالة عجز، وسيقبل المشترون بأي شيء يُعرض عليهم مهما كان سعره ومهما كانت جودته.
لم تكن تلك نقطة انطلاق كوكب اليابان العملاق في السوق، فعلى الرغم أنه بالفعل بدأ باستقطاب كثير من مريدي السوق الأمريكية من خلال أسعاره التي تقل عن أسعار المنتج الأمريكي، ذلك لم يكن كافيًا على الإطلاق في مواجهة مُصدر الرأسمالية الأول للعالم
لم تستمر الولايات المتحدة في تلك المكانة بضع سنوات فحسب، بل استمرت لعقود، فلم يكن هناك احتمالية بزوغ نجم لمنافس قوي لها في هذا المضمار، لا سيما أن البلاد المتضررة من تبعات ونتائج الحرب، وخصوصًا تلك التي انهزمت منها، قد استمرت فترة طويلة في مرحلة التعافي ومن ثم فترات أخرى لإعادة البناء من جديد، ولهذا سنحت الفرصة للولايات المتحدة أن تفرض على العالم سياساتها الاقتصادية التي تحقق بها مصالحها الشخصية.
في الفترة التي تلت منتصف الستينيات ظهرت على الساحة بضعة شركات يابانية، حاولت تقليد المنتجات الأمريكية لتدخل معها في مضمار المنافسة، إلا أن العامل الوحيد الذي استخدمته تلك الشركات في ذلك الوقت سلاحًا للضغط على السوق لكي يتنحى قليلًا عن السوق الأمريكية ويبدأ التفكير في البدائل، عامل السعر الذي لم يكن شديد الأهمية، حيث قررت تلك الشركات أن تحاول إنتاج مثيل المنتج الأمريكي ولكن بسعر أقل لضمان مكانتها في المنافسة.
لم تكن تلك نقطة انطلاق كوكب اليابان العملاق في السوق، فعلى الرغم من أنه بالفعل بدأ باستقطاب كثير من مريدي السوق الأمريكية من خلال أسعاره التي تقل عن أسعار المنتج الأمريكي، فإن ذلك لم يكن كافيًا على الإطلاق في مواجهة مُصدر الرأسمالية الأول للعالم، فإذا تابعنا قائمة أغنى 500 شركة على مستوى العالم من منتصف الستينيات إلى أواخر السبعينيات سنجد أن القائمة تهيمن عليها الشركات الأمريكية فحسب.
احتاجت المنافسة عاملًا أقوى من كل من الإنتاج أو التلاعب بالأسعار لكي تنتقل إلى مستوى أعلى وأكثر تعقيدًا، وذلك حينما ظهر عامل “الجودة” على ساحة المنافسة بين الشركات العملاقة، وهنا أيضًا حينما ظهر تأثير الأمريكي إدوارد ديمينغ على الصناعة اليابانية.
من إدوارد ديمينغ السبب في نقلة الصناعة اليابانية؟
إدوارد ديمنغ
آمن ديمينغ أن اللوم لا يقع على المنافس إذا نجح في استقطاب السوق نحو ما ينتجه، بل اللوم يقع على إدارة الشركة في أي فشل يصيبها وليس على سوء المنتج، وهو ما عارضه فيها نظام إدارة أغلب الشركات الضخمة في ذلك الوقت من الزمن في الولايات المتحدة الأمريكية.
ربما يراها البعض سخرية أن يكون السبب في تحول القوة الاقتصادية من الولايات المتحدة إلى الشرق الأقصى وتحديدًا إلى اليابان رجل أمريكي في الأساس
آمن ديمينغ أن الجودة تُصنع منذ بداية العملية الإنتاجية لأي فكرة أو مشروع أو منتج، ويمكن أن تكون عُنصرًا في العملية الإنتاجية منذ البداية وليس ناتجًا نتوقع ظهوره في نهاية العملية الإنتاجية أو بعد عملية التصنيع، وهي الفلسفة التي ناقضت تمامًا الفلسفة المتبعة آنذاك، وهو السبب الذي جعل الكثير من الشركات الضخمة أن تتجاهله، ذلك لأنها وجدت أن فلسفته في الإدارة خيالية ولا تصلح على أرض الواقع على الرغم من أنها كانت مُدعمة بأبحاث وإحصائيات.
إدوارد ديمنغ مع رئيس شركة تويوتا اليابانية فوكيو ناكاجاوا
لم يكن ذلك السبب الوحيد لتجاهل أغلب الأمريكيين لإدوارد ديمينغ، بل كان هناك عدة أسباب أخرى، وصفتها صحيفة “نيويرك تايمز” في عددها المنشور في الثمانينات من القرن الماضي بعنوان “لقد علّم اليابانيين” عن شخصيته، حيث أشارت إلى افتقاده لجاذبية وسحر أغلب رواد الأعمال البارعين أو المُجددين، إلا أنه عرف كيف يتحدث، خصوصًا في أثناء حديثه إلى أغلب مديري الشركات التنفيذيين، حيث كان يتحدث إليهم وكأنهم أطفال صغار.
استخدامه للغة الصعبة ولكلمات شديدة التعقيد لم تعجب المدراء الأمريكان، فلم يحبوا البحث عن المعنى الذي يقصده، حيث أشارت إلى ذلك صحيفة “ذا نيويورك تايمز” في عددها المذكور سابقًا، قائلة إن لغته في الحديث لم تختلف كثيرًا عن لغته في كتابه “الاقتصاد الجديد”.
“يجب على الإدارة أن تهتم بمبدأ الاستمرارية في تحديد الهدف، وبتطوير المصادر البشرية جنبًا إلى جنب مع المصادر المادية، كما يجب عليها دومًا أن تخلق الفرص”
التحول في القوى الاقتصادية من أمريكا إلى الشرق الأقصى
إدوارد ديمنغ في اليابان
آمنت اليابان أن إدوارد ديمنغ بمثابة “ديناميت اقتصادي”، و استطاعت بعد تطبيق نظرياته وفرضياته أن تحسم المنافسة لصالحها بالنسبة للمنتجات عالية الجودة
كانت اليابان مركزًا لتبني نظريات “ديمنغ” في علم الإدارة وأبحاثه وتجاربه في نظام التصنيع الذي يعتمد الجودة منذ بداية العملية ويهتم بها أكثر من اهتمامه بالتكلفة، لم يكن ديمنغ بحاجة لمن يسمعه ويأخذ أفكاره ونظرياته في الاعتبار بقدر ما كانت اليابان بحاجة ماسة إلى ديمينغ، فالبلد كانت معدومة تقريبًا، بعد أن فقدت اثنين من مدنها تم محوهما بشكل كامل بعد إلقاء الجيش الأمريكي القنابل الذرية عليهما.
حينها عرفت اليابان حاجتها لتبني عنصر جديد في صناعتها تقدمه للعالم، تتفرد وتتميز فيه، ولهذا آمن اليابانيون أن يكونوا في المركز الأول لمصدري منتجات مُصنعة عالية الجودة للعالم أجمع، لتكون أفكار ديمينغ في نفس السياق أكثر النظريات والأفكار مطابقة لأحلامهم، بل السبيل لتحويل تلك الأحلام إلى نجاح على أرض الواقع.
“أنتم لا تعرفون تكلفة المنتج المعيوب، أنتم تعرفون فقط تكلفة طريقة استبداله، وإنما لا تعرفون تكلفته، لأنكم لا تعرفون الثمن الذي سيكلفكم جراء مشاعر غاضبة من الزبائن”
آمنت اليابان أن إدوارد ديمنغ بمثابة “ديناميت اقتصادي”، واستطاعت بعد تطبيق نظرياته وفرضياته أن تحسم المنافسة لصالحها بالنسبة للمنتجات عالية الجودة، وهو ما جعلهم ينجحون في تحويل دفة التوازن في القوة الاقتصادية بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية إلى الشرق الأقصى.
جائزة ديمنغ للجودة
كانت الضربة قاضية بالنسبة للصناعة الأمريكية، وبالأخص في مجال السيارات، وهو ما جعل شركات كبرى في الولايات المتحدة مثل فورد وجي إم تكاد تعلن إفلاسها لولا الدعم الحكومي الأمريكي لها حفاظًا على كونها كيانًا مؤسسًا للرأسمالية في صورتها الثابتة أمام العالم، إلا أن في الواقع تفوقت الصناعة اليابانية وتقدمت نظيرتها الأمريكية أشواطًا لكي تفضل السوق الأمريكية في النهاية الصناعة اليابانية في السيارات.
آمن ديمينغ أن الجودة تُصنع منذ بداية العملية الإنتاجية لأي فكرة أو مشروع أو منتج، ويمكن أن تكون عُنصرًا في العملية الإنتاجية منذ البداية وليس ناتجًا نتوقع ظهوره في نهاية العملية
كانت النتيجة رغبة الكثير من الشركات الأمريكية الضخمة على رأسها فورد وغيرها من الشركات الكبري مثل بروكتر& جامبل وزيروكس في تبني سياسة وفلسفة ديمنغ في الإدارة، لتحقق بعدها نجاحات مشهودة وتقدم منتجات تحتل مكانة الأكثر مبيعًا في السوق الأمريكية.
توفي إدوارد ديمنغ في عمر الثالثة والتسعين، كان يعمل حتى وفاته، لم يكل ولم يمل في العمل مع الكثير من المدراء التنفيذيين لأكبر الشركات التي تسيطر على الاقتصاد العالمي من الشرق الأقصى وحتى أقصى الغرب في الولايات المتحدة، لتتحول الأخيرة من مجرد ناكرة له إلى متبنية لأفكاره، وأما عن اليابان فما زالت جائزة “ديمنغ” من أعلى الجوائز مكانة في تخصص “إدارة الجودة الكاملة” (TQM) والتي تُعرف عالميًا باسم جائزة الجودة.