كثفت إيران من وجودها العسكري في سوريا بشكل عام وجنوب البلاد (محافظات درعا والسويداء والقنيطرة) بشكل خاص عام 2023، مستفيدة من تقلص الحضور الروسي هناك، بسبب انشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا من جهة، وتوتر العلاقات بينها وبين “إسرائيل” والغرب من جهة ثانية.
دراسة جديدة لـ”مركز جسور للأبحاث” كشفت أنه من بين 90 موقعًا عسكريًا أجنبيًا في الجنوب السوري، تسيطر إيران على 82 منها، بعضها خاص بالحرس الثوري، وبعضها يعود لحزب الله اللبناني، والبعض الآخر مشترك بين القوتين.
أرقام ومؤشرات
حسب الدراسة، فإن العدد الأكبر من هذه المواقع يتركز في محافظة درعا، حيث توجد 49 قاعدة ونقطة عسكرية، 17 منها لميليشيا حزب الله اللبناني، و8 مواقع للحرس الثوري الإيراني، وتشترك كِلتا الميليشيتين في 18 موقعًا، بينما كانت حصة القوات الروسية 6 مواقع.
أما في السويداء، فإن عدد المواقع أقل بكثير، مقارنة بدرعا، حيث يوجد 15 موقعًا، 3 منها فقط للقوات الروسية، و3 أخرى مشتركة بين حزب الله والحرس الثوري، فيما ينفرد الحزب اللبناني بـ8 مواقع والحرس الثوري بموقع واحد.
وفي القنيطرة، يغيب الوجود الروسي بشكل كامل، لتتقاسم ميليشيا الحرس الثوري وحزب الله السيطرة على 27 موقعًا، 10 منها يسيطر عليها حزب الله، بينما يشترك مع الحرس الثوري في 12 موقعًا، ويسيطر الحرس على المواقع الخمس الأخيرة.
روسيا.. دور هزيل
تجري الشرطة العسكرية التابعة لوزارة الدفاع الروسية في الجنوب دوريات تفتيش وإشراف وَفْق اتفاقية التسوية الموقعة بين فصائل المعارضة والنظام في حوران عام 2018، إلى جانب نشاط آخر يتمثل بعمليات التجنيد التي تقوم بها الشركات الأمنية الروسية المرتبطة بوزارة الدفاع، مثل شركة الصياد، بالإضافة طبعًا إلى تهريب المخدرات.
نشاط روسي يبدو هزيلًا بالمقاييس التي وافقت على أساسها القوى الغربية و”إسرائيل”، وكذلك بعض الدول العربية، على التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا عام 2015، التي كان أبرزها، إلى جانب منع سقوط النظام، الحد من النفوذ الإيراني في سوريا، وإبعاد الميليشيات المرتبطة بطهران عن الحدود الجنوبية إلى عمق يزيد على 50 كيلومترًا.
استغلال إيراني
لكن بعد مرور ثمانية سنوات على هذا التفاهم، ورغم كل ما بني عليه من خطوات لاحقة، كان أهمها التطبيع الدبلوماسي العربي مع دمشق، زادت إيران من نفوذها وكثفت انتشارها، مركزة على الجنوب حيث تضاعف عدد مواقعها العسكرية هناك منذ ذلك العام.
تعمد القوات الإيرانية إلى إعادة التموضع والانتشار في محافظات جنوب سوريا، تجنبًا للاستهداف الإسرائيلي، كما أنها توسع دائرة تجنيد المجموعات المحلية في المنطقة لتكون جزءًا من قواتها في الحرس الثوري وحزب الله، فضلًا عما لا يظهر في الخريطة من المجموعات العسكرية أو القوات الأمنية التابعة للنظام، وهي موالية للمشروع الإيراني أو تعمل معه بناء على تقاطع المصالح بينهما، مثل الفرقة الرابعة في جيش النظام، ومجموعات الأمن العسكري والمخابرات الجوية.
أهداف إستراتيجية
ترى الدراسة التي أعدها “جسور” وهو مركز أبحاث سوري مقره إسطنبول، أنّ انتشار المجموعات العسكرية المدعومة إيرانيًا في درعا والجنوب السوري عمومًا، يتيح لإيران ورقة ضغط مهمة ضد “إسرائيل”، يمكن استخدامها حال قررت تل أبيب تنفيذ تهديداتها وضرب المصالح الإيرانية، وبالأخص المفاعلات النووية، كما أنه يوفر لطهران ابتزاز الأردن ودول الخليج.
وعليه يمكن فهم لماذا يتركز الانتشار الإيراني في محافظة القنيطرة، المتاخمة للجولان السوري المحتل، في تلال عسكرية مرتفعة تتيح لها تنفيذ عمليات رصد ومراقبة التحركات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة.
الباحث في الشؤون الإيرانية مصطفى النعيمي يوافق على هذا الاستنتاج، مؤكدًا أن الوجود العسكري الإيراني في الجنوب السوري يمثل لطهران “مصدات عسكرية وأمنية دفاعية متقدمة، ومرتكزات هجومية تنطلق منها لتحقيق مكاسب في ملفاتها التفاوضية”.
ويقول في تصريح لـ”نون بوست”: “يوفر هذا التمركز لإيران إمكانية الضغط على “إسرائيل” لعدم توسيع أو تغيير قواعد الاشتباك التقليدية بينهما، ناهيك بما يؤمنه لها من أوراق ضغط على الولايات المتحدة والغرب فيما يتعلق بملفها النووي وكذلك ملف الأموال المجمدة والعقوبات الاقتصادية”.
تأثر الوجود الإيراني بالوجود الروسي
بينما يحاول الجانب الروسي إظهار دوره المستمر في محافظتي درعا والسويداء، بسبب العداء الشعبي للوجود الإيراني فيهما، فإن “المجموعات المدعومة من الحرس الثوري تتمتع بهامش نشاط واسع في محافظة القنيطرة دون أي ضغوطات روسية، خاصة بعد أن سحبت موسكو نقاطها من المنطقة، الأمر الذي يمكن تفسيره في سياق الضغط الروسي المتعمد على “إسرائيل”، بعد تدهور العلاقات بين موسكو وتل أبيب في أعقاب الحرب الأوكرانية، وسماح “إسرائيل” لخبراء ومستشارين بدعم القوات الأوكرانية ضد روسيا”، حسب الدراسة.
لكن الباحث مصطفى النعيمي يذهب إلى أبعد من ذلك في تقديره للموقف بهذا الشأن، حيث يرى أن الوجود الروسي العسكري في جنوب سوريا “كان عبارة عن بوابة لشرعنة وجود الميليشيات الولائية الإيرانية متعددة الجنسيات”، وبالتالي أصبحت روسيا تقدم الدعم اللوجستي للميليشيات الإيرانية في سوريا عمومًا والجنوب خصوصًا.
ويشير النعيمي إلى أن الغالبية العظمى من النقاط العسكرية المشتركة مع قوات النظام السوري “تعتبر تابعة لمشروع إيران بشكل مباشر، من خلال استثمار مقاطعة المعلومات التي من شأنها تعزيز الوجود الإيراني في الجنوب السوري”.
تطور الاستجابة الإسرائيلية
يزيد هذا الواقع من تعقيد فرص انسحاب إيران من سوريا في أي وقت لاحق، وهو ما يأمل الكثيرون أن يتحقق حال التوصل إلى حل دبلوماسي شامل للقضية السورية.
من جانبها فإن “إسرائيل”، وبالتعاون مع الولايات المتحدة، تعمل على معالجة أضرار هذا الواقع وتقليص مخاطره أو احتوائها، من خلال تكثيف ضرباتها الجوية، وتطوير عملياتها بالتعاون مع الولايات المتحدة.
والجديد في هذا السياق، كما يقول النعيمي، هو “رصد تعاون استخباري أمريكي-إسرائيلي في عمليات السطع الجوي في آخر ضربة وجهت للميليشيات الإيرانية في سوريا، والتي نفذت على مدار قرابة 5 ساعات، وشملت المنطقتين الساحلية والوسطى، إضافة إلى وجود السرب 122 الاستخباري ضمن عمليات السطع الجوي، ما يعني أن “إسرائيل” انتقلت من مرحلة الدفاع إلى الهجوم”.
ويرى النعيمي أن الضربات الوقائية الإسرائيلية لاستهداف برامج المسيرات ومحيط المطارات التي توسعت يوم الإثنين الماضي، لتشمل المطار الزراعي في منطقة الديماس بريف دمشق، حيث تتخذه الميليشيات الإيرانية مركزًا لها في مشروعها لتطوير وإطلاق المسيرات، الذي بات يقلق صناع القرار في واشنطن وتل أبيب، ما يرشح لكسر قواعد الاشتباك التقليدية بالفعل بين الطرفين.
لذا يرى النعيمي أن “طهران ستبقى متمسكة إلى أبعد حد بهذه المكتسبات”، رغم تغيير بعض قواعد الاشتباك، “لكنه تغير تكتيكي لا يعني أن إيران وصلت إلى حافة الهاوية في استثمار جهود مصداتها العسكرية والأمنية في سوريا عمومًا، والجنوب بشكل خاص” كما يقول.
خيارات المعارضة ومستقبل الوجود الإيراني
هذا بالنسبة لـ”إسرائيل” والقوى الغربية الداعمة لها، التي ترى في زيادة النفوذ الإيراني والحضور العسكري لقواتها، وتحديدًا في جنوب سوريا، خطرًا يتوجب مواجهته، لكن ماذا عن المعارضة السورية، وما الأدوات التي يمكن أن تلجأ إليها لمعالجة هذا الواقع المتفاقم؟
من حيث المبدأ، لا تمتلك المعارضة أي قوة عسكرية نشطة حاليًا في جنوب البلاد يمكن التعويل عليها وتطويرها لمواجهة هذا التزايد الكمي والنوعي في الحضور الإيراني العسكري.
وعليه لا يبقى إلا التعويل على مرحلة ما بعد انتهاء الصراع، والتوصل إلى اتفاق دبلوماسي شامل على أساس القرارات الدولية، وتضمين هذا الاتفاق ما ينص على خروج كل القوات الأجنبية من البلاد، بما في ذلك القوات والميليشيات الإيرانية.
لكن إلى أي حد يمكن بالفعل التعويل على هذا الخيار، خاصة مع تأكيد المسؤولين في نظام الملالي باستمرار على أن الوجود الإيراني في سوريا سيستمر دون سقف زمني؟
سؤال يجيب عنه الباحث في مركز “جسور” عبد الوهاب عاصي بالتأكيد على أن إيران تعمل أصلًا على إفشال أي حل سلمي في سوريا، نظرًا لتغلغلها في مؤسسات الجيش والأمن السورية، ما يجعل خروجها بكل الأحوال صعبًا جدًا.
ويقول في تصريحه لـ”نون بوست”: “الذي يحول بين اتفاق المعارضة والنظام ليس وجود إيران في سوريا فقط، إنما عدم قبول النظام بمبدأ التفاوض أصلًا مع المعارضة، وعدم الاعتراف بها ولا بمطالب الشعب السوري منذ عام 2011. هذا الموقف هو ما تستثمر به إيران لأنه يجعل النظام بحاجة لها من أجل الحسم العسكري، لكن عدم قدرته على ذلك يدفعه لتسليم الكثير من منشآته العسكرية والمدنية لإيران”.
ويضيف “تغلغل إيران في المؤسسات العسكرية والمدنية والسياسية يجعل خروجها من سوريا، حتى في المستقبل شبه مستحيل، فهي تراهن على التغلغل أكثر في مفاصل النظام، وبالتالي جعل مصيره مرتبطًا بشكل عضوي بمصير وجودها في سوريا، وهذا الأمر أحد أهم قضايا الخلاف بين روسيا وإيران، رغم أن النظام لا يرغب كثيرًا في هذا الخلاف، لكن سياساته الراديكالية تجاه حسم الصراع وإصراره على مواقفه يجعله ينزلق باستمرار إلى ما تريده إيران”.
أما بخصوص الموقف أو التأثير العربي في هذا الملف، فيرى عاصي أن “الدول العربية، لا سيما الأردن، تراهن على سحب النظام من هذا المستنقع، وبالتالي ربط وجوده وبقائه باستعادة علاقاته مع الدول العربية والاستجابة لمطالبها، لكنه حتى اللحظة غير واثق وغير مقتنع غالبًا بالسياسات العربية، فضلًا عن عرقلة إيران لهذا التوجه”.
استفادت إيران عام 2023 من مجمل التطورات لتزيد من وجودها العسكري في سوريا، وتحديدًا في الجنوب، ورغم اندلاع مظاهرات ضخمة بمحافظة السويداء، ورفع المتظاهرين شعارات تندد بإيران وتطالب بخروجها من البلاد، فإن اندلاع الحرب بغزة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعاد خلط الأوراق ليزيد من رغبة طهران في التمسك بهذا الوجود بل وتطويره، بوقت تبدو فيه روسيا غير مهتمة بمواجهة ذلك، بينما لا تمتلك الدول العربية المناوئة لطهران أي قدرة على فعل شيء، الأمر الذي يعزز من فرص هذا الوجود على المدى المتوسط والبعيد، ما لم تحصل متغيرات كبيرة في سوريا والمنطقة.