تدخل الحرب على غزة يومها الـ75 وسط تكثيف للقصف الإجرامي الإسرائيلي الذي يستهدف المنشآت المدنية والصحية والبنيوية لقطاع غزة، ما أسفر عن ارتقاء قرابة 20 ألف شهيد، وأكثر من 52 ألف مصاب، حسب إحصاءات وزارة الصحة في القطاع.
وفي المقابل نجحت المقاومة الفلسطينية في تكبيد الاحتلال خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، حيث ارتفع عدد القتلى في جيش الكيان إلى 137 مجندًا وضابطًا منذ بدء العمية البرية، و463 قتيلًا منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بحسب الأرقام الرسمية الصادرة عن جيش الاحتلال.
وبعد 75 يومًا من الحرب التي فشل الكابينت الإسرائيلي في تحقيق أي من أهدافها الثلاثة التي أعلن عنها بداية المعركة (القضاء على حماس – تحرير الأسرى – ضمان عدم تهديد القطاع للداخل الإسرائيلي المحتل) هاهو رئيس الكيان إسحاق هرتسوغ يعلن استعداد بلاده لهدنة إنسانية من أجل الإفراج عن عدد من الأسرى، بعد لقاء رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بعائلات الرهائن وسط ضغط داخلي كبير.
وتجدد المقاومة بعد شهرين ونصف على الحرب، تأكيدها على الصمود وقدرتها على التحدي والمواجهة، وأن دخولها تلك المعركة لم يكن عملية اعتباطية كما يصف البعض، بل إنها نجحت في وضع السيناريو الملائم لإدارة تلك المعركة باحترافية عالية على كل المسارات، عسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا.
معاناة 75يوم في دقيقة #شمال_غزة pic.twitter.com/H3obh54RYP
— حسام شبات (@HossamShabat) December 20, 2023
صمود وثبات
راهن الكثيرون من المناهضين للمقاومة، على أنها لن تستطيع الصمود طويلًا، وأن ما فعلته في 7 أكتوبر/تشرين الأول كانت عملية عنترية غير مدروسة، وأن الفارق الهائل بين إمكانياتها المحدودة وقدرات جيش الاحتلال المصنف عالميًا والمدعوم من أكبر جيوش العالم، لن يطيل أمد المعركة أكثر من أيام تُعد على أصابع اليد الواحدة.
لكن جاءت الرياح بما لا تشتهيه سفن المنبطحين، حيث نجحت المقاومة في التعامل مع المشهد بحنكة عالية المستوى، إذ قسمت المعركة إلى محطات ومراحل، لكل منها خططها وتكتيكاتها الملائمة، وهو ما أبقاها حتى اليوم صامدة في الميدان، تلقن الاحتلال ساعة تلو الأخرى دروسًا في فنون القتال والمواجهة، من الاستهداف عبر الرشقات طويلة المدى التي تستهدف قلب تل أبيب، وصولًا إلى المعارك من النقطة صفر.
المثير للدهشة أن أداء المقاومة بعد انتهاء الهدنة الإنسانية الأخيرة كان أكثر شراسة وعمقًا وتأثيرًا، وأعلى دقة ونوعية في مستوى العلميات، مما كان عليه قبلها، في مفارقة أثارت الكثير من الجدل داخل الأوساط الإسرائيلية التي كانت تراهن على ضعف المقاومة وتراجع قدراتها، وهو الوهم الذي على أساسه استُئنف القتال مرة أخرى، ظنًا أن أيام الحرب الطويلة أجهضت إمكانيات حماس وبقية الفصائل.
"صوره شخص وقف فوق رأس جندي إسرائيلي".. كتائب القسام تثير التساؤلات بمقاطع فيديو تُظهر جانباً من عمليات استهداف الآليات والعسكريين الإسرائيليين من المسافة صفر في اليوم الـ73 للحرب pic.twitter.com/oohlLgdNQ9
— TRT عربي (@TRTArabi) December 19, 2023
ولا تكاد تمر ساعة دون أن يخرج جيش الاحتلال لينعى أحد ضباطه أو جنوده أو ليعلن إصابات هنا وهناك في قواته، إضافة إلى بيان أو تصريح أو تسجيل صوتي أو مرئي يوثق استهداف المقاومة لقوات الاحتلال وإحداثها عشرات الخسائر اليومية في صفوفها.
وفي أحدث حصيلة لعمليات المقاومة في اليوم الـ74 للحرب الثلاثاء 19 ديسمبر/كانون الأول 2023، عكس مدى صمودها وإدارتها للمعركة بشكل مفاجئ للجميع، حيث استهدفت 9 آليات عسكرية لجيش الاحتلال، وأجهزت على 17 جنديًا بالكامل، بخلاف 19 جنديًا آخرين بين قتيل وجريح، فضلًا عن استهداف 4 منازل تحصن فيها المحتل بقذائف أفراد، وحدوث 6 اشتباكات من النقطة صفر، واستهداف جيب عسكري، وتفجير 3 مواقع عسكرية تحصينية للاحتلال، إضافة إلى استهداف قوة مترجلة بعبوة ناسفة، وغرفتي قيادة وتحشدات لقوات المحتل.
ومن العمل الميداني داخل قطاع غزة، شمالًا وجنوبًا، إلى استهداف الداخل الإسرائيلي بنفس قوة الأيام الأولى للحرب، حيث قلب تل أبيب التي قذفتها المقاومة بثلاث رشقات صاروخية، أسفرت عن استمرار صافرات الإنذار في الدوي، وأوقفت مطار بن غوريون عن العمل، ودفعت بسكان المدينة وأجوارها إلى الهرولة للملاجئ والاختباء بها.
منجزات الاحتلال.. استمرار لحالة الفشل
على الجانب الآخر، فالاحتلال الذي كان يتصور أنه في نزهة خلوية قصيرة المدى حين بدأ معركته مع حماس، مستخدمًا خطابًا شعبويًا لتخدير الشارع الإسرائيلي الغاضب من الطوفان وتداعياته، إذ به اليوم يجد نفسه في مستنقع من الوحل غاصت فيه أقدامه ولا يستطيع الإفلات منه.
وتوثق شهادات المحللين الإسرائيليين في صحفهم الداخلية حجم الأزمة التي يعاني منها جيش الاحتلال وفشله الفاضح في تحقيق أي من الأهداف التي أعلنها عند بداية المعركة، وكيف أنهم بعد شهرين ونصف لم يستطيعوا هزيمة المقاومة التي تذيقهم يومًا تلو الآخر ويلات العار والاستهداف، وتسقط مجنديهم معلنة خريف الجيش الذي لا يقهر.
ونقل المحلل السياسي الفلسطيني، ياسر الزعاترة، على حسابه الخاص على “إكس” بعضًا من شهادات جنرالات الاحتلال ونخبته السياسية والفكرية بشأن سير المعركة، فهاهو قائد كتيبة في لواء “كفير” الذي يقاتل في حي الشجاعية، يصف الوضع ميدانيًا خلال مقابلة له مع قناة تلفزيونية قائلًا: “استكملنا مهمة الاحتلال التي تم تكليفنا بها.. لكن حتى الآن، العدو يلتف حولنا بـ360 درجة، لكننا لا نراه لأن رجاله يختبئون” وفي ما جاء في تحليل للصحفي الإسرائيلي هاموس هرئيل في صحيفة “هآرتس”.
وتحت عنوان “النضال من أجل الحصول على صورة النصر لرئيس الوزراء لم ينجح” كتب رون كوفمان، في صحيفة “معاريف” قائلًا: “وفقًا للناطق باسم الجيش، فقد دمّر سلاح الجو وحده 21 ألف هدف، وبالطبع هناك فرق المناورة التي تدمّر أيضا آلاف الأهداف، ولكن بعد كل شيء، ما زلنا نقاتل في الجزء العلوي من غزة، أما غزة تحت الأرض، فحيّة وتتنفس، للأسف ولحزن جميع المواطنين هنا”.
من الأخبار الصادمة لمجتمع العدو.
نشرته "يديعوت" اليوم:
هذا ما جرى لأهم وحدة في جيشه.
يقول الخبر:
"وحدة دوفدفان هي رأس الحربة في جيش الدفاع الإسرائيلي، ومقاتلوها يحاربون الإرهاب في الظل منذ ما يقرب من أربعة عقود. كما أن العديد من الأوسمة وشارات الشرف التي جمعتها الوحدة على مر…
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) December 19, 2023
ويبقى السؤال: بعد 75 يومًا على الحرب، ماذا حقق جيش الاحتلال من أهداف يروج لها على أنها نصرًا له لتخفيف حدة الاحتقان لدى الشارع الغاضب؟ هذا السؤال تجيب عليه الأرقام والإحصائيات الرسمية الصادرة عن الجهات الرسمية الفلسطينية والموثقة بالصوت والصورة وعلى مرأى ومسمع من العالم.
ارتكب الاحتلال منذ بداية الحرب 1697 مجزرة، خلفت 20 ألف شهيد، بينهم 8000 طفل، و6200 امرأة، و310 من الطواقم الطبية، و35 من الدفاع المدني، و79 من الصحفيين والأطقم الإعلامية، فضلًا عن 7000 مفقود منهم 70% من النساء والأطفال، وقرابة 52586 جريحًا، بجانب 355 ألف مصاب بالأمراض المعدية نتيجة النزوح.
إضافة إلى 112 مسجدًا تم هدمه و3 كنائس، ونحو 76 مستشفى خرجت عن الخدمة، بجانب استهداف 102 سيارة إسعاف دمرت بالكلية، وأكثر من 52600 وحدة سكنية تم تدميرها بشكل كامل، و245 ألف وحدة سكنية دمرت جزئيًا، ما أدى في النهاية إلى نزوح قرابة 1.8 مليون غزي داخل القطاع.
علاوة على ذلك الحالة المزرية التي عليها جنود الاحتلال، حيث الاضطرابات النفسية التي يعانون منها جراء صدمة الحرب، والقلق من تعرضهم للعقم بعد الإصابات التي تعرضوا لها في أثناء القتال، وأثرت بشكل واضح على قدراتهم الإنجابية حسبما ذكرت الصحف العبرية، فضلًا عن حالات الإعاقة المتزايدة في صفوف الجيش المحتل، والتي تزيد بطبيعة الحال من حالة الاحتقان والغضب من حكومة نتنياهو.
تلك الحكومة التي تواجه انتقادات لاذعة من معظم الشارع الإسرائيلي الذي أقر بفشلها في تحقيق أي من أهدافها وتعريضها حياتهم للخطر، في ظل قدرة المقاومة حتى الآن في استهداف تل أبيب، وإيقاع الخسائر في صفوف الجيش بما فيهم ضباط ذوي رتب رفيعة، فضلًا عن حياة الأسرى التي باتت على المحك بسبب فشل قوات الاحتلال في تحريرهم أحياء.
وتشير تلك الإحصائيات إلى أن الاحتلال لا يستأسد إلا على المدنيين من الأطفال والنساء والبنى التحتية والمستشفيات ودور العبادة، محاولًا الانقلاب على فشله الميداني أمام مقاتلي المقاومة برفع أرقام الضحايا من أبناء غزة، في خطة انتقامية عنصرية يحاول من خلالها البحث عن انتصار زائف وهمي يداري به عورات فشله.
⭕إحصائية عمليات القسام التي أعلن عنها اليوم حتى الساعة 20:01. pic.twitter.com/NiE0O51L8I
— إذاعة الأقصى – عاجل (@Alaqsavoice_Brk) December 19, 2023
“إسرائيل” ترضخ وتطلب هدنة
رغم تصريحات يواف غالانت العنترية وبن غفير العنصرية بشأن تحرير الأسرى عبر الضغط على حماس بتكثيف القتال والقصف لكل أرجاء غزة، إلا أن الاحتلال رضخ في نهاية المطاف واعترف بفشله في تحقيق هذا الحلم، الذي أكدت المقاومة استحالته ما لم يكن عبر هدنة متفق عليها وبشروطها كاملة.
وبعد شعبوية الخطاب الإسرائيلي بشأن ملف الأسرى، هاهو نتنياهو ووزير دفاعه يبلغا وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن أن “إسرائيل” مستعدة لمنح الدبلوماسية فرصة، حسبما نقل موقع “أكسيوس”، فيما نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن مسؤولين أمريكيين قولهم إن الرئيس الأمريكي جو بايدن يرى أن الوقت قد حان لإبرام صفقة تبادل أسرى، كون عودة المحتجزين تعدّ هدفًا أسمى، وفق تعبيره.
#عاجل | مصادر مصرية لسكاي نيوز عربية: إسرائيل تطلب وساطة #مصر و #قطر لإبرام صفقة تبادل أسرى جديدة في إطار هدنة إنسانية بغزة pic.twitter.com/eDHSDYYUJz
— سكاي نيوز عربية (@skynewsarabia) December 11, 2023
ورغم احتمالية أن تكون تكاليف الصفقة الجديدة لتبادل الأسرى مع حماس مرتفعة ومكلفة لدولة الاحتلال بحسب القناة الـ13 العبرية، فإنها باتت ضرورة، حيث يدرس الجانب الإسرائيلي حاليًّا الثمن المحتمل أن يدفعه مقابل تلك الصفقة، وهو محور الاجتماعات التي عقدها مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وليام بيرنز مع مدير جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد)، ديفيد برنيع، ورئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، بجانب مسؤولين مصريين، في وارسو، قبل أيام.
وفي المقابل يجري رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، على رأس وفد من الحركة، مباحثات مع الاستخبارات المصرية في القاهرة اليوم، لبحث المسألة ذاتها، في ظل إصرار من المقاومة على عدم الدخول في مفاوضات بشأن تبادل الأسرى تحت القصف واستمرار القتال.
وفي الأخير.. وبينما كان البعض ينتظر هزيمة المقاومة واستسلامها، خداعًا بخطابات جنرالات الاحتلال العنترية، هاهي بأدائها وقدرتها على إدارة المعركة، وما توقعه من خسائر في صفوف جيش الاحتلال، تجبر حكومة الكابينت بعد شهرين ونصف على طرق أبواب الوسطاء لهدنة مؤقتة تلتقط فيها الأنفاس وتعيد حساباتها مرة أخرى، معلنة بشكل غير ضمني هزيمتها حتى الآن أمام الفصائل محدودة الإمكانيات والعتاد مقارنة بالجيش الذي لا يقهر.