ترجمة وتحرير: نون بوست
في منتصف أيلول/ سبتمبر 2018، قدّم لي مترجم جمال خاشقجي ومساعده مقالاً بعنوان “الأصوات العربية بحاجة إلى منصة دولية”. وتضمن المقال ملاحظةً من جمال مفادها: “كارين، ما رأيك؟ أنا بحاجة إلى مساعدتك”.
كان جمال شغوفًا بمنح الصحفيين العرب صوتًا أكبر في وسائل الإعلام العالمية. وقد كتب أن العرب الذين يعيشون في بلدان الصحافة فيها ليست حرّة ينتهي بهم الأمر إما إلى “الجهل أو التضليل، ويكونون غير قادرين على معالجة المسائل التي تؤثر على المنطقة وحياتهم اليومية بشكل مناسب، ناهيك عن مناقشتها علنًا”. كما أعرب عن أمله في أن تتمكن صحيفة “واشنطن بوست” من قيادة الطريق لتقديم نفس المنصة التي حظي بها للمقموعين والمضطهدين.
كان هذا آخر مقال تلقيته منه على الإطلاق. وفي الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2018، قُتل جمال بوحشية في القنصلية السعودية في إسطنبول على يد عملاء سعوديين. كان عنوان آخر مقال له “أكثر ما يحتاجه العالم العربي هو حرية التعبير”. وكان تحريره دون مساعدة جمال أحد أصعب الأمور التي قمت بها على الإطلاق – كان طيّ صفحة سنة من عمله مع صحيفة “واشنطن بوست” أشبه بتحضير جثة لجنازة عامة.
لعدة أشهر بعد ذلك، شجبت المؤسسات الإعلامية والمنظمات الديمقراطية وجماعات حرية الصحافة الأمريكية مقتل جمال خاشقجي واستعرضت التزامها بضمان سلامة الصحفيين وحماية الأصوات العربية المطالبة بالحرية والمعارضة. كانت منظمات مثل “فريدوم هاوس” ومؤسسة حقوق الإنسان ذات صوت مسموع في ذلك الوقت وقد أنتجت منظمة حقوق الإنسان في النهاية فيلمًا وثائقيًا طويلًا عن قضيته.
عند مقارنة الصمت الكامل أو النسبي لبعض هذه المؤسسات اليوم إزاء حصيلة القتلى التي حطّمت الأرقام القياسية في صفوف الصحفيين الذين يُغطّون الهجوم الإسرائيلي على غزة، من الصعب ألا نشعر كما لو أن المسيرات التي أقيمت لجمال كانت للاستعراض فقط.
وفقا للجنة حماية الصحفيين، قُتل حوالي 64 صحفيًا في الحرب بين إسرائيل وغزة، بينهم 57 فلسطينيا وأربعة إسرائيليين وثلاثة لبنانيين. وفي مقابلة مع مجلة “نيويوركر”، قالت رئيسة لجنة حماية الصحفيين جودي جينسبيرغ إن هذه الحرب “تمثل الصراع الأكثر دموية للصحفيين في سجلات لجنة حماية الصحفيين، من حيث توثيق الهجمات على الصحفيين”. ويعادل عدد الصحفيين الذين قُتلوا خلال شهرين في غزة تقريبًا عدد الصحفيين الذين قُتلوا في جميع أنحاء العالم في سنة 2022. ولا يقتصر الأمر على مقتل الصحفيين فحسب، بل يعتقد البعض أنه تم استهدافهم بشكل صريح حتى خارج غزة.
في 13 تشرين الأول/ أكتوبر، أدت غارة إسرائيلية في لبنان إلى مقتل صحفي وكالة “رويترز” عصام عبد الله وإصابة ستة آخرين. وتؤكد وكالة “رويترز” ووكالة الأنباء الفرنسية و”هيومن رايتس ووتش” ومنظمة العفو الدولية أن الضربة الإسرائيلية كانت على الأرجح متعمدة وبالتالي فهي جريمة حرب. ومن جهتها، قالت إسرائيل إن الغارة كانت في منطقة قتال نشطة وأن الحادثة “قيد المراجعة”.
على الرغم من أنه كان من المشجع رؤية صحفيين أمريكيين ينظّمون وقفات احتجاجية لتأبين زملائهم الفلسطينيين الذين قُتلوا، إلا أن غياب الغضب العام من جانب المؤسسات الصحفية كان واضحًا
في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر، قُتلت في لبنان المراسلة فرح عمر والمصور ربيع المعمري من قناة “الميادين” في بيروت. وحسب قناة الميادين، أطلقت طائرة حربية إسرائيلية صاروخين باتجاههما. وقال رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي إن هدف إسرائيل “هو إسكات الإعلام الذي يفضح جرائمها واعتداءاتها”.
واصل الصحفيون في المنطقة عملهم على الرغم من أن عائلاتهم معرضة للخطر أيضًا. وواصل مدير مكتب الجزيرة العربية في غزة وائل الدحدوح تقديم التقارير بعد أن علم في تشرين الأول/ أكتوبر أن زوجته وابنه وابنته وحفيده قتلوا في غارة جوية إسرائيلية. ويوم الجمعة، أصيب دحدوح نفسه – وقُتل الصحفي في قناة الجزيرة سامر أبو دقة – فيما ذكرت وسائل الإعلام أنه غارة إسرائيلية بطائرة بدون طيار.
أفاد أنس الشريف، صحفي آخر في قناة الجزيرة الناطقة بالعربية، بتلقيه تهديدات من الجيش الإسرائيلي لوقف عمله، وفي الأسبوع الماضي تعرض منزل عائلته في مخيم جباليا للاجئين للقصف، وقُتل والده البالغ من العمر 90 سنة.
تعدّ عمليات القتل هذه جزءًا من نمط الإفلات من العقاب عندما يتعلق الأمر بـ “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”. خلال العقدين السابقين قبل هجمات حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، سجّلت لجنة حماية الصحفيين مقتل حوالي 20 صحفيا بنيران الجيش الإسرائيلي بينهم 18 فلسطينيًا، ولم يكن أي منهم إسرائيليًا. وفي معظم هذه الحالات، حسب ما أفادت لجنة حماية الصحفيين، كان واضحًا أن الصحفيين يرتدون ملابس أو دروع واقية للجسم أو كانوا يقودون مركبات تشير إلى أنهم “صحفيون”.
على الرغم من أنه كان من المشجع رؤية صحفيين أمريكيين ينظّمون وقفات احتجاجية لتأبين زملائهم الفلسطينيين الذين قُتلوا، إلا أن غياب الغضب العام من جانب المؤسسات الصحفية كان واضحًا، وبعد ذلك يأتي العقاب.
في صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” تم إيقاف الموظفين الذين تجرأوا على إظهار التضامن مع الصحفيين في غزة عن تغطية الحرب بعد التوقيع على رسالة مفتوحة تدعم زملاءهم الصحفيين وتنتقد التغطية الغربية لتصرفات إسرائيل. قالت الصحيفة إن التوقيع على مثل هذه الرسالة – التي تدرج حتى الآن أسماء حوالي 1500 صحفي سابق وتم التحقق منهم – كان انتهاكًا لسياستها الأخلاقية. ورغم عدم وجود حظر على التوقيع على خطابات مفتوحة في تلك السياسة، ذكرت سيمافور أن رئيس تحرير صحيفة “لوس أنجلوس تايمز”، كيفن ميريدا، ذكّر الموظفين بأن السياسة تنص على ما يلي: “يجب ألا يكون القارئ المحايد للتغطية الإخبارية لصحيفة التايمز قادرًا على تمييز الآراء الخاصة لأولئك الذين ساهموا في تلك التغطية”.
حسب لجنة حماية الصحفيين، لم تكن هناك مساءلة حقيقية لإسرائيل عندما يتعلق الأمر بقتل الصحفيين
وفي ملحق، أشار مؤلفو الرسالة المفتوحة إلى أنه بعد النشر الأولي للرسالة طلب أكثر من 30 صحفيًا “إزالة توقيعاتهم خوفًا من انتقام أرباب العمل. ومن بين أرباب العمل هؤلاء وكالة “أسوشيتد برس”، وصحيفة “واشنطن بوست”، و”بلومبرغ”، و”ماكلاتشي”، و”شيكاغو تريبيون”، و”لايست” و”موديستو بي”، وراديو “ك سي آر دبليو” وقناة “كيه كيو إي دي”.
ماذا عن إدارة بايدن وتعهداتها السابقة بدعم حرية الصحافة؟ في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر، سأل جيك تابر، مراسل شبكة “سي إن إن”، وزير الخارجية أنتوني بلينكن عن عدد القتلى من الصحفيين الفلسطينيين الذين يُفترض أنهم قُتلوا في غارات الجيش الإسرائيلي. فأجاب بلينكن “نريد التأكد من التحقيق في هذا الأمر، وأننا نفهم ما حدث وهناك مساءلة”.
يا له من رد فعل سخيف. فحسب لجنة حماية الصحفيين، لم تكن هناك مساءلة حقيقية لإسرائيل عندما يتعلق الأمر بقتل الصحفيين. وقد كانت العواقب مدمرة، ذلك أن ذبح الصحفيين الفلسطينيين يشكّل محوًا لأولئك الذين يحاولون تسجيل أول مسودّة تقريبية للتاريخ في غزة. وكما هو الحال مع تدمير الفن والسجلات، فإن قتل الصحفيين يمثّل اعتداءً على الذاكرة والحقيقة والثقافة الفلسطينية. والتصريح الضمني الممنوح لإسرائيل للقضاء على الأهداف المدنيّة، بما في ذلك الصحفيين الذين لا تحبهم، يعرّض حياة أي شخص يغطي المنطقة للخطر.
لو كان جمال هنا لشاركته حزني على الواقع المرير الذي نعيشه اليوم. ما لم تغير مؤسساتنا مسارها، فإن الحملة التي تشنها إسرائيل ضد غزة من الممكن أن تكون ـ من بين نتائج رهيبة أخرى ـ بمثابة اللحظة التي تنتهي فيها أسطورة الالتزام الأميركي بحرية الصحافة العالمية.
المصدر: واشنطن بوست