ترجمة وتحرير: نون بوست
كتب على أحد اللافتات المعلقة في الشوارع الراقية في مدينة بنغازي التي مزقتها الصراعات “نحن نحارب الإرهاب من أجل العالم”، في حين كانت بعض اللافتات الأخرى تحمل صورة المشير خليفة حفتر، وهو يرتدي الزي العسكري، مع العلم وأن حفتر يعد من أقوى الشخصيات على الساحة الليبية وأكثرها تأثيرا. في الحقيقة، تعتبر الرسالة التي تجسدها هذه اللافتات مثيرة للانتباه.
في الواقع، عندما زرت ليبيا قبل أكثر من ثلاث سنوات، شدد المشير حفتر في مقابلة أجريتها معه، على ما ورد في تلك اللافتة، حيث قال إن “ليبيا ستكون مقبرة الإرهاب الدولي”. وقد أدلى حفتر بهذا التصريح خلال الأيام الأولى من عملية الكرامة، الحملة العسكرية بقيادة المشير حفتر لتخليص بنغازي من المليشيات المتطرفة التي استولت على المدينة منذ ثورة 2011. وفي الأثناء، وعد حفتر بأن العملية ستنتهي في غضون أسابيع.
في شهر أيار/مايو، دخلت الحرب شهرها السادس والثلاثين، وتعد هذه الفترة طويلة للغاية مقارنة بمرحلة الانتفاضة التي أطاحت بالدكتاتور معمر القذافي. وقد أدى النزاع المستمر في ليبيا إلى مقتل الآلاف من المواطنين وتشريدهم، كما خلف دمارا على نطاق واسع لم تشهد له البلاد مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية.
أدت العملية العسكرية بإشراف حفتر إلى زعزعة استقرار المنطقة. ولعل أبرز حدث جدّ في هذا الصدد، تصاعد وتيرة الاستبداد والبروز السياسي لحفتر خاصة في ظل تحديه للحكومة التي تدعمها الأمم المتحدة في طرابلس
في الوقت الراهن، يمكن أن يدعي حفتر أنه قد حقق بعض النجاحات، حيث تمكنت قواته من الإطاحة ببعض “المتطرفين”، مما دفعهم إلى العودة إلى المواقع المهمشة على شواطئ بنغازي. وعلى الرغم من أن مظاهر الحياة بدأت تدب في المدينة، إلا أن ذلك قد كلف البلاد ثمنا باهظا، حيث أدت العملية العسكرية بإشراف حفتر إلى زعزعة استقرار المنطقة. ولعل أبرز حدث جدّ في هذا الصدد، تصاعد وتيرة الاستبداد والبروز السياسي لحفتر خاصة في ظل تحديه للحكومة التي تدعمها الأمم المتحدة في طرابلس.
والجدير بالذكر أن صعود حفتر كان بدعم من المحور الإماراتي المصري. ومؤخرا، تضافرت العديد من الإشارات التي تدل على دعم إدارة ترامب له. لكن مما لا شك فيه أن تبعات ما يحدث ستؤثر على جميع البلاد وليس على بنغازي فقط.
في واقع الأمر، انطلقت عملية الكرامة في أعقاب الهجوم الإرهابي الذي جدّ في سنة 2012، والذي استهدف البعثة الدبلوماسية الأمريكية. وقد أسفر الحادث عن مقتل السفير كريستوفر ستيفنز وثلاثة أمريكيين آخرين. وفي الأشهر التي تلت ذلك، عمت حالة من اليأس بنغازي، لكن،و مع مرور الوقت تجاوز الجميع وقع هذه الحادثة.
على العموم، تُرهب الاغتيالات السكان خاصة مع استهداف السيارات المفخخة للقضاة والناشطين وحراس الأمن والضباط العسكريين، مما دفعهم للامتناع عن الخروج ليلا. وكانت دوافع عمليات القتل في معظمها غامضة، حيث تتولد عن مزيج من العنف، والخلافات القبلية، والإجرام. ولكن، ومهما كان المبرر وراء هذه الهجمات، يتوق السكان إلى استتباب النظام، وتدخل أي شخص بوسعه وضع حد للفوضى.
من ناحية أخرى، شارك حفتر، الذي تجاوز عقده السابع، في حرب القذافي في تشاد قبل أن ينشق ويهرب، بمساعدة وكالة المخابرات المركزية، إلى ولاية فرجينيا، حيث عاش حوالي 20 سنة. وبعد عودته إلى ليبيا خلال ثورة 2011 ضد القذافي، حاول حفتر قيادة المتمردين لكنه فشل في ذلك. ومنذ ذلك الوقت، اختفى حفتر عن الأنظار مغتنما الفرصة للقيام بجولة في جميع أنحاء ليبيا رفقة أنصاره، لمعاينة الأوضاع.
في شباط / فبراير سنة 2014، ظهر حفتر على شاشة التلفزيون وأعلن عن حل البرلمان المنتخب، الأمر الذي قوبل بالسخرية، في حين أطلق عليه السكان: “الانقلاب الذي لم يحصل بالأساس”. إثر ذلك، وفي تلك الصائفة، في خضم العنف المستفحل في بنغازي، استطاع حفتر، مع بضع مئات من أتباعه من وحدات الجيش الساخطين والقبائل الشرقية، فضلا عن بعض الطائرات المتهالكة، البروز على الساحة السياسية من جديد من خلال “عملية الكرامة” للقضاء على الميليشيات المتطرفة في المدينة. وفي غضون سنة، سيطرت قواته على معظم المناطق الشرقية. والجدير بالذكر، أن حكومة طرابلس لم توافق على هذه الحملة، التي ستدفع البلاد قريبا إلى حرب أهلية.
سعى حفتر إلى إعادة تشكيل ملامح السياسة الليبية من خلال طرد الإسلاميين السياسيين، وخاصة الإخوان المسلمين، الذين اتهمهم بالتواطؤ في أعمال العنف. وقد توافق هذا الهدف مع سياسات القائد المصري، عبد الفتاح السيسي الذي أثرت خطاباته كثيرا في حفتر، والذي يشكل دعمه العسكري والسياسي له أهمية قصوى
في وقت لاحق، أخبرني حفتر أن عملية الكرامة لم تكن تهدف بالأساس إلى طرد المتطرفين فقط، ولكن أيضا لاستعادة كرامة الضباط النظاميين الذين تم تهميشهم من قبل “الميليشيات”. علاوة على ذلك، أشار حفتر إلى أن ضباط النظام السابق كانوا يتقاضون أجرا زهيدا مقارنة بالميليشيات غير المدربة التي لها صلة بالجهاديين، ملقيا اللوم على فساد البرلمان والقيادة المدنية في طرابلس.
من جهة أخرى، سعى حفتر إلى إعادة تشكيل ملامح السياسة الليبية من خلال طرد الإسلاميين السياسيين، وخاصة الإخوان المسلمين، الذين اتهمهم بالتواطؤ في أعمال العنف. وقد توافق هذا الهدف مع سياسات القائد المصري، عبد الفتاح السيسي الذي أثرت خطاباته كثيرا في حفتر، والذي يشكل دعمه العسكري والسياسي له أهمية قصوى.
توقع حفتر أن القتال سينتهي في غضون أسابيع، لكن الأسابيع تحولت إلى أشهر ومن ثم تحولت الأشهر إلى سنوات. وعلى الرغم من أن المساعدات الدولية ساهمت في دعم قوات حفتر، إلا أن أعداء المشير حفتر تكاثروا أيضا. من جانب آخر، انضمت الإمارات العربية المتحدة، التي تعادي بدورها جماعة الإخوان، إلى المصريين في عمليات إرسال العربات المدرعة والمستشارين وطائرات الهجوم إلى ليبيا.
من جانبها، أغدقت روسيا على حفتر باهتمام كبير من خلال تأدية زيارة إلى حاملة الطائرات والقوات الخاصة هناك، وتقديم المساعدات الطبية. علاوة على ذلك، أرسل الفرنسيون والبريطانيون والأمريكيون عناصر خاصين تكفلوا بتقديم مستويات متفاوتة من الاستخبارات والدعم لحفتر.
عموما، ارتكب حفتر خطأ جسيما. فمن خلال مهاجمة المسلمين، ساوى حفتر بين المعتدلين والجهاديين. ومع مرور الوقت، تحول ميزان القوى إلى الراديكاليين، في ظل تدفق التونسيين والمصريين وغيرهم من الأجانب. وفي أوائل سنة 2015، دخل تنظيم الدولة إلى البلاد واستغل هذه الفوضى العارمة. وفي الأثناء، كان مصير الإسلاميين الذين تصالحوا مع الدولة الليبية إما القتل أو النفي أو اللجوء إلى ما يسمى بدولة الخلافة.
في أواخر سنة 2015، عندما عدت إلى بنغازي، كانت معركة عملية الكرامة تواجه مأزقا حقيقيا. وحين زرت المستشفيات الميدانية رأيت رجال حفتر الذين وقعوا ضحية الألغام أو القناصة. وفي الأثناء، كان يمنع الولوج إلى مناطق واسعة من المدينة. وعندما عدت في شهر أيار/ مايو المنقضي، وجدت أن ساحة المعركة قد تغيرت، حيث أعلنت جميع قوات حفتر انتصارها في جبهة القتال. مما لا شك فيه أن القتال لا يزال مستمرا، في حين دمرت الكثير من أجزاء المدينة، بما في ذلك المدينة القديمة الشهيرة ومحكمة العدل، موقع الاحتجاجات الأولى ضد القذافي التي جدت سنة 2011.
أما منطقة سوق السمك المحررة، مؤخرا، حيث تتجمع العائلات عادة في ليالي رمضان، فقد أصبحت في الوقت الراهن، عبارة عن مجرد جدران متداعية. والجدير بالذكر أن الحدائق التي شيدت على النمط الإيطالي، والتي يعشقها المتساكنون بسبب أشجار الأرز التي تغطيها، فقد دمرت إلى جانب البازار المغطى، “سوق الجريد”، المليء بمحلات الخياطة والحدادة وبيع المجوهرات والجلود.
وإلى حد الآن، لا يزال الجنود يلقون حتفهم بسبب نيران القناصة، ولا سيما الفخاخ المتفجرة، التي تعتبر بمثابة أجهزة شيطانية، حيث يعجز المارة عن رؤيتها نظرا لأنها ليست سوى ألواح رقيقة من الخشب المغطى بالرمل أو القمامة أو العشب. كما لا يزال المدنيون عرضة للقتل بسبب صواريخ أو قذائف الهاون، وغالبا ما يكون ذلك في الليل. في الواقع، لقد كنت شاهدا على مخلفات إحدى العمليات الإرهابية وكل ما شاهدته كان عبارة عن حفرة عميقة، وسيارة محروقة بالكامل، ورجل يبكي أخاه.
في المقابل، في أجزاء عديدة من البلاد شعرت أن نسق الحياة طبيعي. ففي المنطقة القديمة من قشلة البركة، ترفرف الأعلام الخضراء التابعة لنادي النصر لكرة القدم، وهو الفريق المفضل محليا، في جميع أرجاء الشوارع. كما يتمركز عناصر شرطة المرور، الذين يرتدون زيهم الأبيض الصيفي، إما عند التقاطعات أو أمام المنازل خوفا من الاغتيالات. أما المصانع والمزارع فتعمل بنسق طبيعي في حين يعمل أصحاب المشاريع الأصغر سنا جاهدين للالتحاق بالركب من خلال محاولة تطوير التقنيات البدائية والمشاركة في مسابقات تصميم تطبيقات مبتكرة. فضلا عن ذلك، فتحت الجامعات أبوابها من جديد.
المليشيات القبلية والجهوية التي قام حفتر بتسليحها في وقت مبكر من حملته قد ارتكبت العديد من الانتهاكات. وفي مرحلة ما، ضمت هذه الميليشيات المعروفة باسم “قوات الدعم” ما بين 60 و80 بالمائة من رجال حفتر ولا تزال تحتفظ بالسلطة إلى غاية اليوم على الرغم من الجهود المبذولة لحلها
بالإضافة إلى ذلك، عاد مظاهر الترفيه لتتغلغل في صفوف المواطنين. ففي “مول لونا”، ترى الأطفال يمرحون ويلعبون بجوار محلات الآيس كريم، والحلوى، ومحلات بيع الملابس والأندية الموسيقية والمسارح والمعارض الفنية.
وفي حديقة حديثة التدشين تابعة لأحد النزل يجلس عريس جديد يدخن تبغ بنكهة التفاح بينما يعرض التلفاز المثبت على الحائط أحد المسلسلات المصرية. في الواقع، يعد هذا الجانب الوجه المشرق للأوضاع في بنغازي الذي يعكس التقدم والنظام، لكن مما لا شك فيه أن هناك وجه آخر للمدينة.
على العموم، لا تعتبر حرب بنغازي مجرد عملية عسكرية للجيش ضد “الإرهابيين”، بل هي أيضا صراع اجتماعي عميق في ظل التوترات القبلية والطبقية، بين الجيران والأهل، وبين القبائل الشرقية والأسر من الغرب، وبين النخب الحضرية و فقراء الريف. وقد كشفت التقارير عن حالات التعذيب والاختفاء وتدمير الممتلكات التي تنامت بشكل ملحوظ. كما سلطت هذه التقارير الضوء على عمليات الإعدام التي ترتكب بين هذه الجماعات.
وتجدر الإشارة إلى أن المليشيات القبلية والجهوية التي قام حفتر بتسليحها في وقت مبكر من حملته قد ارتكبت العديد من الانتهاكات. وفي مرحلة ما، ضمت هذه الميليشيات المعروفة باسم “قوات الدعم” ما بين 60 و80 بالمائة من رجال حفتر ولا تزال تحتفظ بالسلطة إلى غاية اليوم على الرغم من الجهود المبذولة لحلها.
في الواقع، أقدم العديد من هؤلاء العناصر على مهاجمة عائلات من يشتبه بأنهم من المقاتلين حيث قاموا بتدمير منازلهم وتخريب محلات عملهم. وفي هذا الصدد، برر أحد قادة “عملية الكرامة” هذه الممارسات على أنها تصب في مصلحة إنقاذ “النسيج الاجتماعي” في بنغازي، إلا أن ما حدث هو العكس تماما.
بينما كنت أقود السيارة عبر حي “الليثي” في بنغازي، عاينت أدلة على الممارسات الدنيئة التي تم ارتكابها داخل الحي الفقير وذو الكثافة السكانية العالية، الذي اقترنت سمعته بالنضال والتفكك. فقد مررت بأنقاض المنازل والمتاجر المحترقة وهياكل السيارات. في الأثناء، بدا أن النهب والسلب قد وقع استثمارهما في إطار التنافس بين الطبقات. وفي هذا الإطار، أعربت القبائل الفقيرة عن استيائها من الإسلاميين الأثرياء. فضلا عن ذلك، التقيت بزعيم أحد المليشيات الموالية لحفتر التي شنت هجوما على ممول مزعوم للمتطرفين كان يمتلك ورشة ألمنيوم عمل فيها هذا الزعيم فيما مضى.
في الوقت الراهن، يشكل العديد ممن يفرون من الهجمات المتعسفة في الليثي وغيرها من الأحياء العمود الفقري للمعارضة المقاتلة ضد حفتر. من جهة أخرى، اضطرت العديد من العائلات إلى مغادرة بنغازي وذلك لسبب بسيط يتمثل في قتال أقاربهم من الذكور لحفتر. علاوة على ذلك، يدّعي لاجئون آخرون أن استهداف مليشيات حفتر لهم لم يكن سوى على خلفية جذورهم العائلية لا سيما بالنسبة لمن ينحدرون من المدن الغربية على غرار مصراتة التي تعتبر مركز بعض القوات الساحلية التي قامت بتسليح وتمويل الإسلاميين المعارضين لحفتر.
أما في مصراتة، فقد التقيت بعدد من عناصر الميليشيات الذين قاموا بشحن أسلحة لصالح الإسلاميين الذين يقاتلون ضد حفتر. ويشتكي هؤلاء من أن الحرب التي يقودها الجنرال قد غذت نزعة جديدة بين بعض القبائل الشرقية المشاركة في عملية الكرامة، ذلك أن من اعتبرتهم هذه القبائل ليسوا من بنغازي ومناطق الشرق تُنسب إليهم صفة الغرباء أو “الغربيين”.
منذ قرون خلت، هاجرت عائلات من مصراتة إلى بنغازي واستقرت وسط المدينة، حيث ازدهر أفرادها كتجار ومعماريين. وبغض النظر عن هذه الحقيقة، تواجه هذه العائلات الآن تهم بعدم الانتماء للمدينة من قبل القبائل التي حطت رحالها خلال العقود الأخيرة في بنغازي قادمة من المناطق الريفية. أما الأسوأ من ذلك، فيتمثل في وصف هذه القبائل للمصراتيين بالأتراك أو الشركس في إشارة إلى روابط مصراتة التاريخية بالإمبراطورية العثمانية وهو ما عبر عنه أحد المصراتيين “بالعنصرية القبلية”.
مما لا يثير الدهشة أن هؤلاء قد انضموا إلى عملية الكرامة منذ البداية ومن ثم أرسلوا في وقت لاحق وفدا إلى المملكة العربية السعودية للحصول على فتوى من قبل معلمهم الديني في المملكة تأذن بدعم حفتر
تحمل هذه الرواية في طياتها بعضا من المبالغة، حيث تشمل صفوف المعارضين لحفتر عناصر من القبائل الشرقية، تماما مثلما يحظى حفتر بأنصار من مصراتة والمناطق الغربية. ومن هذا المنطلق، تجعل هذه العناصر النزاع في بنغازي مربكا للغاية ذلك أنه يتقاطع مع الصراعات الطائفية ويساهم في تفكيك الأسر. خلافا لذلك، يبدو من الواضح أن القتال القائم على الثأر الذي يحرك النازحين ومن يقاتلون ضد حفتر لا يزال مستمرا. وفي هذا الصدد، أخبرني أحد المتساكنين أن “أيا كان من يسيطر على بنغازي فهو يسيطر على ليبيا”.
من بين النتائج الثانوية الأخرى لعملية الكرامة، الطفرة التي شهدها الإسلام المعتدل في بنغازي عبر المناطق الشرقية. وعلى الرغم من الصورة الشائعة لحفتر على اعتباره علمانيا معاد للإسلام، إلا أنه قام باختيار وتأييد السلفيين الذين يتبعون المنهج السعودي. من جانبهم، يتبنى من يُدعون بالسلفيين “الدعويين” مذهب الولاء للحاكم السياسي ويكنون العداء لأشكال الإسلام الناشطة والمتطرفة من قبيل الإخوان المسلمين والقاعدة.
ومما لا يثير الدهشة أن هؤلاء قد انضموا إلى عملية الكرامة منذ البداية ومن ثم أرسلوا في وقت لاحق وفدا إلى المملكة العربية السعودية للحصول على فتوى من قبل معلمهم الديني في المملكة تأذن بدعم حفتر. وخلال الأشهر الأخيرة، حاول السلفيون الموالون لحفتر تعزيز سيطرتهم على الشؤون الأمنية والحياة الاجتماعية في بنغازي وشرق البلاد. وقد أنشأ هؤلاء ميليشيا خاصة بهم وقاموا بنشرها على الخطوط الأمامية للمدينة.
بالإضافة إلى ذلك، ينشط السلفيون داخل السجون، حيث أنني التقيت أحدهم ممن يعمل على “إعادة تأهيل” المتطرفين المعتقلين دينيا. علاوة على ذلك، تلعب هذه الفئة دور الشرطة الأخلاقية نوعا ما ذلك أنهم قاموا بمصادرة وحرق الكتب التي اعتبروها مثيرة للبدع، كما أقدموا على إيقاف الاحتفال “بيوم الأرض” واصفين إياه بالحدث غير الإسلامي. في الأثناء، يثير نفوذ السلفيين حنق العديد من أنصار حفتر الليبراليين الذين ظنوا أن الجنرال سيعيد فرض الأمن ويطرد الإسلاميين.
يعتبر إضفاء حفتر للطابع العسكري على نظام الحكم أكثر العناصر إثارة للقلق حيث أنه قام باستبدال المسؤولين المنتخبين في البلديات بضباط عسكريين في جميع أنحاء شرق البلاد ما سجل عودة ظهور جهاز استخبارات عهد القذافي. أما المنتقدون لهذه التطورات، فقد تم اسكاتهم عبر الترحيل أو الاعتقال أو حتى الإخفاء وهو ما اعتبره البعض عودة للأيام الخوالي.
أبدى حفتر استعداده إما لقبول منصب مدني يشرف على الجيش الليبي في مجلس الحكم المكون من ثلاثة أشخاص أو الترشح للانتخابات الرئاسية الليبية المزمع عقدها مطلع سنة 2018
على صعيد آخر، يبدو حفتر على أهبة الاستعداد للانتقال إلى ما بعد بنغازي والعمل على نطاق وطني، حيث لم يخف نيته في التحرك غربا نحو طرابلس للإطاحة بالميليشيات المسيطرة على العاصمة. وقد انتزع حفتر بالفعل منشآت النفط في حوض سرت المركزي، كما افتك مؤخرا مطارات جنوبية فيما يسعى للحصول على تأييد دولي.
خلال الخريف الماضي، أرسل حفتر مبعوثين إلى واشنطن واقترح على واشنطن تأسيس مجلس عسكري يحكم ليبيا وهو ما ما قوبل بالرفض. وتعتبر واشنطن أن السيطرة المدنية على الجيش الليبي، يعد بمثابة خط أحمر لا يجب تجاوزه، وذلك وفقا لأحد كبار المسؤولين الأمريكيين الذي حضر تلك الاجتماعات.
مؤخرا، أبدى حفتر استعداده إما لقبول منصب مدني يشرف على الجيش الليبي في مجلس الحكم المكون من ثلاثة أشخاص أو الترشح للانتخابات الرئاسية الليبية المزمع عقدها مطلع سنة 2018. في الأثناء، تغلب الريبة على موقف منتقديه الذين يرون في هذا التحول عودة إلى الديكتاتورية من الباب الخلفي.
في هذا السياق، لاحظت العديد من المؤشرات الدالة على محاولة حفتر الرامية إلى تغيير صورته وهو ما تظهره لافتة إعلانات أخرى نُصبت حديثا في ساحة الكيش الواسعة في بنغازي. وتمثل هذه الساحة موقع للمظاهرات المتواترة. ويظهر حفتر على اللافتة الإعلانية مرتديا بذلة رمادية وربطة عنق ومُحاطا بالحشود المتيمة به. وقد كتب تحت الصورة عبارة “الحركة المدعومة من قبل الشعب لإنقاذ البلاد”.
في شأن ذي صلة، أوضح أحد منظمي الحركة، المنتصبين في خيمة قريبة من اللافتة الإعلانية، الهدف الكامن وراء هذه الحركة المتمثل في الحصول على 400 ألف توقيع “مُوثّق” ما يسمح لحفتر بحكم البلاد. وتتسم هذه الحركة بنفس سياسي، في حين يشهد نسقها تسارعا بفضل النشاط العسكري المصري والإماراتي الأخير نيابة عن حفتر فضلا عن الأزمة التي تعيشها قطر، الراعية لخصوم حفتر الإسلاميين.
علاوة على ذلك، تواترت العديد من الإشارات المشجعة من قبل ترامب أثناء جولته في الشرق الأوسط. وفي حين أبقت إدارة أوباما الجنرال بعيدا عنها، مثّل تركيز ترامب على مكافحة الإرهاب والإسلاميين واحتضان الطغاة العرب، هبة من الله لحفتر. وبالعودة إلى بنغازي، يبدو أن الشعور بالندم يلقي بثقله على بعض المؤيدين السابقين لحفتر.
في الحقيقة، تعكس العودة الملحمية لحفتر بالنسبة لهؤلاء، وإنقاذه للمدينة المضطربة وهيمنته الوطنية كافة العناصر التي تجعل منه شخصية “مقدسة” وهو ما يمثل صدى لما حدث في ماض ليس ببعيد. في هذا الإطار، أفاد أحد الناشطين المحليين قائلا: “لقد بلغنا مرحلة اعتبرناه خلالها بمثابة شخصية مقدسة وهو ما يعد خطيرا ذلك أننا ارتكبنا الخطأ ذاته في زمن القذافي”.
المصدر: ذي أتلانتك